(وإذا تولى) انصرف عنك (سعى) مشى (في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) من جملة الفساد (والله لا يحب الفساد) أي لا يرضى به
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وإذا تولى"، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفا عنك، كما:-حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني، محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: إوإذا تولى،، قال: يعني: وإذا خرج من عندك، "سعى". وقال بعضهم: وإذا غضب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"وإذا تولى"، قال: إذا غضب. فمعنى الآية: وإذا خرج هذا المنافق من عندك يا محمد غضبان، عمل في الأرض بما حرم الله عليه، وحاول فيها معصية الله وقطع الطريق وإفساد السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا انفا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله، حمرهم. و السعي في كلام العرب: العمل، يقال منه: فلان يسعى على أهله، يعنى به: يعمل فبما.
يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:
وسعى لكندة سعي غير مواكل قيس، فضر عدوها وبنى لها
يعني بذلك: عمل لهم في المكارم. وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد في قول الله: "وإذا تولى سعى"، قال: عمل. واختلف أهل التأويل في معنى الافساد الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق. فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه: من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق. وقال بعضهم: بل معنى ذلك: قطع الرحم وسفك دماء المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: "سعى في الأرض ليفسد فيها"، قطع الرحم، وسفك الدماء دماء المسلمين. فإذا قيل: لم تفعل كذا وكذا! تال: أتقرب به إلى الله عز وجل.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وصف هذا المنافق بأنه إذا تولى مدبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في الإفساد جميع المعاصي. وذلك أن العمل بالمعاصي إفساد في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني الإفساد دون بعض. وجائز أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأي ذلك كان منه، فقد كان إفسادا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريق ويخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصفه في سياق الآية بأنه "سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل"، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبه منه بفعل قطاع الرحم. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه إهلاك هذا المنافق الذي وصفه الله بما وصفه به من صفة إهلاك الحرث والنسل.فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقا لزرع قوم من المسلمين، وعقرا لحمرهم.حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي. وقال آخرون، بما:- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل" الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" [الروم: 41]، قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر. والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبه بظاهر التنزيل من التأويل، ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه. وأما "الحرث" فإنه الزرع، "والنسل" العقب والولد. وإهلاكه الزرع إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد، باحتباس القطر من أجل- معصيته ربه وسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القوام به والمتعاهدين له حئى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى: إهلاكه النسل: أن يكون كان بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في قتله الاباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائز أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي. غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية، إنما نزلت في قتله حمر القوم من المسلمين وإحراقه زرعا لهم. وذلك وإن كان جائزا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كل من سلك سبيله في قتل كل ما قتل من الحيوان الذي لا يحل قتله بحال، والذي يحل قتله في بعض الأحوال- إذا قتله بغير حق. بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصص ممت ذلك شيئا دون شيء، بل عفه. وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي: أنه سأل ابن عباس: "ويهلك الحرث والنسل" قال: نسل كل دابة.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن. التميمي أنه سأل ابن عباس قال: قلت: أرأيت قوله: "الحرث والنسل"؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل نسل كل دابة.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن "الحرث والنسل"، فقال: الحرث ما تحرثون، والنسل نسل كل دابة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس مثله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس: "ويهلك الحرث والنسل"، نسل كل دابة والناس أيضا.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض، "والنسل" من كل دابة تمشي من الحيوان، من الناس والدواب. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض، "والنسل" نسل كل شيء.حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر،
عن الضحاك قال: الحرث النبات، والنسل نسل كل دابة. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "ويهلك الحرث"، قال: "الحرث" الذي يحرثه الناس نبات الأرض، "والنسل" نسل كل دابة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:
"ويهلك الحرث والنسل"، قال: الحرث الزرع، والنسل من الناس والأنعام. قال: ياقتل نسل الناس والأنعام، قال وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نبات الأرض- والنسل من كل شي من
الحيوان. حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ويهلك الحرث والنسل"، قال: الحرث الأصل، والنسل كل دابة والناس منهم.حدثنيابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سئل سعيد بن عبد العزيز عن فساد الحرث والنسل وما هما: أي حرث، وأي نسل؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث ماتحرثون، وأما النسل فنسل كل شيء. قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة: ويهلك الحرث والنسل، برفع "يهلك"، على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرث والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها والله لا يحب الفساد، فيرد يهلك على ويشهد الله عطفا به عليه.
وذلك قراءة عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعة من القراءة في ذلك، قراءة "ويهلك الحرث والنسل" وأن ذلك في قراءة أبي بن كعب ومصحفه- فيما ذكر لنا- "ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل". وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك: "ويهلك" بالنصب، عطفا به على ليفسد فيها. قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصي، وقطع السبيل، وإخافة الطريق. و "الفساد" مصدر من قول القائل: سد الشيء يفسد، نظير قولهم: ذهب يذهب ذهابا. ومن العرب من يجعل مصدر فسد فسودا، ومصدر ذهب يذهب ذهوبا.
