(يا أيها الذين آمنوا اصبروا) على الطاعات والمصائب وعن المعاصي (وصابروا) الكفار فلا يكونوا أشد صبرا منكم (ورابطوا) أقيموا على الجهاد (واتقوا الله) في جميع أحوالكم (لعلكم تفلحون) تفوزون بالجنة وتنجون من النار
قال أبو جعفر اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورابطوهم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن : أنه سمعه يقول في قول الله : "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"، أي : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله ، "واتقوا الله لعلكم تفلحون".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : اصبروا على الطاعة، وصابروا أعداء الله ، ورابطوا في سبيل الله .
حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله : "اصبروا وصابروا ورابطوا" ، قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدو ورابطوهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورابطوا أعداءكم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، أنه كان يقول في هذه الآية : "اصبروا وصابروا ورابطوا"، يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم .
وقال آخرون : معنى ذلك ، اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطيماهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله : "اصبروا وصابروا ورابطوا"، قال : اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ، ورابطوا على عدوكم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا مطرف بن عبد الله المدني قال ، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله بعدها فرجاً، لأنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".
وقال آخرون ، معنى : "ورابطوا"، أي : رابطوا على الصلوات ، أي : انتظروها واحدة بعد واحدة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال ، حدثني داود بن صالح قال ، قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية : "اصبروا وصابروا ورابطوا"؟ قال قلت : لا! قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة.
حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده ، عن شرحبيل ، "عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط".
حدثنا موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا محمد بن مهاجر قال ، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل، "عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ قال : قلنا: بلى، يا رسول الله ! قال : إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، "عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله ! قال : إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك : "يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "اصبروا"، على دينكم وطاعة ربكم . وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئاً، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك فلنا إنه عنى بقوله : "اصبروا"، الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها.
"وصابروا"، يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعداً، ولا تكون من واحد إلا قليلاً في أحرف معدودة . فإذ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكون عدوهم أصبر منهم .
وكذلك قوله : "ورابطوا"، معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك ، في سبيل الله .
قال أبو جعفر: وأرى أن أصل الرباط ، ارتباط الخيل للعدو، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر، كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رجلة لا مركب له.
وإنما قلنا معنى : "ورابطوا"، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط . وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه ، دون الخفي ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه ، حجة يجب التسليم لها من كتاب ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : "واتقوا الله"، أيها المؤمنون ، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه ، "لعلكم تفلحون"، يقول : لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده ، كما:
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أنه كان يقول في قوله : "واتقوا الله لعلكم تفلحون"، واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا " ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، وعن الصبر الحبس ، وقد تقدم في البقرة بيانه ، وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم ، وقال الحسن : على الصلوات الخمس ، وقيل : إدامة مخالفة النفس عن شهواتنا فهي تدعو وهو ينزع ، وقال عطاء و القرظي : صابروا الوعد الذي وعدتم أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج ، " قال صلى الله عليه وسلم : انتظار الفرج بالصبر عبادة " ، واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله والأول قول الجمهور ، ومنه قول عنترة :
فلم أر حياً صابروا مثل صبرنا ولا كافحوا مثل الذين نكافح
فقوله : صابروا مثل صبرنا ، أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور ، والمكافحة : المواجهة والمقابلة في الحرب ، ولذلك اختلفوا في معنى قوله " ورابطوا " فقال جمهور الأمة : رابطوا أعداءكم بالخيل ، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ، ومنه قوله تعالى : " ومن رباط الخيل " [ الأنفال : 60 ] ، وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجاً ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه ، واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ، ثلاثاً " ، رواه مالك ، قال ابن عطية ، والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابط ، فارساً ، كان أو راجلاً واللفظ مأخوذ من الربط ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " ، إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله والرباط اللغوي هو الأول ، وهذا كقوله : " ليس الشديد بالصرعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطواف " ، إلى غير ذلك .
قلت : قوله : " والرباط اللغوي هو الأول " ليس بمسلم ، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة أيضاً ، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال : ماء مترابط أي دائم لا ينزح ، حكاه ابن فارس ، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه ، فإن المرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحل ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة ، ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله : " ومن رباط الخيل " [ الأنفال : 60 ] ، على ما يأتي ، وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو هريرة وجابر وعلي ، ولا عطر بعد عروس .
الرابعة والعشرون : المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله محمد بن المواز ورواه ، وأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعمرون ويكتسبون هنالك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين ، قاله ابن عطية ، وقال ابن خويزمنداد : وللرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأموناً منيعاً يجوز سكناه بالأهل والولد ، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق والله أعلم .
الخامسة والعشرون : جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها " .
وفي صحيح مسلم ، " عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان " .
وروى أبو داود في سننه عن فضالة بن عبيد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر " ، وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت .
كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " ، وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم ، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد ، والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة ، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة ، وهي غير موقوفة على سب فتنقطع بانقطاعه ، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة ، وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام ، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة . خرجه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع " ، وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط ، والله أعلم .
وروي " عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها " ، وروي عن أبي بن كعب قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً أراه قال : من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة " ، ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطاً ، والله أعلم .
و " عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم وستون يوماً واليوم كألف سنة " .
قلت : وجاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط ، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى ، وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج بن المنهال وحدثنا أبو بكر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال : حدثني الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي أيوب الأزدي عن نوف البكالي عن عبد الله بن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصلاة العشاء ، فجاء وقد حضره الناس رافعاً أصبعه وقد عقد تسعاً وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول : أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " ، ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف بن عبد الله : أن نوفاً وعبد الله بن عمر اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبد الله بن عمر بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " واتقوا الله " أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى " لعلكم تفلحون " لتكونوا على رجاء من الفلاح ، وقيل : لعل بمعنى لكي ، والفلاح البقاء ، وقد مضى هذا كله في البقرة مستوفى ، والحمد لله .
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان, ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة, وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه, "لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً", أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته, وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى في سورة القصص: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" الاية, وقد قال تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به" الاية. وقد قال تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون", وقال تعالى: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون", وقال تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس, وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" إلى قوله تعالى: "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" الاية, وهكذا قال ههنا "أولئك لهم أجرهم عند ربهم" الاية, وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه, لما قرأ سورة "كهيعص" بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة, بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم, وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات, فصلوا عليه فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه " . وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت , عن أنس بن مالك , قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استغفروا لأخيكم فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة " , فنزلت "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" الاية, ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة , عن ثابت , عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد , عن أنس بن مالك , بنحو ما تقدم ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة , عن سعيد بن المسيب , عن جابر , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي إن أخاكم أصحمة قد مات, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعاً " , فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة, فأنزل الله "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" الاية. وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عمرو الرازي , حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق , حدثني يزيد بن رومان , عن عروة , عن عاشئة رضي الله عنها, قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو العباس السياري بمرو, حدثنا عبد الله بن علي الغزال , حدثنا علي بن الحسن بن شقيق , حدثنا ابن المبارك , حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه , قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم, فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا, فقال: لا, دواء بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس, قال: وفيه نزلت "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" الاية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "وإن من أهل الكتاب" يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" الاية, قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه, وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم بالذي اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم, رواهما ابن أبي حاتم . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " , وقوله تعالى: "لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً" أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم, بل يبذلون ذلك مجاناً, ولهذا قال تعالى: "أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب", قال مجاهد : "سريع الحساب" يعني سريع الإحصاء, رواه ابن أبي حاتم وغيره, وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا" قال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام, فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء, حتى يموتوا مسلمين, وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم, وكذا قال غير واحد من علماء السلف, وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات, وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة, قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم, وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة , عن أبيه , عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط, فذلكم الرباط". وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد , حدثنا موسى بن إسحاق , حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي , أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , قال: أقبل علي أبو هريرة يوماً, فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الاية: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا" قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه, ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها, ثم يذكرون الله فيها, فعليهم أنزلت "اصبروا" أي على الصلوات الخمس, "وصابروا" أنفسكم وهواكم, "ورابطوا" في مساجدكم, "واتقوا الله" فيما عليكم, "لعلكم تفلحون". وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت , عن داود بن صالح , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة بنحوه. وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب , حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري , عن جده , عن شرحبيل , عن علي رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط", وقال ابن جرير أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي , حدثنا يحيى بن واضح , حدثنا محمد بن مهاجر , حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة , عن شرحبيل , عن جابر بن عبد الله , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال إسباغ الوضوء في أماكنها, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط", وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي , أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي , أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي , أنبأنا عثمان بن عبدالرحمن , أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن أبي أيوب رضي الله عنه, قال: وقفه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ قلنا: نعم يا رسول الله, وما هو ؟ قال إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة". قال: وهو قول الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" فذلك هو الرباط في المساجد, وهذا حديث غريب من هذا الوجه جداً. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير , حدثني داود بن صالح , قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الاية "اصبروا وصابروا ورابطوا ؟" قال: قلت: لا. قال: إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه, ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة, رواه ابن جرير , وقد تقدم سياق ابن مردويه له, وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه, والله أعلم, وقيل: المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين, وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه, فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها".
