(ليس عليكم جناح) في (أن تبتغوا) تطلبوا (فضلاً) رزقا (من ربكم) بالتجارة في الحج نزل رداً لكراهتهم ذلك (فإذا أفضتم) دفعتم (من عرفات) بعد الوقوف بها (فاذكروا الله) بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء (عند المشعر الحرام) هو جبل في آخر المزدلفة يقال له قُزَح وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدّا. رواه مسلم (واذكروه كما هداكم) لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل (وإن) مخففة (كنتم من قبله) قبل هداه (لمن الضالين)
قوله تعالى ليس عليكم جناح الآية روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر إنا نكري فهل لنا من حج فقال ابن عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنتم حجاج
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: ليس عليكم أيها المؤمنون جناح.و (الجناح)، الحرج، كما:-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. وقوله: "أن تبتغوا فضلا من ربكم"، يعني: أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم. يقال منه: ابتغيت فضلا من الله- ومن فضل الله- أبتغيه ابتغاء، إذا طلبته والتمسته، وبغيته أبغيه بغيا، قال عبد بني الحسحاس:
بغاك، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا
يعني: طلبك والتمسك. وقيل إن معنى ابتغاء الفضل من الله ، التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا، يلتمسون البر بذلك. فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء. ذكر من قال ذلك: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال، حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: في الموسم. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن ذر قال، سمعت مجاهدا يحدث قال: كان ناس لا يتجرون أيام الحج، فنزلت فيهم: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو ليلى،عن بريدة في قوله تبارك وتعالى: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: إذا كنتم محرمين، أن تبيعوا وتشتروا.حدثنا طليق بن محمد الواسطي قال، أخبرنا أسباط قال، أخبرنا الحسن بن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال، قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة قال: كانت تقرأ هذه الآية: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)
حدثنا عبد الحميد قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصوربن المعتمر في قوله:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم "، قال: هو التجارة في البيع والشراء والاشتراء، لا بأس
حدثت عن أبي هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ).حدثنا أبوكريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله جل ثناؤه: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ". حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر- وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة- فقرأ ابن عمر: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ". حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم- وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم- قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال، كانوا لا يتجرون في أيام الحج، فنزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قرأ: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ).
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء قوله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)، هكذا قرأها ابن عباس. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم "، قال: التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة، أحلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهدمثله.حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعا، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين، أن يعرجوا على حوائجهم، ويبتغوا من فضل ربهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن الزبير يقرأ: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج).حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال، قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك، حتى نزلت: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ).حدثنا أحمد بن حازم والمثنى قالا، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون الداج فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم "، فحجوا.حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان ناس يحجون ولا يتجرون، حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد.
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، هي التجارة. قال: اتجروا في المواسم.حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم "، قال: كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم، يقولون: أيام ذكر! فأنزل الله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم لله)، فحجوا.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه
كان يقرؤها: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ).حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم قال: لا بأس بالتجارة في الحج، ثم قرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ".حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قوله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة، ولا ينتظرون لحاجة، وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة. فأحل الله ذلك كله، أن يعرجوا على حاجتهم، وأن يطلبوا فضلا من ربهم.حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر قال: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نكرى، فيزعمون أنه ليس لنا حج! قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة، ولم يعرجوا على كسير ولا على ضالة، فأحل الله ذلك فقال: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية.حدثني سعيد به الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمروبن دينار، عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج).قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فإذا أفضتم"، فإذا رجعتم من حيث بدأتم. ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار: فيض ، لجمعه القداح، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي:
فقلت لها: ردي إليه جنانه! فردت كما رد المنيح مفيض
ثم اختلف أهل العربية في عرفات ، والعلة التي من أجلها صرفت وهي معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة، أم هي لجماعة بقاع؟.
