يا أيها الناس) أي أهل مكة (اعبدوا) وحدوا (ربكم الذي خلقكم) أنشأكم ولم تكونوا شيئا (و) خلق (الذين من قبلكم لعلكم تتقون) بعبادته عقابا ، ولعل في الأصل للترجي ، وفي كلامه تعالى للتحقيق
قال أبو جعفر: فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم ينذروا أنهم لا يؤمنون، لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم، وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع استبطانه خلاف ذلك، ومرض قلبه، وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكففين بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم، وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لايقدرلكم على نفع ولا ضر.
وكان ابن عباس، فيما روي لنا عنه، يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى "اعبدوا ربكم ": وحدوا ربكم. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة. والذي أراد ابن عباس إن شاء الله بقوله في تأويل قوله: "اعبدوا ربكم " وحدوه، أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه.
حدثنا محمدبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمدبن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم"، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.
وحدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم" يقول: خلقكم وخلق الذين من قبلكم.
قال أبو جعفر: وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم: أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز، إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه. وذلك أن الله أمر من وصفنا، بعبادته والتوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون.
القول في تأويل قوله: "لعلكم تتقون ".
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكم له العبادة لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله: "لعلكم تتقون ": تطيعون.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: "لعلكم تتقون "، قال: لعلكم تطيعون.
قال أبو جعفر: والذي أظن أن مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه، وإقلاعكم عن ضلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: "لعلكم تتقون "؟ أولم يكن عالمًا بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهمت، وإنما معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة، كما قال الشاعر:
وقلتم لنا: كفوا الحروب، لعلنا نكف! ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمح سراب في الفلا متألق
يريد بذلك: قلتم لنا كفوا لنكف. وذلك أن لعل في هذا الموضع لو كان شكا، لم يكونوا وثقواكل موثق.
قوله تعالى : "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" .
قوله سبحانه وتعالى :"يا أيها الناس اعبدوا ربكم" قال علقمة و مجاهد : كل آية أولها : يا أيها الناس فإنما نزلت بمكة ، وكل آية أولها "يا أيها الذين آمنوا" فإنما نزلت بالمدينة .
قلت : وهذا يرده ان هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يأيها الناس . وأما قولهما في "يا أيها الذين آمنوا" فصحيح . وقال عروة بن الزبير : ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة ، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة . وهذا واضح .
و يا في قوله "يا أيها" حرف نداء . أي منادى مفرد مبني على الضم ، لأنه منادى في اللفظ ، و ها للتنبيه . الناس مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين ، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياساً على جوازه في : يا هذا الرجل . وقيل : ضمت أي كما ضم المقصود المفرد ، وجاءوا بـ ها عوضا عن ياء أخرى ، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاءوا بـ ها حتى يبقى الكلام متصلا . قال سيبويه : كأنك كررت يا مرتين وصار الإسم بينهما ، كما قالوا : ها هو ذا . وقيل : لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادى مجرد عن حرف تعريف ، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء ، والتزموا رفعه ، لأنه المقصود بالنداء ، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيهاً على أنه المنادى ، فأعلمه .
واختلف من المراد بالناس هنا على قولين : أحدهما : الكفار الذين لم يعبدوه ، يدل عليه قوله : "وإن كنتم في ريب" . الثاني : أنه عام في جميع الناس ، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة ، وللكافرين بابتدائها . وهذا حسن .
قوله تعالى : "اعبدوا" أمر بالعبادة له . والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه . وأصل العبادة الخضوع والتذلل ، ويقال : طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام .
قال طرفة :
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والعبادة : الطاعة . والتعبد : التنسك . وعبدت فلاناً : اتخذته عبداً .
قوله تعالى : "الذي خلقكم" خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعاً لهم . وقيل : ليذكرهم بذلك نعمته عليهم . وفي أصل الخلق وجهان : أحدهما : التقدير ، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع ، قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الحجاج : ما خلقت إلا فريت ، ولا وعدت إلا وفيت . الثاني : الإنشاء والاختراع والإبداع ، قال الله تعالى : "وتخلقون إفكا" .
قوله تعالى : "والذين من قبلكم" فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم ، فالجواب : أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة ، فذكرهم من قبلهم ليلعموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم ، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا ، وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك ، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا . والله أعلم .
قوله تعالى : "لعلكم تتقون" لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم ، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي . وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله : "لعلكم تعقلون" ، و "لعلكم تشكرون" ، و "لعلكم تذكرون" ، "لعلكم تهتدون" فيه ثلاثة تأويلات .
الأول : أن لعل على بابها من الترجي والتوقع ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا . هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان . قال سيبويه في قوله عز وجل : "اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" قال معناه : اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى . واختار هذا القول أبو المعالى .
الثاني : أن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي . فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا ، وعلى ذلك يدل قول الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقثتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملأ متألق
المعنى : كفوا الحروب لنكف ، ولو كانت لعل هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق ، وهذا القول عن قطرب و الطبري .
