2 - (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) هم بنو نضير من اليهود (من ديارهم) مساكنهم بالمدينة (لأول الحشر) هو حشرهم إلى الشام وآخره أن أجلاهم عمر في خلافته إلى خيبر (ما ظننتم) أيها المؤمنون (أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم) خبر أن (حصونهم) فاعله تم به الخبر (من الله) من عذابه (فأتاهم الله) أمره وعذابه (من حيث لم يحتسبوا) لم يخطر ببالهم من جهة المؤمنين (وقذف) ألقى (في قلوبهم الرعب) بسكون العين وضمها الخوف بقتل سيدهم كعب ابن الأشرف (يخربون) بالتشديد والتخفيف من أخرب (بيوتهم) لينقلوا ما استحسنوا منها من خشب وغيره (بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)
يعني تعالى ذكره بقوله " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " الله الذي أخرج جحدوا نبوه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وهم يهود بني النضير من ديارهم ، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم ، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم ، يخلوا له دورهم ، وسائر أموالهم ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، فخرجوا من ديارهم ، فمنهم من خرج إلى الشام ، ومنهم من خرج إلى خيبر ، فذلك قوله الله عز وجل " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عز وجل " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " قال : النضير حتى قوله " وليخزي الفاسقين " .
ذكر ما بين ذلك كله فيهم :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " قيل : الشام ، وهم بنو النضير حي من اليهود ، فأجلاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، مرجعه من أحد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري " من ديارهم لأول الحشر " قال : هم بنو النضير قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء ، فأجلاهم إلى الشام على أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة ، والحلقة : السلاح ، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك عذبهم في الدنيا بالقتل والسباء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " قال : هؤلاء النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : نزلت في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله عز وجل به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم ، فقال " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " الآيات .
وقوله : " لأول الحشر " يقول تعالى ذكره : لأول الجمع في الدنيا ، وذلك حشرهم إلى أرض الشام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله " لأول الحشر " قال : كان جلاؤهم أول الحشر في الدنيا إلى الشام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : تجيء نار من مشرق الأرض ، تحشر الناس إلى مغاربها ، فتبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، " عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ، قال : امضوا فهذا أول الحشر ، وإنا على الأثر " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " لأول الحشر " قال : الشام حين ردهم إلى الشام ، وقرأ قول الله عز وجل " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " [ النساء : 47 ] ، قال : من حيث جاءت أدبارها أن رجعت إلى الشام من حيث جاءت ردوا إليه .
وقوله : " ما ظننتم أن يخرجوا " يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم ، " وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " وإنما ظن القوم فيما ذكر ذلك أن عبد الله بن أبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم ، ويعدونهم النصر .
كما حدثني ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رهطاً من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير ، أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا لذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم .
وقوله " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " يقول الله تعالى ذكره : فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم ، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله من حيث لم يحتسبوا ، قذف في قلوبهم الرعب بنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، يقول جل ثناؤه : وقذف في قلوبهم الرعب .
وقوله : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " يعني جل ثناؤه بقوله " يخربون بيوتهم " بني النضير من اليهود ، وأنه يخربون مساكنهم ، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذكر في منازلهم مما يستحسنونه ، أو العمود أو الباب ، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " جعلوا يخربونها من أجوافها ، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : لما صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها ، فكان ذلك خرابها ، وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، وتخربها اليهود من داخلها .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : احتملوا من أموالهم ، يعني بني النضير ، ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، قال : فذلك قوله " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " وذلك هدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم إذا احتملوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عز وجل " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " قال : هؤلاء النضير ، صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما حملت الإبل ، فجعلوا يقلعون الأوتاد يخربون بيوتهم .
وقال آخرون : إنما قيل ذلك كذلك ، لأنهم يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " قال : يعني بني النضير ، جعل المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها ، ثم يبنون ما يخرب المسلمون ، فذلك هلاكهم .
حدثت عن الحسين ، قال سمعت : أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " يعني أهل النضير جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ثم يبنون ما خرب المسلمون .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو " يخربون " بتخفيف الراء ، بمعنى يخربون منها ، ويتركونها معطلة خراباً ، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك ( يخربون ) بالتشديد في الراء ، بمعنى يهدمون بيوتهم ، وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي و الحسن البصري ، أنهما كانا يقرءان ذلك نحو قراءة أبي عمرو ، وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب إنما هو ترك ذلك خراباً بغير ساكن ، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم ، فيرحلوا عنها ، ولكنهم خربوها بالنقض والهدم ، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد .
وأولي القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه ، وقد كان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يقول : التخريب والإخراب بمعنى واحد ، وإنما ذلك في إختلاف اللفظ لا الإختلاف في المعنى .
وقوله " فاعتبروا يا أولي الأبصار " يقول تعالى ذكره : فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحل الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب وهم في حصونهم ، من نقمته ، واعلموا أن الله ولي من والاه ، وناصر رسوله على كل من ناوأه ، ومحل من نقمته به نظير الذي أحل ببني النضير ، وإنما عني بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب ، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون .
قوله تعالى : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " قال سعيد بن جبير : قلت لإبن عباس : سورة الحشرى ؟ قال : قل سورة النضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل اتظارا لمحمد عليه صلى الله علية وسلم ،وكان من أمرهم مانص الله عليه .
الثانية : قوله تعالى : " لأول الحشر " الحشر الجمع ، وهوعلى أربعة أوجه: شران في الدنيا وحشران في الآخرة ، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام .قال ابن عباس و عكرمة : من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية : "
وأن النبي صلى الله علية وسلم قال لهم : اخرجوا قالوا إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ." قال قتادة هذا أول المحشر .قال ابن عباس :هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره . وقيل : إنهم أخرجوا إلى خيبر ، وأن معنى "لأول الحشر " إخراجهم من حصونهم إلى خيبر وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات .وقيل تيماء وأريحاء ،وذلك بكفرهم ونقض عهدهم . وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة . قال قتادة تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ،تبيت معهم حيث باتوا ،وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل منهم من تخلف . وهذا ثابت في الصحيح ،وقدذكرناه في ( كتاب التذكرة ) .ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال : قلت لمالك هوجلاؤهم من ديارهم ؟ فقال لي : الحشر يوم القيامة حشر اليهود .قال : وأجلى رسول الله صلى الله علية وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه ، فاستحلهم بذلك . قال ابن العربي : للحشر أول ووسط وآخر ، فلأول إجلاء بني النضير ، والأوسط إلجلاء خيبر ، والآخر حشر يوم القيامة .وعن الحسن :هم بنو قريظة .وخالفه بقية المفسرين وقالوا : بنوا قريظة ماحشروا ولكنهم قتلوا .حكاه الثعلبي .
الثالثة : قال الكيا الطبري : ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شييء لايجوز الآن ،وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ .ولآن فلابد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم .
قوله تعالى : " ما ظننتم أن يخرجوا " يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين ،واجتماع كلمتهم . "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم " قيل : هي الوطيح وانطاة والسلالم والكتيبة ." من الله " أي من أمره .وكانوا أهل حلقة -أي سلاح كثير - وحصونهم منيعة ، فلم يمنعهم شيء منها . " فأتاهم الله " أي أمره وعذابه . " من حيث لم يحتسبوا " أي لم يطنوا . وقيل : من حيث لم يعلموا .وقيل : " من حيث لم يحتسبوا " بقتل كعب بن الأشرف ،قاله ابن جريح و السدي و أبو صالح .
قوله تعالى : "وقذف في قلوبهم الرعب " بقتل سيدهم كعب بت الأشرف ،وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الاشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش ، والحارث بن أوس بن معاذ ،وأبو عيسى بت جبر . وخبره مشهور في السيرة .وفي الصحيح :
" أن النبي صلى الله علية وسلم قال : نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر " فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير .وهذه خصيصى لمحمد صلى الله علية وسلم دون غيرة .
قوله تعالى : " يخربون بيوتهم " قراءة العامة بالتخفيف من أخرب ، أي يهدمون . وقرأ السلمي و الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية و قتادة و أبو عمرو يخربون بالتشديد من التخريب . قال أبو عمرو : إنما اخترت التشديدلأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن ، وبنو النضير لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم ، يؤيده قوله تعالى " بأيديهم وأيدي المؤمنين ". وقال آخرون : التخريب والإخراب بمعنى واحد بمعنى واحد ، والتشديد بمعنى التكثير .وحكى سيبويه : أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان ، نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته .واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى .قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خالرج ليدخلوا ،واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ماخرب من حصنهم .فري أنهم صالحوا رسول الله صلى الله علية وسلم علىألا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة ، فلاترد له راية . فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتائب ،فقال لهم : اخرجوا من المدينة . فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك ،فتنادوا بالحرب.وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله علية وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ،فدس إليهم عبد الله بت أبي المنافقين وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ،ولئن أخرجتم لنخرجن معكم . فدربوا على الازقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المافقين طلبوا الصلح ،فأبى عليهم إلا الجلاء ، على ما ياتي بيانه . وقال الزهري و ابن زيد و عروة بن الزبير : لما صالحهم النبي صلى الله علية وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إلبلهم ويخرب المؤمنون باقيها . وعن زيد أيضا : كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم . وقال ابن عباس : كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال وهو ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها ، ويرموا بالتي أخرجوا منها المسلمين وقيل : ليسدوا بها أرزقتهم . وقال عكرمة بأيديهم في إخراب دواخلها ومافيها لئلا يأخذه المسلمون . وبـ أيدي المؤمنين في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم . قال عكرمة : كانت منازلهم مزخلفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها . فخربوها من جاخل وخربها المسلمون من خارج . وقيل :" يخربون بيوتهم " بنقض المواعدة " وأيدي المؤمنين " في إجلائهم عنها . قال ابن العربي : التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة ، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا ، إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء .
قلوله تعالى : " فاعتبروا يا أولي الأبصار " أي اتعظو يا أصحاب العقول والألباب وقيل : يا من عاين ذلك ببصره ، فهو جمع للبصر . ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اتصموا بالحصون من مالله ليأنزلهم الله منها . ومن وجوهه : أنه سلط عليهم من كان بيصرهم . ومن وجوهه أيضا : أنهم هدموا أموالهم بأيديهم . ومن لم يعتبر بغيرة اعتبر في نفسه .وفي الأمثال الصحيحة : السعيد من وعظ بغيره .
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وقوله تعالى: "وهو العزيز" أي منيع الجناب "الحكيم" في قدره وشرعه. وقوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب" يعني يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه, فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له, وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد, فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون وظنوا هم أنها ما نعتهم من بأس الله, فما أغنى عنهم من الله شيئاً وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم, وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة, فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام, وهي أرض المحشر والمنشر, ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر, وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم, فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم, ولهذا قال تعالى: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار" أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الاخرة من العذاب الأليم .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود سفيان, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس, والخزرج, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم, فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا, فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا, ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهو الخلاخل, فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر, فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبراً حتى نلتقي بمكان النصف, وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم: "إنكم والله لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه " فأبوا أن يعطوه عهداً فقاتلهم يومهم ذلك, ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه, فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء, فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها, وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" يقول بغير قتال, فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار, وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما, وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة, ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري, فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر, وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو, فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين لأدينهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين, وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان, وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف, فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه, ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة, فسألوه عنه, فقال رأيته داخلاً المدينة, فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه, فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم, ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها, فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه, فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا, فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم, وإن خرجتم خرجنا معكم, فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا فقذف الله في قلوبهم الرعب, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل, فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل, فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به, فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء, فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة ـ سماك بن خرشة ـ ذكرا فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم, فقوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب" يعني بني النضير "من ديارهم لأول الحشر". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الاية "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "اخرجوا" قالوا: إلى أين ؟ قال: "إلى أرض المحشر" وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن عوف عن الحسن قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال: "هذا أول الحشر وأنا على الأثر" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن به.
وقوله تعالى: "ما ظننتم أن يخرجوا" أي في مدة حصاركم لهم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها, ولهذا قال تعالى: "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الاية الأخرى: "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون".
وقوله تعالى: "وقذف في قلوبهم الرعب" أي الخوف والهلع والجزع وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك, وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وتحملها على الإبل, وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد, وقال مقاتل بن حيان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال, وكان اليهود إذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها, يقول الله تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار". وقوله: "ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا" أي لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك, قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الاخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: ثم كانت وقعة بني النضير, وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر, وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء, وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة وهي السلاح, فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام, قال: والجلاء كتب عليهم في آي من التوراة وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم " سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب * ا قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " وقال عكرمة: الجلاء القتل, وفي رواية عنه الفناء, وقال قتادة: الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد. وقال الضحاك: أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء, فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أحمد بن كامل القاضي, حدثنا محمد بن سعيد العوفي حدثني أبي عن عمي, حدثنا أبي عن جدي عن ابن عباس, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ, فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم, وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام, وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء, والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى. وروي أيضاً من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جده, عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
وقوله تعالى: " ولهم في الآخرة عذاب النار " أي حتم لازم لا بد لهم منه. وقوله تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله" أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين, لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم, وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. ثم قال: "ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب". وقوله تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين" اللين نوع من التمر وهو جيد قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر, وقال كثيرون من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة. قال ابن جرير: هو جميع النخل ونقله عن مجاهد وهو البويرة أيضاً, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهاباً وإرعاباً لقلوبهم, فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله هذه الاية الكريمة أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم, وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل, وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين, فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم, وإنما قطعه وتركه بإذنه, وقد روي نحو هذا مرفوعاً, فقال النسائي: أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان, حدثنا حفص بن غياث, حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين" قال: يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم, فقال المسلمون: قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل الله "ما قطعتم من لينة" وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر وعن أبي الزبير عن جابر, قال: رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو علينا وزر فيما تركنا, فأنزل الله عز وجل "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق, وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه, ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر, قال: حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حارب قريظة, فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع, وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة, ولهما أيضاً عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير, وقطع وهي البويرة, فأنزل الله عز وجل فيه "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين".