فقال بعض نحوي البصريين: هي اسم كان لجماعة مثل مسلمات، ومؤمنات سميت به بقعة واحدة، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة، تركا منهم له على أصله. لأن التاء فيه صارت بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة النون فلما سمي به ترك على حاله، كما يترك المسلمون إذا سمي به على حاله. قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمى به، ويشبه التاء بهاء التأنيث، وذلك قبيح ضعيف، واستشهدوا بقول الشاعر:
تنورتها من أذرعات، وأهلها بيثرب، أدنى دارها نظر عالي
ومنهم من لا ينون ذرعات وكذلك: عانات ، وهو مكان. وقال: بعض نحو-ي الكوفيين: إنما انصرفت عرفات ، لأنهن على جماع مؤنث بالتاء. قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث بالتاء، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة، انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع الا جماعا، ثم تجعله بعد ذلك واحدا. وقال آخرون منهم: ليست رفات حكاية، ولا هي اسم منقول، ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه بعرفات ، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب التاء في ذلك، لأنه موضع. ولو كان محكيا، لم يكن ذلك فيه جائزا، لأن من سمى رجلا مسلمات أو مسلمين لم ينقله في الاعراب عما كان عليه في الأصل، فلذلك خالف: عانات، وأذرعات ، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية. قال أبو جعفر واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات عرفات . فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه، لما راها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت!! ، فسميت رفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي قال: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج فأجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه، أمره الله أن يخرج إلى عرفات، فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه فلم يعرفه، جاز، فلذلك سمي: ذا المجاز. ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال: قد عرفت! فسمي: عرفات . فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف الى جمع، فسميت: المزدلفة، فوقف حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سليمان التيمي، عن نعيم بن أبي هند قال: لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات، قال: عرفت!، فسميت عرفات لذلك.حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت عرفة.وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن مسلم القرشي، عن أبي طهفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا هذا موضع كذا. فيقول: قد عرفت! ، فلذلك سميت عرفات
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: إنما سميت عرفة، أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقوك: عرفت، عرفت! فسمي عرفات.حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف، حتى يأتي الجبل جبل، عرفة. وقال ابن أبي نجيح: عرفات، النبعة و النبيعة و ذات النابت، وذلك قول الله: "فإذا أفضتم من عرفات"، وهو الشعب الأوسط. وقال زكريا: ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة، فهو من عرفة، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة. وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك، نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع. فإذا صرف، ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه، "فاذكروا الله"، يعني بذلك: الصلاة والدعاء عند المشعر الحرام. وقد بينا قبل أن المشاعر هي المعالم، من قول القائل: شعرت بهذا الأمر، أي علمت،فـ المشعر، هو المعلم. سمي بذلك، لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد:- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح قال: يستحب للحاج أن يصلي في منزاله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال: "فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم " فأما المشعر: فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر. وليس مأزما عرفة من المشعر. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي رائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع، فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله: "فاذكروا الله عند المشعر الحرام "، قال: هو الجبل وما حوله.حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر.حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبيرمثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري- وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان- عن السدي، عن سعيد بن جبير قال: سألته عن المشعر الحرام فقال: ما بين جبلي المزدلفة.حدثنا الحسن قاك، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها، قال: معمر: وقاله قتادة.حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير "فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: ما بين جبلي المزدلفة، هو المشعر الحرام.حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا أبي، عن أبي إسحاق، عن عمروبن ميمون قال: سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام فقال: إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال: فانطلت معه فوقفنا، حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه، حتى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه! قال: كلها مشاعر إلى أقصى الحرم.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي قال سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام قال: إن تلزمني أركه. قال: فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك! قال: أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه! قال: حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، فهو مشعر إلى مكة. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام فقال: الزمني. فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج قال، قال مجاهد المشعر الحرام المزدلفة كلها.حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما. قال: قف بينهما إن شئت، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر!. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المشعر الحرام، المزدلفة كلها.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وذلك ليلة جمع. قال قتادة: كان ابن عباس يقول: ما بين الجبلين مشعر. حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة، ويقال: هو قرن قزح. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع "فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وهي المزدلفة، وهي جمع. وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:- حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود قال: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي قال: سعت سعيد بن جبير يقول: المشعر الحرام ما بين جبلي مزدلفة. حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال: ما أدري. وسألت ابن عباس فقال: ما بين الجبلين. حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الجبيل وما حوله مشاعر. حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير قال: وقفت مع مجاهد على الجبيل فقال: هذا المشعر الحرام.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الجبيل وما حوله مشاعر. قال أبو جعفر: وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة، المثنى حدثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف إلا عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسرا". حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم، عن حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن الزبير أنه قال: كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن حجاج قال، أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك عن سفيان، عن هشام بن عروة قال: قال عبد الله بن الزبير في خطبته: تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. قال أبو جعفر: غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام، على قزح وما حوله، لأن:-
أبا كريب حدثنا قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي، عن عبيدالله بن أبي رافع، عن علي، قال: "لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم بنحوه. حدثنا هناد وأحمد الدولابي قالا، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، عن ابن الحويرث قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس، أصبحوا! أيها الناس، أصبحوا! ثم دفع. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك قال: حججت مع ابن عمر، فلما أصبح بجمع صلى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح، ثم دفع الإمام، فدفع بدفعته. وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة: هذا كله مشاعر إلى مكة، فإن معناه: أنها معالم من معالم الحج، ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج، لأ أن كل ذلك المشعرالحرام الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة، قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع. وأما قول عبد الرحمن بن الأسود: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام، فلأنه يحتمل أن يكون أراد. لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها، حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك، وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى اخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم. قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام، بالثناء عليه والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له، والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله، بعد الذي كنتم فيما كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق، وبعد الضلالة، كذكره إياكم بالهدى حتى استنقذكم من النار به، بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله : "كما هداكم". وأما قوله: "وإن كنتم من قبله لمن الضالين"، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل إن إلى تأويل
ما، وتأويل اللام التي في لمن إلى لا. فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم، من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه، إلا من الضالين. ومنهم من يوجه تأويل إن إلى قد. فمعناه، على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون، كما ذكركم بالهدى فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.
