) الذي جعل) خلق (لكم الأرض فراشا) حال بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها (والسماء بناء) سقفا (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من) أنواع (الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداداً) شركاء في العبادة (وأنتم تعلمون) أنه الخالق ولا تخلقون ، ولا يكون إلها إلا من يخلق
وقوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً " مردود على "الذي" الأولى في قوله "اعبدوا ربكم الذي خلقكم "، وهما جميعًا من نعت "ربكم"، فكأنه قال: اعبدوا ربكم الخالقكم، والخالق الذين من قبلكم، الجاعل لكم الأرض فراشاً. يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادًا موطأً وقرارًا يستقر عليها. يذكر ربنا جل ذكره بذلك من قيله عباده نعمه عندهم وآلاءه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم، فينيبوا إلى طاعته تعطفاً منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
كما حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً " فهي فراش يمشى عليها، وهي المهاد والقرار.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: " الذي جعل لكم الأرض فراشاً"، قال: مهادًا لكم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق، عن عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً "، أي مهادًا.
القول في تأويل قوله:" والسماء بناء".
قال أبو جعفر: وإنما سميت السماء سماء لعلوها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماة. ولذلك قيل لسقف البيت: سماوة، لأنه فوقه مرتفع عليه. ولذلك قيل: سما فلان لفلان، إذا أشرف له وقصد نحوه عاليًا عليه، كما قال الفرزدق:
سمونا لنجران اليماني وأهله ونجران أرض لم تديث مقاوله
وكما قال نابغة بني ذبيان:
سمت لي نظرة، فرأيت منها تحيت الخدر واضعة القرام
يريد بذلك: أشرفت لي نظرة وبدت. فكذلك السماء سميت للأرض: سماء، لعلوها وإشرافها عليها.
كما حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره،. عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "والسماء بناء"، فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قول الله: "والسماء بناء"، قال: جعل السماء سقفاً لك.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماء والأرض فيما عدد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوام دنياهم. فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحق عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضر ولا تنفع.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: " وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ".
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطراً، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقاً لهم، غذاء وأقواتاً. فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه، وذكرهم به آلاءه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم ويكفلهم، دون من جعلوه له ندًا وعدلاً من الأوثان والألهة. ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا ند له ولا عدل، ولا لهم نافع ولا ضار ولا خالق ولا رازق سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: " فلا تجعلوا لله أندادا ".
قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بند؟ فشركما لخير كما الفداء
يعني بقوله: ولست له بند، لست له بمثل ولاعدل. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهوله ند.
كما حدثنا بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: " فلا تجعلوا لله أندادا "، أي عدلاء.
حدثني المثنى، قال: حدثني أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادا "، أي عدلاء.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فلا تجعلوا لله أندادا"، قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله:" فلا تجعلوا لله أندادا "، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: " فلا تجعلوا لله أندادا" قال: أشباها.
حدثني محمدبن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة: "فلا تجعلوا لله أندادا"، أن تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك.
فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندًا وعدلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً وندًا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني.
القول في تأويل قوله: " وأنتم تعلمون ".
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الأية:فقال بعضهم: عنى بها جميع المشركين من مشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذلك أهل الكتابين، أهل التوراة والإنجيل.
ذكر من قال: عنى بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمدبن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قوله: " وأنتم تعلمون "، أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والأرض، ثم تجعلون له أندادًا.
ذكر من قال: عنى بذلك أهل الكتابين:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "، أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد،مثله.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأنتم تعلمون "، يقول: وأنتم تعلمون أنه لا ند له في التوراة والإنجيل.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها، بجحودها وحدانية ربها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإن ذلك لقول! ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" ( الزخرف: 87،) وقال: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون" (يونس: 31).
فالذي هو أولى بتأويل قوله: "وأنتم تعلمون " إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: "وأنتم تعلمون " أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تحدى الناس كلهم بقوله: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم" أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه، يشرك معه في عبادته غيره، كائناً من كان من الناس، عربياً كان أو أعجميًا، كاتباً أو أميًا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم، وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركاً فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى : "الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" .
قوله تعالى : "الذي جعل لكم الأرض فراشا" فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "الذي جعل" معناه هنا صبر لتعديه الى مفعولين . ويأتي بمعنى خلق ، ومنه قوله تعالى : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة" . وقوله : "وجعل الظلمات والنور" . ويأتي بمعنى سمى ، ومنه قوله تعالى : "حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا" . وقوله "وجعلوا له من عباده جزءا" . "جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا" أي سموهم . ويأتي بمعنى أخذ ، كما قال الشاعر :
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابها
وقد تأتي زائدة ، كما قال الآخر :
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر
وقد قيل في قوله تعالى : "وجعل الظلمات والنور" : أنها زائدة . وجعل واجتعل بمعنى واحد ، قال الشاعر :
ناط أمر الضعاف واجتعل الليـ ل كحبل العادية الممدود
"فراشا" أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها . وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفتشس منها ، لأن الجبال كالأوتاد ، كما قال : "ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا" . والبحار تركب إلى سائر منافعها ، كما قال : "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" .