وللبخاري رحمه الله من رواية جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير, ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدام الله ذلك من صنيع وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنــــزه وتـــــعلم أي أرضينا نضير
وكذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق, وقال محمد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:
لقد خزيـــت بغدرتها الحبــور كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنـــهم كفــــروا بـــــرب عظيم أمره أمـــــر كبيـــــر
وقد أوتوا معاً فهماً وعــلمــاً وجاءهمو من الله النذيــــر
نذير صادق أدى كتــــابــــــــاً وآيــــــات مبينـــــة تنيـــــر
فقالوا ما أتيت بأمـــر صدق وأنت بمنكر منـــــا جـــدير
فقال بلى لقد أديــــت حقـــــاً يصدقني به الفهم الخبــــير
فمن يتبعه يهد لـكـــل رشـــد ومن يكفر به يجز الكفـــور
فلما أشربوا غــدراً وكفــــــراً وجد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبــي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجـــــور
فأيــــــده وســــــــلطه عليهم وكان نصيره نعم النصــــير
فغودر منهـــمو كعـب صريعاً فذلت بعد مصرعه النضـــير
على الكفيــن ثم وقـــــد علته بأيدينا مشهــــــــرة ذكـــــور
بأمر محـــمد إذ دس ليـــــــلاً إلى كعب أخا كعــــــب يسير
فما كره فأنـــــــزله بـــمكـــــر ومحمود أخو ثقة جـــــــسور
فتلك بنو النضير بـــدار سوء أبادهمو بما اجترموا المبير
غداة أتاهمو في الزحف رهواً رسول الله وهو بهم بصـــير
وغسان الحمـــــاة مــــوازروه على الأعداء وهو لهم وزيــر
فقال السلم ويحكمو فصــــدوا وخالف أمرهم كــــــذب وزور
فذاقوا غب أمرهمو وبــــــالاً لكل ثلاثة منهــــــم بعيــــــــر
وأجلوا عامــــديـــــن لقينقاع وغودر منهمــــــو نخل ودور
قال: وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قول ابن القيم العبسي, ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف, قال ابن هشام الأشجعي:
أهلي فداء لامرىء غير هالــــك أجلى اليهود بالحسى المزنـــم
يقيلون في جمر العضاه وبدلـــوا أهيضب عوداً بالودي المكمـــم
فإن يك ظني صادقـــــاً بــــــمحمد يروا خيله بين الصلا ويرمــرم
يؤم بها عمرو بن بهثـــة إنهـــــم عدو وما حي صديــق كمجـــــرم
عليهن أبطال مساعير في الوغى يهزون أطراف الوشيج المقــوم
وكل رقيق الشفرتيــــــن مهـــــند تورث من أزمان عاد وجرهـــــم
فمن مبلغ عني قريشــــــاً رسالة فهل بعدهم في المجد من متكرم
بأن أخاكم فاعلمـــــــن محمـــــدا تليد الندى بين الحجون وزمــزم
فدينوا له بالحق تحسم أموركم وتسموا من الدنيا إلى كل معظم
نبي تلاقته من اللـــــه رحمـــــة ولا تسألوه أمر غيــــــب مــرجم
فقد كان في بدر لعمري عبـــرة لكم يا قريش والقليب الملمــــــم
غداة أتى في الخزرجية عامــداً إليكم مطيعاً للعظيم المكـــــــــرم
معاناً بروح القدس ينكي عـدوه رسولاً من الرحمن حقاً بمعلــــم
رسولاً من الرحمن يتلو كتــــابه فلما أنار الحق لــــــــم يتلعثــــم
أرى أمره يزداد في كل موطــن علواً لأمر حمه اللــــــه محكـــم
وقد أورد ابن إسحاق رحمه الله ههنا أشعاراً كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة, تركنا باقيها اختصاراً واكتفاء بما ذكرناه, ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة, وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
2- "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" هم بنو النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: اخرجوا، قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. قال ابن العربي: الحشر أول وأوسط وآخر. فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة.
وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط. فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. واللام في لأول الحشر متعلقة بأخرج، وهي لام التوقيت كقوله: "لدلوك الشمس". "ما ظننتم أن يخرجوا" هذا خطاب للمسلمين: أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله" أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله مانعتهم خبر مقدم، وحصونهم مبتدأ مؤخر. والجملة خبر أنهم. ويجوز أن يكون مانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم. ورجح الثاني أبو حيان. والأول أولى "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة. وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك. وقيل هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريح والسدي وأبو صالح. فإن قتله أضعف شوكتهم. وقيل إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين: أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا. والأول أولى لقوله: "وقذف في قلوبهم الرعب" فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير. لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب الخوف الذي يرعب الصدر: أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه. وقيل كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به. بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك. قرأ الجمهور "يخربون" بالتخفيف. وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم. قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضاً: يخربون بيوتهم بنقض المعاهدة وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال "فاعتبروا يا أولي الأبصار" أي اتعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها.
فذلك قوله عز وجل:
2- "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب"، يعني بني النضير، "من ديارهم"، التي كانت بيثرب، قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان. "لأول الحشر"، قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا.
قال ابن عباس: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية، فكان هذا أول حشر إلى الشام، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اخرجوا، قالوا إلى أين، قال: إلى أرض المحشر، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام.
وقال الكلبي: إنما قال: "لأول الحشر" لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال مرة الهمداني: كان أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر.
وقال قتادة: كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.
"ما ظننتم"، أيها المؤمنون "أن يخرجوا"، من المدينة لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة. "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله"، أي: وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله، "فأتاهم الله"، أي أمر الله وعذابه، "من حيث لم يحتسبوا"، وهو أنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، "وقذف في قلوبهم الرعب"، بقتل سيدهم كعب بن الأشرف.
"يخربون"، قرأ أبو عمرو: بالتشديد، والآخرون بالتخفيف، ومعناهما واحد، "بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين"، قال الزهري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
قال ابن زيد: كانوا يقلعون العمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد، يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضا.
قال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى النبي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل:
"يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا"، فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم، "يا أولي الأبصار"، يا ذوي العقول والبصائر.
2-" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام ، وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام و آخر حشرهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك ، أو أن ناراً تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب . والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . " ما ظننتم أن يخرجوا " لشدة بأسهم ومنعتهم . "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم ، وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ويجوز أن تكون " حصونهم " فاعلاً لـ" مانعتهم " . " فأتاهم الله " أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ،وقيل الضمير لـ" المؤمنين " أي فأتاهم نصر الله ، قرئ " فأتاهم الله " أي العذاب أو النصر ." من حيث لم يحتسبوا " لقوة وثوقهم . " وقذف في قلوبهم الرعب " وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها يملؤها . " يخربون بيوتهم بأيديهم " ضناً بها على المسلمين وإخراجاً لما استحسنوا من آلاتها . " وأيدي المؤمنين" فإنهم أيضاً كانوا يخرجون ظواهرها نكاية وتوسيعاً لمجال القتال . وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير لـ" الرعب " .وقرأ أبو عمرو يخربون بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير . وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خراباً والتخريب الهدم . " فاعتبروا يا أولي الأبصار " فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا و لا تعتمدوا على غير الله ،واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .
2. He it is Who hath caused those of the People of the Scripture who disbelieved to go forth from their homes unto the first exile. Ye deemed not that they would go forth, while they deemed that their strongholds would protect them from Allah. But Allah reached them from a place whereof they reckoned not, and cast terror in their hearts so that they ruined their houses with their own hands and the hands of the believers. So learn a lesson, O ye who have eyes!
2 - It is He Who got out the Unbelievers among the People of the Book from their homes at the first gathering (of the forces). Little did ye think that they would get out: and they thought that their fortresses would defend them from God! But the (Wrath of) God came to them from quarters from which they little expected (it), and cast terror into their hearts, so that they destroyed their dwellings by their own hands and the hands of the Believers. Take warning, then, o ye with eyes (to see)!