قوله تعالى : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى :"جناح" أي إثم ، وهو اسم ليس . "أن تبتغوا" في موضع نصب خبر ليس ، أي في أن تبتغوا . وعلى قول الخليل و الكسائي أنها في موضع خفض . ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة ، المعنى : لا جناح عليكم في ان تبتغوا فضل الله . وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى : "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" . والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج .
الثانية : إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه ، خلافاً للفقراء . أما إن الحج دون تجارة أفضل ، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها . روى الدار قطني في سننه " عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر :إني رجل أكرى في هذا الوجه ، وإن ناساً يقولون : إنه لا حج لك . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني ، فسكت حتى نزلت هذه الآية : "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لك حجا" .
قوله تعالى : "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين" . فيه ست عشرة مسألة .
الأولى : قوله تعالى : "فإذا أفضتم" أي اندفعتم . ويقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه . ورجل فياض ، أي مندفق بالعطاء . قال زهير :
وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضله
وحديث مستفيض ، أي شائع .
الثانية : قوله تعالى : "من عرفات" قراءة الجماعة عرفات بالتنوين ، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات ، لأن التنوين هنا ليس فرقاً بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه ، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين . قال النحاس : هذا الجيد . وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات ، يقول : هذه عرفات يا هذا ، ورأيت عرفات يا هذا ، بكسر التاء وبغير تنوين ، قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين . وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء ، تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة . وأنشدوا :
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى نظر عال
والقول الأول أحسن ، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون . وعرفات : اسم علم ، سمي بجمع كأذرعات . وقيل : سمي بما حوله ، كأرض سباسب . وقيل : سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها . وقيل :لأن آدم لما هبط وقع بالهند ، وحواء بجدة ، فاجتمعا بعد طول الطلب لعرفات يوم عرفة وتعارفا ، فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات ، قاله الضحاك . وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى : "وأرنا مناسكنا" . قال ابن عطية : والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر اسماء البقاع . وعرفة هي نعمان الأراك ، وفيها يقول الشاعر :
تزودت من نعمان عود اراكة لهند ولكن من يبلغه هندا
وقيل : هي مأخوذة من العرف وهو الطيب ، قال الله تعالى : "عرفها لهم" أي طيبها ، فهي بخلاف منى التي الفروث والدماء ، فلذلك سميت عرفات . ويوم الوقوف يوم عرفة . وقال بعضهم :أصل هذين الأسمين من الصبر ، يقال رجل عارف ، إذا كان صابراً خاشعاً . ويقال في المثل : النفس عروف وما حملتها تتحمل . قال :
فصبرت عارفة لذلك حرة
أي نفس صابرة .
وقال ذو الرمة :
عروف لما خطت عليه المقادر
أي صبورة على قضاء الله ، فسمي بهذا الإسم لخضوع الحاج وتذللهم ، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد ، لإقامة هذه العبادة .
الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال . وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل ، إلا مالك بن أنس فإنه قال : لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً . وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه . والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى : "فإذا أفضتم من عرفات" ولم يخص ليلا من نهار ، وحديث " عروة بن مضرس قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جمع ، فقلت يا رسول الله ، جئتك من جبلي طيء ، أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله إن تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد قضى تفثه وتم حجه" . أخرجه غير واحد من الأئمة ، منهم أبو داود و النسائي و الدار قطني واللفظ له . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقال أبو عمر : حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح ، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس ، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن ابي هند وزكريا بن ابي زائدة وعبد الله بن ابي السفر ومطرف ، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام . وحجة مالك من السنة الثابتة : حديث جابر الطويل ، خرجه مسلم ، وفيه :
فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص . وأفعاله على الوجوب ، لا سيما في الحج وقد قال : "خذوا عني مناسككم" .
الرابعة :واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج ، فقال عطاء و سفيان الثوري و الشافعي و أحمد و أبو ثور واصحاب الرأي وغيرهم : عليه دم . وقال الحسن البصري :عليه هدي . وقال ابن جريج :عليه بدنة . وقال مالك : عليه حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل ، وهو كمن فاته الحج . فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي : لا شيء عليه ، وهو قول أحمد وإسحاق وداود ، وبه قال الطبري . وقال أبو حنيفة وأصحابه و الثوري : لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس ، وبذلك قال أبو ثور .