وقوله تعالى : " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها " قيل : (( تولى وسعى )) من فعل القلب فيجيء (( تولى )) بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه ، و (( سعى )) أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله ، عن ابن جريج وغيره ، وقيل : هما فعل الشخص ، فيجيء (( تولى )) بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد و (( سعى )) أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها ، عن ابن عباس وغيره ، وكلا السعيين فساد ، يقال : سعى الرجل يسعى سعيداً ، أي عدا ، وكذلك إذا عمل وكسب وفلان يسعى على عياله أي عمل في نفعهم .
قوله تعالى : " ويهلك " عطف على (( ليفسد )) ، وفي قراءة ابي (( وليهلك )) وقرأ الحسن و قتادة (( ويهلك )) بالرفع ، وفي رفعه أقوال : يكو معطوفاً على (( يعجبك )) ، وقال أبو حاتم : هو معطوف على (( سعى )) لأن معناه يسعى ويهلك ، وقال أبو إسحاق : وهو يهلك ، وروي عن ابن كثير (( ويهلك )) بفتح الياء وضم الكاف ، ، (( الحرث والنسل )) مرفوعان بيهلك ، وهي قراءة الحسن و ابن أبي إسحاق و أبي حيوة و ابن محيصن ،ورواه عبد الوارث عن أبي عمرو ، وقرأ قوم (( ويهلك )) بفتح الياء واللام ، ورفع الحرث ، لغة هلك يهلك ، مثل ركن يركن ، وأبي يأبى ، وسلى يسلى ، وقلى يقلى ، وشبهه ، والمعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر ، قاله الطبري ، قال غيره : ولكنها صارت عامة لجميع الناس ، فمن عمل مثل عمله استوجب تلك اللعنة والعقوبة ، قال بعض العلماء : إن من يقتل حماراً أو يحرق كدساً استوجب الملامة ، ولحقه الشين إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد : المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل وقيل : الحرث النساء الأولاد ، وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال ، وفيه هلاك الخلق ، قال معناه الزجاج ، والسعي في الأرض المشي بسرعة ، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس ، والله أعلم .
وفي الحديث : " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " ، وسيأتي بيان هذا إن الله تعالى .
قوله تعالى : " الحرث والنسل " الحرث في اللغة : الشق ، ومنه المحراث لما يشق به الأرض ، والحرث : كسب المال وجمعه ، وفي الحديث : " أحرث لدنياك كأنك تعيش أبداً " ، والحرث الزرع ، والحراث الزراع وقد حرث واحترث ، مثل زرع وازدرع ويقال : أحرث القرآن ، أي القرآن ، أي أدرسه ، وحرثت الناقة وأحرثتها ، أي سرت عليها حتى هزلت وحرثت النار حركتها ، والمحراث : ما يحرك به نار التنور ، عن الجوهري والنسل : ما خرج من كل أنثى من ولد ، وأصله الخروج والسقوط ، ومنه نسل الشعر ، وريش الطائر ،والمستقبل ينسل ح ومنه " إلى ربهم ينسلون " [ يس : 51 ] : " من كل حدب ينسلون " [ الأنبياء : 96 ] ، وقال : امرؤ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
قلت : ودلت الآية على الحرث وزراعة الأرض ، وغرسها بالأشجار حملاً على الزرع ، وطلب النسل ، وهو نماء الحيوان ، وبذلك يتم قوام الإنسان ،وهو يرد على من قال بترك الأسباب ، وسيأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " والله لا يحب الفساد " ، قال العباس بن المفضل : الفساد هو الخراب ، وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض ، قال عطاء : " إن رجلاً كان يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها " ، قال قتادة قلت لـعطاء : إنا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إن الله لا يحب الفساد .
قلت : والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، قيل : معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح ، أو لا يحبه ديناً .
ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به ، والله أعلم .
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي, جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك, وعن ابن عباس, أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم, فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم, وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد, وهو الصحيح, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن أبي هلال, عن القرظي, عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب, قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين, ألسنتهم أحلى من العسل, وقلوبهم أمر من الصبر , يلبسون للناس مسوك الضأن, وقلوبهم قلوب الذئاب, يقول الله تعالى: فعلي يجترئون وبي يغترون, حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران, قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون فوجدتها "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" الاية, وحدثني محمد بن أبي معشر: أخبرني أبو معشر نجيح, قال: سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي, فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل, وقلوبهم أمر من الصبر, لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين, يجترون الدنيا بالدين, قال الله تعالى, علي تجترئون وبي تغترون ؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران, فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله, فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله ؟ قال: قول الله "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" الاية, فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الاية ؟ فقال محمد بن كعب, إن الاية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد, وهذا الذي قاله القرظي, حسن صحيح, وأما قوله "ويشهد الله على ما في قلبه" فقرأه ابن محيصن "ويشهد الله" بفتح الياء وضم الجلالة "على ما في قلبه" ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح كقوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة, "يشهد الله على ما في قلبه" ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى: "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" الاية, هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه, وهذا المعنى صحيح, وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس وحكاه عن مجاهد, والله أعلم.