(حديث آخر) روى مسلم عن سلمان الفارسي , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه, وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله, وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح , أخبرني أبو هانىء الخولاني أن عمرو بن مالك الجنبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله, فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر" وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح, وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق , وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا: حدثنا ابن لهيعة , حدثنا مشرح بن هاعان , سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان" وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله "حتى يبعث " دون ذكر "الفتان" و ابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
(حديث آخر) قال ابن ماجه في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى , حدثنا عبد الله بن وهب , أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمل, وأجرى عليه رزقه, وأمن من الفتان, وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع".
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد : حدثنا موسى , أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان , عن أبي هريرة , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من مات مرابطاً وقي فتنة القبر, وأمن من الفزع الأكبر, وغدا عليه وريح برزقه من الجنة, وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى , حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي, عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث, قالت: "من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا كهمس , حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير , قال: قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها" وهكذا رواه أحمد أيضاً عن روح , عن كهمس , عن مصعب بن ثابت , عن عثمان , وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار , عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , عن أبيه , عن مصعب بن ثابت , عن عبد الله بن الزبير , قال: خطب عثمان بن عفان الناس فقال: يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم, فليختر مختار لنفسه أو ليدع" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها".
(طريق أخرى) عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال , حدثنا هشام بن عبد الملك , حدثنا الليث بن سعد , حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان , قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني, ثم بدا لي أن أحدثكموه: ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان , وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث , والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة , وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان : فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا سفيان , حدثنا محمد بن المنكدر , قال: مر سلمان الفارسي. بشرحبيل بن السمط , وهو في مرابط له وقد شق عليه وعلى أصحابه, فقال: أفلا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى, قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال خير ـ من صيام شهر وقيامه, ومن مات فيه وقي فتنة القبر, ونمي له عمله إلى يوم القيامة" تفرد به الترمذي من هذا الوجه, وقال: هذا حديث حسن, وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل, و ابن المنكدر لم يدرك سلمان . (قلت): الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط , وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة , كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان" وقد تقدم سياق مسلم بمفرده.
(حديث آخر) قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة , حدثنا محمد بن يعلى السلمي , حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو , عن مكحول , عن أبي بن كعب , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لرباط يوم في سبيل الله, من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها, ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً ـ أراه قال ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها, فإن رده الله تعالى إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة, وتكتب له الحسنات, ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة" هذا حديث غريب, بل منكر من هذا الوجه, و عمر بن صبيح متهم.
(حديث آخر) قال ابن ماجه : حدثنا عيسى بن يونس الرملي , حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل , سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلثمائة وستون يوماً, واليوم كألف سنة" وهذا حديث غريب أيضاً, و سعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة, وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه, وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة.
(حديث آخر) قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن الصباح , أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة , عن عمر بن عبد العزيز , عن عقبة بن عامر الجهني , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله حارس الحرس" فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر , فإنه لم يدركه والله أعلم.
(حديث آخر) قال أبو داود : حدثنا أبو توبة , حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد ـ يعني ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية, فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله, إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا, فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين, فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال "تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله ثم قال من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله, فقال فاركب فركب فرساً له, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغز من قبلك الليلة فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه, فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم ؟ فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال أبشروا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب, فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني, فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما, فنظرت فلم أر أحداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل نزلت الليلة ؟ قال: لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة, فقال له أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها". ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب , حدثنا عبد الرحمن بن شريح , سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر التجيبي , قال الإمام أحمد : وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول: سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة, فأتينا ذات ليلة إلى شرف, فبتنا عليه, فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس, فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى "من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فقال ادن فدنا, فقال من أنت ؟ فتسمى له الأنصاري, ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر, فقال ادن, فدنوت فقال من أنت ؟ قال: فقلت: أنا أبو ريحانة , فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري, ثم قال حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله, وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله" وروى النسائي منه "حرمت النار" إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به, وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به, وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجنبي .
(حديث آخر) قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجهضمي , حدثنا بشر بن عمر , حدثنا شعيب بن رزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني , عن عطاء بن أبي رباح , عن ابن عباس , قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله" ثم قال: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق , قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة . (قلت) وقد تقدما, ولله الحمد والمنة.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحي بن غيلان , حدثنا رشدين عن زبان , عن سهل بن معاذ , عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا بأجرة سلطان, لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم, فإن الله يقول "وإن منكم إلا واردها"" تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) ـ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة, إن أعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش, طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه, مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع". فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام, ولله الحمد على جزيل الإنعام, على تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير : حدثني المثنى , حدثنا مطرف بن عبد الله المدني , حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم, فكتب إليه عمر : أما بعد, فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً, وإنه لن يغلب عسر يسرين, وإن الله تعالى يقول في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة , قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس, وودعته للخروج, وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة, وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امريء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام, فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني, ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال: قلت: نعم, قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى علي الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله, فقال "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر, وتصوم فلا تفطر ؟ فقال: يا رسول الله, أنا أضعف من أن أستطيع ذلك, ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله, أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله, فيكتب له بذلك الحسنات" وقوله تعالى: "واتقوا الله" أي في جميع أموركم وأحوالكم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن "اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن" "لعلكم تفلحون" أي في الدنيا والاخرة ـ وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عز وجل "واتقوا الله لعلكم تفلحون" واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
قوله 200- "يا أيها الذين آمنوا اصبروا" إلخ. هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه "إن في خلق السموات" ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة، فحض على الصبر على الطاعات والشهوات، والصبر: الحبس، وقد تقدم تحقيق معناه. والمصابرة مصابرة الأعداء، قاله الجمهور: أي غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق. وقيل: المعنى صابروا على الصلوات، وقيل: صابروا الأنفس عن شهواتها، وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، والقول الأول هو المعنى العربي، ومنه قول عنترة:
فلم أر حياً صابروا مثل صبرنا ولا كافحوا مثل الذين نكافح
أي: صابروا العدو في الحرب. قوله "ورابطوا" أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا، والرباط اللغوي هو الأول، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم لغيره رباطاً كما سيأتي. ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول، وعلى انتظار الصلاة. قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة هكذا قال، وهو من أئمة اللغة. وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال: ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور. قوله "واتقوا الله" فلا تخالفوا ما شرعه لكم "لعلكم تفلحون" أي: تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، وهم المفلحون.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله "لا يغرنك تقلب الذين كفروا" تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم، قال عكرمة: قال ابن عباس وبئس المهاد: أي بئس المنزل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "تقلبهم في البلاد" قال: ضربهم في البلاد. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله "وما عند الله خير للأبرار" قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حقاً. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً، والأول أصح قاله السيوطي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "خير للأبرار" لمن يطيع الله. وأخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال: لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم: صلوا عليه قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله "وإن من أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير عن جابر مرفوعاً أن المنافقين قالوا: انظروا إلى هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على علج نصراني، فنزلت. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدمنا ذكره. وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: اصبروا على دينكم وصابروا، الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم. وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد فيحمل ما في الآية عليه، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمي حراسة جيش المسلمين رباطاً، فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط فقال: من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى".
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة". وفي إسناده مظاهر بن أسلم، وهو ضعيف. وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ. وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: "من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة".
200-قوله عز وجل:" يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا" ، قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، وقال قتادة : اصبروا على طاعة الله.
وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان: على أمر الله.
وقالمقاتل بن حيان: على أداء فرائض الله تعالى، وقال زيد بن أسلم : على الجهاد.
وقال الكلبي: على البلاء، وصابروا يعني: الكفار، ورابطوا يعني: المشركين ، قال أبو عبيدة ، أي داوموا واثبتوا ، والربط الشد ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ،ثم قيل: ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحيأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبي حازم عن سهل ابن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط احدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ".
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي أنا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن عبد الكريم بن الحارث ،عن أبي عبيدة بن عقبة عن شرحبيل بن السمط عن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان له أجر صيام شهر مقيم، ومن مات مرابطاً جرى له مثل ذلك الأجر ، وأجري عليه من الرزق، وأمن من الفتان ".
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنازاهر بن أحمد الفقية أنا ابو اسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عنمالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع / به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ،فذلكم الرباط فذلكم الرباط".
"واتقوا الله لعلكم تفلحون" ، قال بعض أرباب اللسان: اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.
200" يا أيها الذين آمنوا اصبروا " على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. "وصابروا" وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقاً لشدته. "ورابطوا" أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة والسلام" من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة". وعنه عليه الصلاة والسلام "من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة". " واتقوا الله لعلكم تفلحون " فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة، والطريقة، والحقيقة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم". وعنه عليه الصلاة والسلام "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وسلم الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس". والله أعلم.
200. O ye who believe! Endure, outdo all others in endurance, be ready, and observe your duty to Allah, in order that ye may succeed.
200 - O ye who believe persevere in patience and constancy; vie in such perseverance; strengthen each other; and fear God; that ye may prosper.