الخامسة : ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس ، وأردف أسامة بن زيد ، وهو محفوظ في حديث جابر الطويل .
وحديث علي ، وفي حديث ابن عباس أيضاً . " قال جابر : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه " ، الحديث . فإن لم يقدر على الركوب وقف قائماً على رجليه داعياً ، ما دام يقدر ، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف ، وفي الوقوف راكباً مباهاة وتعظيم للحج "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك :الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائماً ، قال : ومن وقف قائماً فلا بأس أن يستريح .
السادسة : ثبت في صحيح مسلم وغيره " عن أسامة بن زيد . أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عرفة يسير العتق فإذا وجد فجوة نص" . قال هشام بن عروة : والنص فوق العنق . وهذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم ، لأن في استعجال السير إلى المزدلفة الصلاة بها ، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة ، وتلك سنتها ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
السابعة : ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف ، قال صلى الله عليه وسلم :
"ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف" . رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل . وفي موطأ مالك أنه بلغه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر " . قال ابن عبد البر : هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن ابي طالب ، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، وبطن محسر من المزدلفة ، وذلك نقلها الحفاظ الثقات الأثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن ابيه عن جابر . قال أبو عمر : واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة ، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دماً وحجه تام . وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك . وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة . وروي عن ابن عباس قال : من أفاض من عرنة فلا حج له . وهو قول ابن القاسم وسالم ، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي ، قال وبه أقول : لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به . قال ابن عبد البر : الاستثناء ببطن عرفة من عرفة لم يجىء مجيئاً تلزم حجته ، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع . وحجه من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف . وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها ، وهو بغربي مسجد عرفة ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة . وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل ، وعرنة في الحرم . قال أبو عمر : وأما بطن محسر فذكر وكيع : حدثنا سفيان عن ابي الزبير عن جابر :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في بطن محسر" .
الثامنة : ولابأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة ، تشبيهاً بأهل عرفة . روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة . يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة . وقال موسى بن ابي عائشة :رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه . وقال الأثرم : سالت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار ، يجتمعون يوم عرفة ، فقال: أرجو ألا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد : الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع ، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .
التاسعة : في فضل يوم عرفة . يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفر الله فيه الذنوب العظام ، ويضعاف فيه الصالح من الأعمال ، قال صلى الله عليه وسلم :
"صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية" . أخرجه الصحيح . وقال صلى الله عليه وسلم :
"أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" . وروى الدار قطني عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أرد هؤلاء" . وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر . قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة" . قال أبو عمر : روى هذ الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن ابي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن ابيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن ابيه غيره وليس بشيء ، والصواب ما في الموطأ . وذكر الترمذي الحكيم في نودار الأصول : حدثنا بن نعيم التميمي أو روح قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن ابيه عن جده عباس بن مرداس .
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة ، وأكثر الدعاء فأجابه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها . قال : يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته وتغفر لهذا الظالم . فلم يجبه تلك العشية ، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه : إني قد غفرت لهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال : تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر" . وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن ابي الزناد عن الأعرج عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له" . قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظاً عنه إلا من هذا الوجه ، وابو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام .
العاشرة :استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة . روى الأئمة واللفظ لـلترمذي عن ابن عباس :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة ، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب" . قال حديث حسن صحيح . وقد " روي عن ابن عمر قال : حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ـ يعني يوم عرفة ـ ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه "، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء ، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة . وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول ، وزاد في آخره : ومع عثمان فلم يصمه ، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه ، حديث حسن . وذكره ابن المنذر . وقال عطاء في صوم يوم عرفة . أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف . وقال يحيى الأنصاري : يجب الفطر يوم عرفة . وكان عثمان بن ابي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة . قال ابن المنذر : الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي ، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصوم بغير عرفة أحب إلي " لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال : يكفر السنة الماضية والباقية" . وقد روينا عن عطاء أنه قال : من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم .
الحادية عشرة : في قوله تعالى : "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام . ويسمى جمعاً لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء ، قاله قتادة . وقيل : لاجتماع آدم فيه مع حواء ، وازدلف إليها ، أي دنا منها ، وبه سميت المزدلفة . ويجوز أن يقال : سميت بفعل أهلها ، لأنهم يزدلفون إلى الله ، أي يتقربون بالوقوف فيها . وسمي مشعراً من الشعار وهو العلامة ، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحج . ووصف بالحرام لحرمته .
