(كان الناس أمة واحدة) على الإيمان فاختلفوا بأن آمن بعض وكفر بعض (فبعث الله النبيين) إليهم (مبشرين) من آمن بالجنة (ومنذرين) من كفر بالنار (وأنزل معهم الكتاب) بمعنى الكتب (بالحق) متعلق بأنزل (ليحكم) به (بين الناس فيما اختلفوا فيه) من الدين (وما اختلف فيه) أي الدين (إلا الذين أوتوه) أي الكتاب فآمن بعض وكفر بعض (من بعد ما جاءتهم البينات) الحجج الظاهرة على التوحيد ، ومِن متعلقة بـ اختلف وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى (بغياً) من الكافرين (بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من) للبيان (الحق بإذنه) بإرادته (والله يهدي من يشاء) هدايته (إلى صراط مستقيم) طريق الحق
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى: الأمة: في هذا الموضع، وفي "الناس" الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة. فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كان الناس أمة واحدة"، قال: كانوا على الهدى جميعا فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أول نبي بعث نوح. قال أبو جعفر: فتأويل الأمة، على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، الدين ، كما قال النابغة الذبياني:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟
يعني: ذا الدين. فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وأصل الأمة، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يكتفى بالخبر عن، الأمة، من الخبر عن الدين، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" [المائدة: 48]- [النحل: 93]، يراد به: أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله: "كان الناس أمة واحدة"، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا. وقال آخرون: بل تأويل ذلك: كان آدم على الحق، إماما لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى الأمة إلى الطاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا" [النحل: 120]، يعني بقوله: أمة، إماما في الخير يقتدى به ويتبع عليه. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصمقال، حدثنا عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد: "كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم.حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسمقال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهدقوله :"كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم. قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال مجاهد: آدم أمة وحده. وكأن من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة، لاجتماع م خلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه بـ الأمة، كما يقال فلان أمة وحده ، يقوم مقام الأمة.وقد يجوز أن يكون سماه بذلك، لأنه سبب لاجتماع الأشتات من الناس على ما دعاهم اليه من أخلاق الخير. فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم، سماه بذلك أمة.وقال آخرون: معنى ذلك: كان الناس أمة واحدة على دين واحد، يرم استخرج ذرية آدم من صلبه فعرضهم على ادم. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار، عن ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "كان الناس أمة واحدة"- وعن أبيه، عن الربيع عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم، ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا. من بعد آدم، فكان أبي يقرأ: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى فيما اختلفوا فيه وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "كان الناس أمة واحدة"، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم، لم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، فبعث الله النبيين، قال: هذا حين تفرقت الأمم. وتأويل الآية على هذا القول، نظير تأويل قول من قال بقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدم ونوح- وقد بينا معناه هنالك، إلا أن الوقت الذي كان الناس فيه أمة واحدة، مخالف الوقت الذي وقته ابن عباس. وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: "كان الناس أمة واحدة"،على دين واحد، فبعث الله النبيين. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله: "كان الناس أمة واحدة"، يقول: كان ديناً واحدا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال.أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الاية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة، كما:- حدثني
موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كان الناس أمة واحدة"، يقول: دينا واحدا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق، كما قال أبي بن كعب، وكما:- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي في قراءة ابن مسعود: اختلفوا عنه ، عن الإسلام. فاختلفوا في دينهم، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين، "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، رحمة منه جل ذكره بخلقه، واعتذارا منه إليهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روى عكرمة عن ابن عباس، وكما قاله قتادة. وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة، على أي هذه الأوقات كان ذلك. فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم، لما اختلفوا، الأنبياء والرسل. ولا يضرنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعنا العلم به، إذا لم يكن العلم به لله طاعة. غير أنه أي ذلك كان، فإن دليل القران واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، انما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق، دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها يونس : "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" [يونس: 19]. فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة. ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر، ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان. ولو كان ذلك كذلك، لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد، لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته. ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك. قال أبو جعفر: وأما قوله: "فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب وكريم المآب، ويعني بقوله: "ومنذرين"، ينذرون من عصى الله فكفر به بشدة العقاب وسوء الحساب والخلود في النار، "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه الحكم إلى الكتاب ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل. فكان الكتاب، بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم، حاكما بين الناس، وان كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره.قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وما اختلف فيه"، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله، وهو التوراة، "إلا الذين أوتوه"، يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها، و الهاء في قوله: أوتوه عائدة على "الكتاب" الذي أنزله الله، "من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه من عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ولا العمل بخلاف ما فيه. فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة، واختلفوا فيه على علم منهم ما يأتون، متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه. ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أتوها، وركوبهم المعصية التي ركبوها، من خلافهم أمره، إنما كان منهم بغياً بينهم. و البغي مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان بغيا، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حده. ومن ذلك قيل للجرح إذا أمد، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت، بغى، كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده.فمعنى قوله جل ثناؤه: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم"، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل، في كتابي الذي أنزلته مع نبيي، عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه وخلاف حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيا بينهم طلب الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضهم لبعض، كما:-حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن ابي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه"، يقول: إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم، "من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم"، يقول: بغيا على الدنيا، وطلب ملكها وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض.قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في "من" التي في قوله: "من بعد ما جاءتهم البينات"،ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم" . فقال بعضهما: "من"، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غير أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم البغي قبل من ، لأن من إذا كان الجالب لها البغي ، فخطأ أن تتقدمه، لأن البغي مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن الذين مستثنى، وأن "من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيا، ما اختلفوا الا من بعد ما جاءتهم البينات، فكأنه كرر الكلام توكيدا.قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية. لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا. فذلك أشبه بتأويل الآية.قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فهدى الله"، فوفق [الله] الذين آمنوا، وهم أهل الإيمان
بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المصدقين به وبما جاء به أنه من عند الله، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه. وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لإصابته: الجمعة ضلوا عنها، وقد فرضت عليهم كالذي فرض علينا، فجعلوها السبت ، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فلليهود غدا وللنصارى بعد غد".حدثنا بذلك محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. فهذا اليوم الذي هدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، غدا لليهود، وبعد غد للنصارى".
وكان مما اختلفوا فيه أيضا، ما قال ابن زيد، وهو ما:-حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا" للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، وبعضهم بعض ليلة، فهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت، وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا! وقالت النصارى: كان نصرانيا! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفا مسلما، وما كان من المشركين للذين يدعونه من أهل الشرك. واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه". قال أبو جعفر: فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد وبما جاء به، لما اختلف- هؤلاء الأحزاب من بني إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وسطاً، كما وصفهم به ربهم، ليكونوا شهداء على الناس، كما:- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وايتاة الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون: أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم كذبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: (ليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، فكان أبو العالية يقول: في هذه الاية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذين آمنوا للحق من ذلك. وهي في قراءة ابن مسعود:(فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه)، عن الإسلام.
قال أبو جعفر: وأما قوله: "بإذنه"، فإنه يعني جل ثناؤه: بعلمه، بما هداهم له. وقد بينا معنى الإذن ، إذ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته ههنا.وأما قوله: "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني به: والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.قال أبو جعفر: وفي هذه الاية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق: من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم فمن الله جل وعز.فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف، فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فكيف قيل، "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟.قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه. وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدلوها- فهدى الله للحق مما بدلوا وحرفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت،ومن إنما هي في كتاب الله في الحق ، واللام في قوله: "لما اختلفوا فيه"، وأنت تحول اللام في الحق، و من في الاختلاف، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبا؟. قيل: ذلك في كلام العرب موجود مستفيض، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزنا، وكما قال الآخر:
إن سراجا لكريم مفخره تحلى به العين إذا ما تجهره
وإنما سراج الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.وقد قال بعضهم: إن معنى قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" ، أن أهل الكتب الأول اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهل الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها. وذلك قول، غير أن الأول أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
قوله تعالى : " كان الناس أمة واحدة " أي على دين واحد ، قال أبي بن كعب ، وابن زيد : المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر فأقروا له بالوحدانية ، وقال مجاهد : الناس آدم وحده ، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل ، وقيل : آدم وحواء ، وقال ابن عباس و قتادة : المراد بالناس القرون التي كانت بين آد ونوح ، وهي عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحاً فمن بعده ، وقال ابن أبي خيثمة : منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خمسة الآلف ستة وثمانمائة سنة ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة ،وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة ، متمسكين بالدين ، تصافحهم الملائكة ، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا ، وهذا فيه نظر ، لأن إدريس بعد نوح على الصحيح وقال قوم منهم الكلبي و الواقدي : المراد نوح ومن في السفينة ، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا ، وقال ابن عباس أيضاً : كانوا أمة واحدة على الكفر ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله ، وعنه أيضاً : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة ،كلهم كفار ، وولد إبراهيم في جاهلية ، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ" كان " على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضي وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث ، ودل على هذا الحذف : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى ، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة النبيين إليهم ، ويحتمل أن تكون " كان " للثبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمه واحد في خلوهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا من الله عليهم ، وتفضله بالرسل إليهم ، فلا يختص " كان " على هذا التأويل بالمضي فقط ، بل معناه معنى قوله : " وكان الله غفورا رحيما " [ النساء : 96 ] ، و" أمة " مقصدهم واحد ، ويقال للواحد : أمة ، أي مقصد غير مقصد الناس ، ومنه " قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : يحشر يوم القيامة أمة وحدة " ، وكذلك قال في زيد بن عمرو بن نفيل والأمة القامة ، كأنها مقصد سائر البدن ، والإمة بالكسر : النعمة : لأن الناس يقصدون قصدها ، وقيل : إمام ، لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل ، عن النحاس ، وقرأ أبي بن كعب كان البشر أمة واحدة وقرأ ابن مسعود كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث .
قوله تعالى : " فبعث الله النبيين " وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر ، والمذكورون في القرآن بالإسم العلم ثمانية عشر ، وأول الرسل آدم ، على ما جاء في حديث أبي ذر ، أخرجه الآجري و أبو حاتم البستي وقيل : نوح ، لحديث الشفاعة ، فإن الناس يقولون له : أنت أول الرسل ، وقيل : إدريس ، وسيأتي بيان هذا في الأعراف إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " مبشرين ومنذرين " نصب على الحال . " وأنزل معهم الكتاب " اسم جنس بمعنى الكتب . وقال الطبري : الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوراة . و" ليحكم " مسند إلى الكتاب في قول الجمهور ، وهو نصب بإضمار أن ، أي لأن يحكم ، وهو مجاز مثل " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " [الجاثية : 29] . قيل : أي ليحكم كل نبي بكتابه ، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب . وقراءة عاصم الجحدري ( ليحكم بين الناس ) على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة شاذة ، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب . وقيل : المعنى اليحكم الله ، والضمير في ( فيه ) عائد على ( ما ) من قوله : ( فيما ) والضمير في ( فيه ) القانية يحتمل أن يعود على الكتاب ، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه . موضع " الذين " رفع بفعلهم ، و" أوتوه " بمعنى أعطوه ، وقيل : يعود على المنزل عليه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم قاله الزجاج ، أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه ، " بغيا بينهم " نصب على المفعول له ، أي لم يختلفوا إلا للبغي ، وقد تقدم معناه ، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبح الذي واقعوه ، و " هدى " معناه أرشد ، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم وقالت طائفة ، معنى الآية أن الأمم كذب بعضعهم كتاب بعض ، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين ، من قولهم : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ، وقال ابن زيد و زيد بن أسلم : من قبلتهم ، فإن اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق ، " فإن النبي صلى الله عليه وسلم من يوم الجمعة قال : هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد " ومن صيامهم ، ومن جميع ما اختلفوا فيه ، وقال ابن زيد ، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى رباً ، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبداً لله وقال الفراء : هو من المقلوب - واختاره الطبري - قال : وتقديره فهدى الله الذي آمنوا للحق لما اختلفوا فيه قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما ختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء ، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : " فهدى " يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : " فيه " وتبين بقوله : " من الحق " جنس ما وقع الخلاف فيه ، قال المهدوي : وقدم لفظ الإختلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الإختلاف ، قال ابن عطية : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود (( لما اختلفوا عنه من الحق )) أي عن الإسلام ، و" بإذنه " قال الزجاج : معناه بعلمه ، قال النحاس : وهذا غلط ، والمعنى بأمره أن يستعملوه ، وفي قوله : " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " رد على المعتزلة في قولهم : إن العبد يستبد بهداية نفسه .