الثانية : قال أصحاب الشافعي : لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث ، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفاً . وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين ، فإن عدم ذلك فالعرف .
الثالثة : قوله تعالى : "والسماء بناء" السماء للأرض كالسقف للبيت ، ولهذا قال وقوله الحق : "وجعلنا السماء سقفا محفوظا" . وكل ما علا فأظل قيل له سماء ، وقد تقدم القول فيه . والوقف على بناء أحسن منه على تتقون ، لأن قوله : "الذي جعل لكم الأرض فراشا" نعت للرب . ويقال : بنى فلان بيتاً ، وبنى على أهله ـ بناء فيهما ـ أي زفها . والعامة تقول : بنى بأهله ، وهو خطأ ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها ، فقيل لكل داخل بأهله : بان . وبنى ( مقصوراً ) شدد للكثرة ، وابتنى داراً وبنى بمعنى ، ومنه بنيان الحائط ، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت .
وأصل الماء موه ، قلبت الواو الفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقتل ماه ، فالتقى حرفان خفيان فبدلت من الهاء همزة ، لأنها أجلد ، وهي بالألف أشبه ، فقتل : ماء ، الألف الأولى عين الفعل ، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء ، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين . قال أبو الحسن : لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين ، وإن شئت بثلاث ، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا : مويه وأمواه ومياه ، مثل جمال وأجمال .
الرابعة : قوله تعالى : "فأخرج به من الثمرات رزقا لكم" الثمرات جمع ثمرة . ويقال : ثمر مثل شجر . ويقال ثمر مثل خشب . ويقال : ثمر مثل بدن . وثمار مثل إكام جمع ثمر . وسيأتي لهذا مزيد بيان في الأنعام إن شاء الله . وثمار السياط : عقد أطرافها .
والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات ، وأنواعاً من النبات . "رزقا" طعاماً لكم ، وعلفا لدوابكم ، وقد بين هذا قوله تعالى : "أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم" . وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله .
فإن قيل : كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له : لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع ، فهي رزق .
الخامسة : قلت : ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، ولهذا قال عليه السلام مشيراً إلى هذا المعنى :
"والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحداً أعطاه أو منعه" . أخرجه مسلم . ويدخل في معنى الاحتطاب دميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله نداً . وقال علماء الصوفية : أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر ، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء ، والماء طيبا والكلأ طعاماً ، ولا تعبد أحداً في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا ، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه ، من غير منة فيه لأحد عليك . وقال نوف البكالي : رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا امير المؤمنين ، قال : طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيبا ، والقرآن والدعاء دثاراً وشعاراً ، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام ... وذكر باقي الخبر ، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى : "أجيب دعوة الداع" إن شاء الله تعالى .
السادسة : قوله تعالى : "فلا تجعلوا" نهي . "لله أندادا" أي أكفاء وأمثالا . ونظراء ، واحدها ند ، وكذلك قرأ محمد بن السميقع نداً . قال الشاعر :
نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعل
وقال حسان :
اتهجوه وليست له بند فشركما لخير كما الفداء
ويقال : ند و نديد ونديدة على المبالغة ، قال لبيد :
لكيلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعما
وقال أو عبيدة : أندادا اضدادا . النحاس : أندادا مفعول أول ، و لله في موضعن الثاني : الجوهري : والند ( بفتح النون ) : التل المرتفع في السماء . والند من الطيب ليس بعربي . وند العبير يند نداً ونداداً وندودا : نفر وذهب على وجهه ، ومنه قرأ بعضهم "يوم التناد" . وندد به أي شهره وسمع به .
السابعة : قوله تعالى : "وأنتم تعلمون" ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والخطاب للكافرين والمنافقين ، عن ابن عباس .
فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى . فالجواب من وجهين : أحدهما : "وأنتم تعلمون" يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق ، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد . الثاني : أن يكون المعنى وانتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، والله أعلم . وفي هذا دليل على الأمر بإستعمال حجج العقول وإبطال التقليد . وقال ابن فورك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد .
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف، كما قال في الاية الأخرى "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون" " وأنزل لكم من السماء ماء " والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن، ومن أشبه آية بهذه الاية قوله تعالى: "الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين "عن ابن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث، وكذا حديث معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" الحديث، وفي الحديث الاخر "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن اليهود، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد، قال ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً ؟ قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الاية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه، وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم "عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده" رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به، هذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: "فلا تجعلوا لله أنداداً" قال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك، وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء وشئت، قال: "أجعلتني لله نداً" وفي الحديث الاخر: "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان" قال أبو العالية فلا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد، وقال مجاهد "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الاية الكريمة
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهم وإما أن إبلغهن، فقال يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهم وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا، وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ فقال: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسملين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الاية قوله: وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وهذه الاية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوال والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع، فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإلــه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وقال آخرون من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والايات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
22- و"فراشاً" أي وطاء يستقرون عليها. لما قدم نعمة خلقهم اتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال: "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً". وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى. ثم امتن عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قبلت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات وأنواعاً من النبات ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ند، وهو المثل والنظير. وقوله: "وأنتم تعلمون" جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: "ولكن لا يعلمون" "ولكن لا يشعرون" "وما كانوا مهتدين" "صم بكم عمي". فيقال إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد. قال ابن فورك: المراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد. وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان "يا أيها الذين آمنوا" فهو أنزل بالمدينة، وما كان "يا أيها الناس" فهو أنزل بمكة. وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه. وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران. وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الناس" قال: هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "لعلكم" يعني كي. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: لعل من الله واجب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً" أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار "والسماء بناء" قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل: المطر من السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض والبذر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له الأبزم، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على الحساب مثل البعير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال: إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف فكان لؤلؤاً. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء". وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنن ابن عباس قال: ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: المطر مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر، وإذا قل المزاج قلت البركة وإن كثر المطر. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر ومن يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فلا تجعلوا لله أنداداً" أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع "وأنتم تعلمون" أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أنداداً" قال: أشباهاً. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود "أنداداً" قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "أندادا " قال : شركاء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: جعلتني لله نداً ما شاء الله وحده". وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت: "جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: وكيف؟ قال: يقول أحدكم لا والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف فليحلف برب الكعبة. فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قال منكم ما شاء الله قال: ثم شئت" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة "أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم مر برهط من النصارى فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: إن طفيلاً رأى رؤيا وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده لا شريك له" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث.
22. " الذي جعل لكم الأرض فراشاً " أي بساطاً وقيل مناماً وقيل وطاء أي ذللها ولم يجعلها حزنة لايمكن القرار عليها قال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهوخلقك قلت: إن ذلك عظيم. ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك . قلت: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك " والجعل هاهنا بمعنى الخلق " والسماء بناء " وسقفاً مرفوعاً.
" وأنزل من السماء " أي من السحاب " ماء " وهو المطر " فأخرج به من الثمرات " من ألوان الثمرات وأنواع النبات " رزقاً لكم " طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم " فلا تجعلوا لله أنداداً " أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله. قال أبو عبيدة: الند الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد. " وأنتم تعلمون " أنه واحد خالق هذه الأشياء.
22-" الذي جعل لكم الأرض فراشاً " صفة ثانية ، أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله :
فقد جعلت قلوص بني سهيل من الأكوار مرتعها قريب
وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : " وجعل الظلمات والنور " وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : " جعل لكم الأرض فراشاً " والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى . ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً ظاهراً عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها . واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها .
" والسماء بناءً " قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل : جمع سماءة . والبناء مصدر ، سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباءً جديداً .
" وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم " عطف على ( جعل ) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجاً من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً ، وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و " من " الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر . أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً . و " من " الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : " فأخرجنا به ثمرات " واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقاً كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثماراً . أو للتبيين ، و رزقاً مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً . وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيد قراءة من قرأ : من الثمرة على التوحيد . أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : " كم تركوا من جنات وعيون " وقوله : " ثلاثة قروء " . أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة . و " لكم " صفة رزقاً إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقاً إياكم .
" فلا تجعلوا لله أنداداً " متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه . أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له . أو بلعل على أن نصب تجعلوا فاطلع في قوله تعالى : " لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع " إلحاقاً لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أنداداً ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبراً على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به . والند : المثل المناوىء ، قال جرير :
أتيماً تجعلون إلي نداً وما تيم لذي حسب نديد
من ند يند ندوداً : إذا نفر ، وناددت الرجل خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركين من دون الله ( أنداداً ) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ند . ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير
" وأنتم تعلمون " حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن متشابهة المخلوقات . أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : " هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء " وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف .
واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكل والمشروب . ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى ، رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حد مطلعاً .
22. Who hath appointed the earth a resting-place for you, and the sky a canopy; and causeth water to pour down from the sky, thereby producing fruits as food for you. And do not set up rivals to Allah when ye know (better).
22 - Who has made the earth your couch, and the heavens your canopy; and sent down rains from the heavens; and brought forth therewith fruits for your sustenance; then sent not up rivals unto God when ye know (the truth).