الثانية عشرة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً . وأجمع أهل العلم ـ لا اختلاف بينهم ـ أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء . واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعاً ، فقال مالك : من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها ، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد :
"الصلاة أمامك" . قال ابن حبيب : من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم ، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال ، لقوله عليه السلام : "الصلاة أمامك" وبه قال أبو حنيفة . وقال أشهب :لا إعادة عليه ، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها ، وبه قال الشافعي ، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن ، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما ، فلم يكن ذلك شرطاً في صحتهما ،وإنما كان على معنى الاستحباب ، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة . واختار ابن المنذر هذا القول ، وحكاه عن عطاء بن ابي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد و إسحاق و ابي ثور ويعقوب . وحكى عن الشافعي أنه قال : لا يصلي حتى يأتي المزدلفة ، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما .
الثالثة عشرة : ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب : لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق ، لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق ، لقوله عليه السلام :"الصلاة أمامك" ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق . ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق ، فلا يجوز أن يؤتى بها قبله ، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه .
الرابعة عشرة : وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام ، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز : من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها . وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام : إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما . وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة ، إلا صلى كل صلاة لوقتها . فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره ، وراعى مالك الوقت دون المكان ، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان ، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان ، وكان مراعاة وقتها المختار أولى .
الخامسة عشرة : اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين : أحدهما : الأذان والإقامة . والآخر : هل يكون جمعهما متصلاً لا يفصل بينهما بعمل ، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك ، فأما الأذان والإقامة فثبت :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين" . أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل ، وبه قال أحمد بن حنبل و أبو ثور و ابن المنذر . وقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين ، وكذلك الظهر والعصر بعرفة ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال أبو عمر : لا أعلم فيما قاله مالك حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، ولكنه روى عن عمر بن الخطاب ، وزاد ابن المنذر ابن مسعود . ومن الحجة لـ مالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعاً وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحداً وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ، لأن ليس واحدة منهما تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم . وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة . قالوا :إنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم . قالوا : وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم ، وإذا أذن أقام . قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر ، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال :كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين ، وفي طريق أخرى وصلى بأذان وإقامة ، ذكره عبد الرزاق . وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعاً بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما ، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري . وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال :
"جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة" وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعاً بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة . وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر :
"أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، لم يجعل بينهما شيئاً" . وروي مثل هذا مرفوعاً من حديث خزيمة بن ثابت ، وليس بالقوي . وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن ابي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط . وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر ، وهو القول الأول وعليه المعول . وقال آخرون : تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما . وممن قال ذلك الشافعي واصحابه وإسحاق و أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، واحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئاً" . قال أبو عمر : والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف فيه ، فهو أولى ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع .
السادسة عشرة : وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت الصلاة فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً" . في رواية : ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا . وقد ذكرنا آنفاً عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين ، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع . وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة : أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته ؟ فقال : أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة ، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك ، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته . وقال أشهب في كتبه :له حط رحله قبل الصلاة ، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك ، لما بدابته من الثقل ، أو لغير ذلك من العذر . وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من النسة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين ، وفي حديث أسامة : ولم يصل بينهما شيئاً .
السابعة عشرة : وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركناً في الحج عند الجمهور . واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع ، فقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، ومن قام أكثر ليلة فلا شيء عليه ، لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ، ولا فرض ، ونحوه قول عطاء و الزهري و قتادةو سفيان الثوري و أحمد و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت . وقال الشافعي إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى ، والفدية شاة . وقال عكرمة و الشعبي و النخعي و الحسن البصري : الوقوف بالمزدلفة فرض ، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة . وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الأوزاعي . وروي عن الثوري مثل ذلك ، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة . وقال حماد بن أبي سليمان : من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج ، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلاً . واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقول الله تعالى : :"فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" ، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : "من أدرك جمعاً فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له" . ذكره ابن المنذر . وروى الدار قطني " عن عروة بن مضرس : قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له : يا رسول الله ، هل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه" . قال الشعبي : من لم يقف بجمع جعلها عمرة . وأجاب من احتج للجمهور بأن قال : أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت ، إذ ليس ذلك مذكوراً فيها ، وإنما فيها مجرد الذكر . وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجة تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك . قال أبو عمر :وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع ، وأن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك ، ممن يقول إن ذلك فرض ، ومن يقول إن ذلك سنة . وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة ، ومثله حديث " عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه" . رواه النسائي قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان ـ يعني الثوري ـ عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت ... ، فذكره . ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" . وقوله في حديث عروة : "من صلى صلاتنا هذه" . فذكر الصلاة بالمزدلفة ، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام . فلما ان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك . قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : "واذكروه كما هداكم" كرر الأمر تأكيداً ، كما تقول : ارم ارم . وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام . والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص . وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال : "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" . والكاف في كما نعت لمصدر محذوف ، و ما مصدرية أو كافة . والمعنى : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ، واذكروه كما علكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه . و أن مخففة من الثقيلة ، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، قاله سيبويه . الفراء : نافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، كما قال :
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمن
أو بمعنى قد ، أي قد كنتم ، ثلاثة أقوال . والضمير في قبله عائد إلى الهدى . وقيل إلى القرآن ، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين . وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم ، كناية عن غير مذكور ، والأول أظهر والله أعلم .