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار , حدثنا أبو داود, أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون, كلهم على شريعة من الحق, فاختلفوا, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين, قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله " كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ". ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, كذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "كان الناس أمة واحدة" قال: كانوا على الهدى جميعاً " فاختلفوا " " فبعث الله النبيين " فكان أول من بعث نوحاً. وهكذا قال مجاهد, كما قال ابن عباس أولاً. وقال العوفي عن ابن عباس "كان الناس أمة واحدة" يقول: كانوا كفاراً "فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى, لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام, فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام, فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال تعالى: "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" أي من بعد ما قامت الحجج عليهم, وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" الاية, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الاخرون الأولون يوم القيامة, نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه, فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود وبعد غد للنصارى" ثم رواه عبد الرزاق عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن أبي هريرة. وقال ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" فاختلفوا في يوم الجمعة, فاتخذ اليهود يوم السبت, والنصارى يوم الأحد, فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة, فمنهم من يركع ولا يسجد, ومنهم من يسجد ولا يركع, ومنهم من يصلي وهو يتكلم, ومنهم من يصلي وهو يمشي, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك, واختلفوا في الصيام, فمنهم من يصوم بعض النهار , ومنهم من يصوم عن بعض الطعام, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام, فقالت اليهود: كان يهودياً, وقالت: النصارى كان نصرانياً, وجعله الله حنيفاً مسلماً, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام, فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً, وجعلته النصارى إلهاً وولداً, وجعله الله روحه وكلمته, فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك, وقال الربيع بن أنس في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف, أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده, وعبادته لا شريك له, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون, أن رسلهم قد بلغوهم, وأنهم قد كذبوا رسلهم, وفي قراءة أبي بن كعب: وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الاية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله "بإذنه" أي بعلمه بهم وبما هداهم له, قاله ابن جرير "والله يهدي من يشاء" أي من خلقه "إلى صراط مستقيم" أي وله الحكمة والحجة البالغة, وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, واجعلنا للمتقين إماماً".
قوله: 213- "كان الناس أمة واحدة" أي كانوا على دين واحد فاختلفوا "فبعث الله النبيين" ويدل على هذا المحذوف: أعني قوله: فاختلفوا قراءة ابن مسعود فإنه قرأ " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ". واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم، وقيل: آدم وحده، وسمي ناساً لأنه أصل النسل، وقيل: آدم وحواء، وقيل: المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح، وقيل: المراد نوح ومن في سفينته، وقيل: معنى الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين، وقيل: المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل. والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء: أي قصدته، أي مقصدهم واحد غير مختلف. قوله: "فبعث الله النبيين" قيل: جملتهم مائة ألف وأربعمة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر. وقوله: "مبشرين ومنذرين" بالنصب على الحال. وقوله: "وأنزل معهم الكتاب" أي الجنس. وقال ابن جرير الطبري: إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة. وقوله: "ليحكم" مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو مجاز مثل قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" وقيل: إن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه، وقيل: ليحكم الله، والضمير في قوله: "فيه" الأولى راجع إلى ما في قوله: "فيما اختلفوا فيه" والضمير في قوله: "وما اختلف فيه" يحتمل أن يعود إلى الكتاب، ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج، ويحتمل أن يعود إلى الحق. وقوله: "إلا الذين أوتوه" أي أوتوا الكتاب، أو أوتوا الحق أو أوتوا النبي: أي اعطوا علمه. وقوله: "بغياً بينهم" منتصب على أنه مفعول به: أي لم يختلفوا إلا للبغي: أي الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبيح الذي وقعوا فيه، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الخلاف. وقوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" أي فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم وقيل: معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم، فإن بعضهم كذب كتاب بعض، وقيل: إن الله هداهم إلى الحق من القبلة، وقيل: هداهم ليوم الجمعة، وقيل: هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود وجعلته النصارى رباً، وقيل: المراد بالحق الإسلام. وقال الفراء: إن في الآية قلباً، وتقديره: فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه. واختاره ابن جرير وضعفه ابن عطية. وقوله: "بإذنه". قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "سل بني إسرائيل" قال: هم اليهود "كم آتيناهم من آية بينة" ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر "ومن يبدل نعمة الله" قال: يكفرها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: آتاهم الله آيات بينات: عصى موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وظلل من الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى "ومن يبدل نعمة الله" يقول: من يكفر بنعمة الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "زين للذين كفروا الحياة الدنيا" قال : الكفار يبتغون الحياة الدنيا ويطلبونها " ويسخرون من الذين آمنوا " في طلبهم للآخرة . قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة قال: قالوا: لو كان محمد نبياً لاتبعه ساداتنا وأشرافنا، والله اما أتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود وأصحابه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويسخرون من الذين آمنوا" يقولون: ما هؤلاء على شيء استهزاء وسخرياً "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" هنا كم التفاضل. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: فوقهم في الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية "والله يرزق من يشاء بغير حساب" قال: تفسيرها ليس على الله رقيب ولا يحاسبه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يحاسب الرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان الناس أمة واحدة قال: على الإسلام كلهم. وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين. قال: وكذلك في قراءة عبد الله " كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كانوا أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد كان الناس أمة واحدة قال: آدم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أنه كان يقرأها " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين " وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب بعد الاختلاف وما اختلف الذين أوتوه: يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب والعلم بغياً بينهم، يقول: بغياً على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "كان الناس أمة واحدة" قال: كفاراً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، وأول الناس دخولاً يبدأ بهم، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى" وهو في الصحيح بدون ذكر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة- واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، وهدى أمة محمد للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار، ومنهم من يصوم من بعد الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
213. قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " على دين واحد، قال مجاهد : أراد آدم وحده، كان أمة واحدحة، قال: سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله تعالى حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا " فبعث الله النبيين " قال الحسن و عطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين. وقال قتادة و عكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحاً، فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيين.