الثالث : أن تكون لعل بمعنى التعرض للشيء ، كأنه قيل : افعلوا ذلك متعرضين لأن تعقلوا ، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا . والمعنى في قوله "لعلكم تتقون" : أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار . وهذا من قول العرب : اتقاه بحقه إذا استقبله به ، فكأنه جعل دفعه حقه اليه وقاية له من المطالبة ، ومنه قول علي رضي الله عنه : كنا إذا احمر ابأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو . وقال عنترة :
ولقد كررت المهر يدمى نحره حتى اتقتني الخيل بابني حذيم
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف، كما قال في الاية الأخرى "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون" " وأنزل لكم من السماء ماء " والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن، ومن أشبه آية بهذه الاية قوله تعالى: "الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين "عن ابن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث، وكذا حديث معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" الحديث، وفي الحديث الاخر "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن اليهود، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد، قال ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً ؟ قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الاية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه، وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم "عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده" رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به، هذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: "فلا تجعلوا لله أنداداً" قال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك، وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء وشئت، قال: "أجعلتني لله نداً" وفي الحديث الاخر: "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان" قال أبو العالية فلا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد، وقال مجاهد "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الاية الكريمة
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهم وإما أن إبلغهن، فقال يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهم وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا، وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ فقال: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسملين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الاية قوله: وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وهذه الاية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوال والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع، فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإلــه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وقال آخرون من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والايات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
21- " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. ويا حرف نداء. والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم، وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت يا مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هوذا. وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة. وإنما خص نعمة الخلق وامتعن بها عليهم، لأن جميع النعم مترتبة عليها. وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق وجهان: أحدهما التقدير. يقال: خلقت الأديم للسقاء: إذا قدرته قبل القطع. قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا: لتتقوا: وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر:
وقلتم لنــا كفــوا الحــروب لعلنـا نكف ووثقتم لنا كـل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق
أي كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل: إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال: متعرضين للتقوى. وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر:
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والأربع اثنين لما هدني الكبر
21. قوله تعالى: " يا أيها الناس " قال ابن عباس رضي الله عنهما: ياأيها الناس خطاب أهل مكة، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو هاهنا عام إلا من حيث أنه لا يدخله الصغار والمجانين.
" اعبدوا " وحدوا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد " ربكم الذي خلقكم " الخلق: اختراع الشيء على غير مثال سبق " والذين من قبلكم " أي وخلق الذين من قبلكم " لعلكم تتقون " لكي تنجوا من العذاب وقيل معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله، وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " (44-طه) أي ادعواه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر، وحكم الله من ورائه يفعل ما يشاء، قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله واجب.
21-" يا أيها الناس اعبدوا ربكم " لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزأ للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمر العبادة ، وتفخيماً لشأنها ، وجبراً لكلفة العبادة بلذة المخاطبة . و ( يا ) حرف وضع لنداء البعيد ، وقد ينادي به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد . إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ، ويا الله ، هو أقرب إليه من حبل الوريد . أو لغفلته وسوء فهمه . أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه . وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنه مناب فعل . وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام ، فإن إدخال يا عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفاً موضحاً له ، والتزام رفعه إشعاراً بأنه المقصود ، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيداً وتعويضاً عما يستحقه ، أي من المضاف إليه ، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام ، من حقها أن يتفطنوا إليها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ، ويدل صحة الاستثناء منها . أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى :
" فسجد الملائكة كلهم أجمعون " واستدلال الصحابة بعمومها شائعاً وذائعاً ، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل ، وما روي عن علقمة و الحسن أن كل شئ نزل فيه " يا أيها الناس " فمكي " يا أيها الذين آمنوا " فمدني ، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ، ولا أمرهم بالعبادة ، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة ، والزيادة فيها ، والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإن من لوازم وجوب الشئ وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة ، فالكفر ويمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه . ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : " ربكم " تنبيهاً على أن الموجب للعبادة هي الربوبية .
" الذي خلقكم " صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أرباباً . والخلق إيجاد الشئ على تقدير واستواء ، وأصله يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس .
" والذين من قبلكم " متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو الزمان . منصوب معطوف على الضمير المنصوب في " خلقكم " . والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر ! وقرئ " من قبلكم " على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله :
يا تيم عدي لا أبا لكمو
تيماً ، الثاني بين الأول وما أضيف إليه .
" لعلكم تتقون " حال من الضمير في " اعبدوا " كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى . نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شئ سوى الله تعالى إلى الله ، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى : " يدعون ربهم خوفاً وطمعاً " " يرجون رحمته ويخافون عذابه " . أو من مفعول " خلقكم " والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه ، وكثرة الدواعي ،إليه . وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهم جميعاً . وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " . وهو ضعيف ،إذ لم يثبت في اللغة مثله .
والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة ، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثواباً ، فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل .
21. O mankind! Worship your Lord, Who hath created you and those before you, so that ye may ward off (evil).
21 - O Ye people! Adore your Guardian Lord, Who created you and those who came before you, that ye may have the chance to learn righteousness;