قال البخاري: حدثنا محمد, أخبرني ابن عيينة عن عمرو , عن ابن عباس, قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية, فتأثموا أن يتجروا في الموسم, فنزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج. وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به. ولبعضهم فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فأنزل الله هذه الاية, وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس, قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز, فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الاية, وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج, يقولون: أيام ذكر , فأنزل الله: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده, وهكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقال وكيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء, عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج, وقال عبد الرحمن, عن ابن عيينة, عن عبد الله بن أبي يزيد: وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم, وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا شبابة بن سوار, حدثنا شعبة عن أبي أميمة, سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة, فقرأ ابن عمر "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" وهذا موقوف, وهو قوي جيد, وقد روي مرفوعاً, قال أحمد: حدثنا أسباط , حدثنا الحس بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي, قال: قلت لابن عمر: إن نكري فهل لنا من حج ؟ قال: أليس تطوفون بالبيت, وتأتون المعرف, وترمون الجمار , وتحلقون رؤوسكم ؟ قال: قلنا: بلى, فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فسأله عن الذي سألتني, فلم يجبه حتى نزل عليه جبرائيل بهذه الاية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم, فقال أنتم حجاج. وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب, عن رجل من بني تميم, قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر, فقال: يا أبا عبد الرحمن, إنا نقوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج, قال: ألستم تحرمون كا يحرمون, وتطوفون كما يطوفون, وترمون كما يرمون ؟ قال: بلى, قال فأنت حاج, ثم قال ابن عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه, فنزلت هذه الاية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق به, وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعاً, وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعاً, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي, قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة, وإن أناساً يزعمون أنه لا حج لنا, فهل ترى لنا حجاً ؟ قال: ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك ؟ قال: قلت: بلى, قال فأنتم حجاج ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه, أو قال: فلم يرد شيئاً حتى نزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فدعا الرجل فتلاها عليه, وقال "أنتم حجاج" وكذا رواه مسعود بن سعد وعبد الواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب مرفوعاً وقال ابن جرير: حدثني طليق بن محمد الواسطي, حدثنا أسباط هو ابن محمد, أخبرنا الحسن بن عمرو هو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي, قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري, فهل لنا حج ؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت, وتأتون المعرف, وترمون الجمار, وتحلقون رؤوسكم ؟ قلنا: بلى, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه, فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الاية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" إلى آخر الاية, وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم حجاج" وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق, حدثنا أبو أحمد, حدثنا غندر عن عبد الرحمن بن المهاجر عن أبي صالح مولى عمرو قال: قلت: يا أمير المؤمنين, كنتم تتجرون في الحج ؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وقوله تعالى: "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" إنما صرف عرفات وإن كان علماً على مؤنث, لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات, سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف, اختاره ابن جرير, وعرفة موضع الوقوف في الحج, وهي عمدة أفعال الحج, ولهذا روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات ـ ثلاثاً ـ فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك, وأيام منى ثلاثة, فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه, ومن تأخر فلا إثم عليه" ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس, وقال "لتأخذوا عني مناسككم" وقال في هذا الحديث "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي, رحمهم الله, وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة, واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي, قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله, إني جئت من جبل طيء, أكللت راحلتي, وأتعبت نفسي, والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه, فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه, فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً, فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الإمام أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي, ثم قيل: إنما سميت عرفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج, قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فحج به, حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت, وكان قد أتاها مرة قبل ذلك, فلذلك سميت عرفة وقال ابن المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال: إنما سميت عرفة لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت عرفت, فسميت عرفات, وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي مجلز , فالله أعلم, وتسمى عرفات المشعر الحرام, والمشعر الأقصى, وإلال على وزن هلال, ويقال للجبل في وسطها: جبل الرحمة, قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له إلال إلى تلك الشراج القوابل