وقال الكلبي هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح.
وروي عن ابن عباس قال: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفاراً كلهم فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين، وقيل: كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي. وروي عن أبي العالية عن أبي كعب قال: كان الناس حين ععرضوا على آدم، وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم، ولم يكونوا أمة واحد قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " " فبعث الله النبيين " (19-يونس) وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن باسك العلم ثمانية وعشرون نبياً " مبشرين " بالثواب من آمن وأطاع " ومنذرين " محذرين بالعقاب من كفر وعصى " وأنزل معهم الكتاب " أي الكتب، تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب " بالحق " بالعدل والصدق " ليحكم بين الناس " قرأ أبو جعفر " ليحكم " بضم الياء وفتح الكاف هاهنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما (الحكم) به، وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف، أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " (29-الجاثية). وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه " فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه " أي في الكتاب " إلا الذين أوتوه " أي أعطوا الكتاب " من بعد ما جاءتهم البينات " يعني أحكام التوراة والإنجيل، قال الفراء : ولاختلافهم معنيان:
أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض قال الله تعالى: " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " (150-النساء) والآخر تحريفهم كتاب الله قال الله تعالى: " يحرفون الكلم عن مواضعه " (46-النساء) وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب " من بعد ما جاءتهم البينات " صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم " بغياً " ظلماً وحسداً " بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " أي لما اختلفوا فيه " من الحق بإذنه " بعلمه وارادته فيهم. قال ابن زيد في هذه الآية: اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام، فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد، فهدانا الله للجمعه واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيس فجعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلهاً وهدانا الله للحق فيه " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".
213-" كان الناس أمة واحدة " متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة ادريس أو نوح . " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه , وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) . " وأنزل معهم الكتاب " يريد به الجنس ولا يريد يه أنه أنزل مع كل واحد كتاباً يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم ، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم . " بالحق " حال من الكتاب ، أي ملتبساً بالحق شاهداً به . " ليحكم بين الناس " أي الله ، أو النبي المبعوث ، أو كتابه . " فيما اختلفوا فيه " في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم . " وما اختلف فيه " في الحق ، أو الكتاب . " إلا الذين أوتوه " أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجاً للاختلاف سبباً لاستحكامه . " من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم " حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا . " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف . " من الحق " بيان لما اختلفوا فيه . " بإذنه " بأمره أو بإرادته ولطفه . " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " لا يضل سالكه .
213. Mankind were one community, and Allah sent (unto them) Prophets as bearers of good tidings and as warners, and revealed therewith the Scripture with the truth that it might judge between mankind concerning that wherein they differed. And only those unto whom (the Scripture) was given differed concerning it, after clear proofs had come unto them, through hatred one of another. And Allah by His will guided those w believe unto the truth of that concerning which they differed. Allah guideth whom He will unto a straight path
213 - Mankind was one single nation, and God sent messengers with glad tidings and warnings; and with them he sent the book in truth, to judge between people in matters wherein they differed; but the people of the book, after the clear signs came to them, did not differ among themselves, except through selfish contumacy. God his grace guided the believers to the truth, concerning that wherein they differed. for God guides whom he will to a path that is straight.