وقوله "وهو ألد الخصام" الالد في اللغة الأعوج "وتنذر به قوماً لداً" أي عوجاً, وهكذا المنافق في حال خصومته, يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه, بل يفتري ويفجر, كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر". وقال البخاري: حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن ابن جريج, عن ابن مليكة عن عائشة ترفعه, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" قال: وقال عبد الله بن يزيد: حدثنا سفيان, حدثنا ابن جريج عن ابن مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر في قوله "وهو ألد الخصام" عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وقوله "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي هو أعوج المقال سيء الفعال, فذلك قوله وهذا فعله, كلامه كذب, واعتقاده فاسد, وأفعاله قبيحة, والسعي ـ ههنا ـ هو القصد, كما قال إخباراً عن فرعون " ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة, فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة والوقار" فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث, وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل, وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما وقال مجاهد: إذا سعي في الأرض إفساداً, منع الله القطر فهلك الحرث والنسل "والله لا يحب الفساد" أي لا يحب من هذه صفته, ولا من يصدر منه ذلك.
وقوله "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم" أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله, وقيل له اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق, امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم, أي بسبب ما اشتمل عليه من الاثام, وهذه الاية شبيهة بقوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " ولهذا قال في هذه الاية "فحسبه جهنم ولبئس المهاد" أي هي كافيته عقوبة في ذلك وقوله "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة, ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة, منعه الناس أن يهاجر بماله, وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل, فتخلص منهم وأعطاهم ماله, فأنزل الله فيه هذه الاية, فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له: ربح البيع فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الاية, ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "ربح البيع صهيب" قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن عبد الله بن رستة, حدثنا سليمان بن داود, حدثنا جعفر بن سليمان الضبي, حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب, قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا, ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبداً, فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا: نعم, فدفعت إليهم مالي, فخلوا عني, فخرجت حتى قدمت المدينة, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ربح صهيب ربح صهيب" مرتين, وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, قال: أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش, فنزل عن راحلته وأنثل ما في كنانته, ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلاً, وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي, ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء, ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي, قالوا: نعم, فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربح البيع" قال ونزلت "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد" وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس, فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما, وتلوا هذه الاية "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد".
وقوله: 205- "وإذا تولى" أي أدبر وذهب عنك يا محمد، وقيل: إنه بمعنى ضل وغضب، وقيل: إنه بمعنى الولاية: أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض. والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية. وقوله: "ويهلك" عطف على قوله: "ليفسد" وفي قراءة أبي وليهلك. وقرأه قتادة بالرفع. وروي عن ابن كثير: "ويهلك" بفتح الياء وضم الكاف ورفع الحرث والنسل، وهي قراءة الحسن وابن محيصن. والمراد بالحرث: الزرع والنسل: الأولاد، وقيل الحرث: النساء. قال الزجاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع، القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وأصل الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال وجمعه. وأصل النسل في اللغة: الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه أيضاً "إلى ربهم ينسلون"، "وهم من كل حدب ينسلون" ويقال لما خرج من كل أنثى لخروجه منها. وقوله: "والله لا يحب الفساد" يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا.
205. " وإذا تولى " أي أدبر وأعرض عنك " سعى في الأرض " أي عمل فيها، وقيل: سار فيها ومشى " ليفسد فيها " قال ابن جريج قطع الرحم وسفك دماء المسلمين " ويهلك الحرث والنسل " وذلك أن الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم.
قال مقاتل : خرج إلى الطائف مقتضياً مالاً له على غريم فأحرق له كدساً وعقر له أتاناً، والنسل: نسل كل دابة والناس منهم، وقال الضحاك : " وإذا تولى " أي ملك الأمر وصار والياً " سعى في الأرض " قال مجاهد : في قوله عز وجل " وإذا تولى سعى في الأرض " قال إذا ولي فعمل بالعدوان والظلم أمسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل " والله لا يحب الفساد " أي لا يرضى بالفساد، قال سعيد بن المسيب : قطع الدرهم من الفساد في الأرض.
205-" وإذا تولى " أدبر وانصرف عنك . وقيل : إذا غلب وصار والياً . " سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل " كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم ، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف ، أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل . " والله لا يحب الفساد " لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه .
205. And when he turneth away (from thee) his effort in the land is to make mischief therein and to destroy the crops and the cattle; and Allah loveth not mischief.
205 - When he turns his back, his aim everywhere is to spread mischief through the earth and destroy crops and cattle. but God loveth not mischief.