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة, حدثنا أبو عامر عن زمعة هو ابن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال دفعوا, فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث زمعة بن صالح وزاد: ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس, حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الاخر, دفع, وهذا حسن الإسناد, وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة, قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال "أما بعد ـ وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد ـ فإن هذا اليوم الحج الأكبر, ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجهها, وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس, وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها, وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفاً هدينا هدي أهل الشرك", هكذا رواه ابن مردويه, وهذا لفظه, والحاكم في مستدركه, كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي عن عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج, وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه من له رؤية بلا سماع, وقال وكيع, عن شعبة, عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي, عن المعرور بن سويد, قال: رأيت عمر رضي الله عنه حين دفع عن عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع, وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل الذي في صحيح مسلم, قال فيه: فلم يزل واقفاً ـ يعني بعرفة ـ حتى غربت الشمس, وبدت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص, وأردف أسامة خلفه, ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله, ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة" كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة, فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين, ولم يسبح بينهما شيئاً, ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر, حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة, ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام, فاستقبل القبلة, فدعا الله وكبره وهلله ووحده, فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً, فدفع قبل أن تطلع الشمس, وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفع ؟ قال: كان يسير العنق, فإذا وجد فجوة نص. والعنق هو انبساط السير, والنص فوقه, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي فيما كتب إلي عن أبيه أو عمه, عن سفيان بن عيينة قوله "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهي الصلاتين جميعاً, وقال أبو إسحاق السبيعي, عن عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام, فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة, قال: أين السائل عن المشعر الحرام, هذا المشعر الحرام, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر , عن الزهري, عن سالم, قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها. وقال هشيم, عن حجاج, عن نافع, عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" قال: فقال: هذا الجبل وما حوله. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن المغيرة, عن إبراهيم, قال: فرآهم ابن عمر يزدحمون على قزح, فقال: على ما يزدحم هؤلاء, كل ههنا مشعر. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة ؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر, قال: وليس المأزمان عرفة من المزدلفة, ولكن مفاضاهما, قال: فقف بينهما إن شئت, قال: وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس. (قلت) والمشاعر هي المعالم الظاهرة, وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام, لأنها داخل الحرم, وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به, كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث عروة بن مضرس ؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم ؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الاخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا, والله أعلم. وقال عبد الله بن المبارك, عن سفيان الثوري, عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "عرفة كلها موقف, وارفعوا عن عرنة, وجمع كلها موقف إلا محسراً" هذا حديث مرسل, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا سعيد بن عبد العزيز حدثني سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "كل عرفات موقف, وارفعوا عن عرنة, وكل مزدلفة موقف, وارفعوا عن محسر, وكل فجاج مكة منحر, وكل أيام التشريق ذبح" وهذا أيضاً منقطع, فإن سليمان بن موسى هذا, وهو الأشدق, لم يدرك جبير بن مطعم, ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبد العزيز, عن سليمان, فقال الوليد, عن جبير بن مطعم عن أبيه, وقال سويد عن نافع بن جبير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره, والله أعلم.
وقوله "واذكروه كما هداكم" تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام, ولهذا قال "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قيل: من قبل هذا الهدى وقبل القرآن وقبل الرسول, والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
قوله: 198- "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فيه الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى: "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" أي لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلاً من ربكم. مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ماء حتى ينصب من نواحيه، ورجل فياض: أي متدفقة يداه بالعطاء، ومعناه: أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا. وعرفات: اسم لتلك البقعة: أي موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء تشبيهاً بتاء فاطمة، وأنشدوا:
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وقال في الكشاف: فإن قلت هلا منعت الصرف، وفيها السببان التعريف والتأنيث، قلت: لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها انتهى، وسميت عرفات لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: إن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة. لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير، وسمي المشعر مشعراً من الشعار، وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل: المراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعاً. وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاج بينهما فيها. والمشعر: هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر. قوله: "واذكروه كما هداكم" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية أو كافة أي اذكروه ذكراً حسناً، كما هداكم هداية حسنة، وكرر الأمر بالذكر تأكيداً- وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص- وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم، وإن في قوله: "وإن كنتم من قبله" مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر- وقيل هي بمعنى قد: أي قد كنتم، والضمير في قوله: "من قبله" عائد إلى الهدى، وقيل: إلى القرآن.
وقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "الحج أشهر معلومات" شوال وذو القعدة وذو الحجة. وأخرج الطبراني في الأوسط أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وأخرج الخطيب عن ابن عباس مرفوعاً مثله أيضاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثله. وأخرج الشافعي في الأم وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر موقوفاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وعطاء والضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طرق ابن عمر في قوله: "الحج أشهر معلومات" قال: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وأخرجوا إلا الحاكم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس من طرق مثله. وأخرج ابن المنذر والدارقطني والطبراني والبيهقي عن عبد الله بن الزبير مثله أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد وإبراهيم مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمر في قوله: "فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل فيهن بحج. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الفرض: الإحرام. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير قال: الإهلال. وأخرج عنه ابن المنذر والدارقطني والبيهقي قال: فرض الحج الإحرام. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرض الإهلال. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى: "الحج أشهر معلومات". وأخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" قال: "الرفث: التعريض للنساء بالجماع، والفسوق: المعاصي كلها، والجدال: جدال الرجل صاحبه". وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا رفث: لا جماع، ولا فسوق: المعاصي والكذب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال: الرفث الجماع، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: الرفث: غشيان النساء، والفسوق: السباب، والجدال: المراء. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وروي نحو ما تقدم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زاداً آخر، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال: كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد فأمرهم الله أن يتزودوا. وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدم عن الصحابة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ويقولون: أيام ذكر الله، فنزلت "ليس عليكم جناح" الآية. وقد أخرج نحوه عنه البخاري وغيره. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة التميمي قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وبين الصفا والمروة، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قلت: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية وقال: وأنتم حجاج. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه قرأها كما قرأها ابن عباس. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن ابن مسعود قرأها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إنما سمي عرفات لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليه السلام حين رأى المناسك عرفت. وأخرج مثله ابن أبي حاتم عن ابن عمر. وأخرج مثله عبد الرزاق وابن جرير عن علي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه سئل عن المشعر الحرام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أنه قال: المشعر الحرام: المزدلفة كلها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عنه قال: هو الجبل وما حوله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه قال: ما بين الجبلين الذي بجمع مشعر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن الزبير في قوله: "واذكروه كما هداكم" قال: ليس هذا بعام. هذا لأهل البلد كانوا يفيضون من جمع ويفيض سائر الناس من عرفات، فأبى الله لهم ذلك، فأنزل: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس". وأخرج عبد بن حميد عن سفيان في قوله: "وإن كنتم من قبله" قال: من قبل القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قال: لمن الجاهلين.
198. قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " في مواسم الحج، قرأ ابن عباس كذا، وروى عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري في هذا الوجه، يعني إلى مكة، فيزعمون أن لا حج لنا، فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قلت بلى، قال: أنت حاج: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية " ليس عليكم جناح " أي حرج " أن تبتغوا فضلاً " أي رزقاً " من ربكم " يعني بالتجارة في مواسم الحج " فإذا أفضتم " دفعتم، والإفاضة: دفع بكثرة وأصله من قول العرب: أفاض الرجل ماء أي صبه " من عرفات " هي جمع عرفة، جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف واليوم عرفة فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت؟ فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة، وقال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات، وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند القعبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية، فرماه وكبر فطار، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، أي قرب إلى جمع، فسمي المزدلفة.
وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر، أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان؟ فسمي اليوم يوم التروية، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة، وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم، وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب، وسمي منىً لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيباً وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة.
قوله تعالى: " فاذكروا الله " بالدعاء والتلبية " عند المشعر الحرام " وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر، وسمي مشعراً من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام: من المنع فهو، ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعاً: لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر.
قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: (( دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله قال: فقال الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً )).
وقال جابر : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس".
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة )).
قوله تعالى: " واذكروه كما هداكم " أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " أي وقد كنتم، وقيل: وما كنتم من قبله إلا من الضالين. كقوله تعالى: " وإن نظنك لمن الكاذبين " (186-الشعراء) أي: وما نظنك إلا من الكاذبين، والهاء في قوله (( من قبله )) راجعة إلى الهدى، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور.
198-" ليس عليكم جناح أن تبتغوا " أي في تبتغوا أي تطلبوا . " فضلاً من ربكم " عطاء ورزقاً منه ، يريد الربح بالتجارة ، وقيل : كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج ،وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت . " فإذا أفضتم من عرفات " دفعتم منها بكثرة ،من أفضت الماء إذا صببته بكثرة . وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة . و " عرفات " جمع سمي يه كأذراعات ، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام ،وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك . أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث . وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، أو بناء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت ، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت ، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا . أو لأن الناس يتعارفون فيه . وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف ،وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : " ثم أفيضوا " أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب . وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق . " فاذكروا الله " بالتلبية والتهليل والدعاء . وقيل : بصلاة العشاءين . " عند المشعر الحرام " جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح . وقيل : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ،ويؤيد الأول ما روي جابر : أنه عليه الصلاة والسلام " لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة ـ بغلس ، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر " وإنما سمي مشعراً لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته : ومعنى عند المشعر الحرام : مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر . " واذكروه كما هداكم " كما علمكم ، أو اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها . وما مصدرية أو كافة . " وإن كنتم من قبله " أي الهدى . " لمن الضالين " أي الجاهلين بالإيمان والطاعة ، وأن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة . وقيل ، إن نافية واللام بمعنى إلا ، كقوله تعالى : " وإن نظنك لمن الكاذبين " .
198. It is no sin for you that ye seek the bounty of your Lord (by trading). But, when ye press on in the multitude from Arafat, remember Allah by the sacred monument. Remember Him as He hath guided you, although before ye were of those astray.
198 - It is no crime in you if ye seek of the bounty of your Lord (during pilgrimage). then when ye pour down from (mount) Arafat, celebrate the praises of God at the sacred monument, and celebrate his praises as he has directed you, even though, before this, ye went astray.