224 - (والشعراء يتبعهم الغاوون) في شعرهم فيقولون به ويروونه عنهم فهم مذمومون
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله والشعراء يتبعهم الغاوون الايات
واخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه وأخرج عن عروة قال لما نزلت والشعراء إلى قوله ما لا يفعلون قال عبد الله بن رواحة قد علم الله أني منهم فأنزل الله إلا الذين آمنوا إلى آخر السورة
وأخرج ابن جرير والحاكم عن ابي حسن البراد قال لما نزلت والشعراء الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فقالوا يا رسول الله والله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء هلكنا فأنزل الله إلا الذين آمنوا الآية فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليهم
يقول تعالى ذكره : والشعراء يتبعهم أهل الغي لا أهل الرشاد والهدى .
واختلف أهل التأويل في الذين وصفوا بالغي في هذا الموضع فقال بعضهم : رواة الشعر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، قال : ثنا قيس ، عن يعلى ، عن عكرمة عن ابن عباس ، وحدثني أبو كريب ،قال : ثنا طلق بن غنام ، عن قيس ، وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن يعلى بن النعمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس "والشعراء يتبعهم الغاوون " قال : الرواة .
وقال آخرون : هم الشياطين .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، قوله " والشعراء يتبعهم الغاوون " الشياطين .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " يتبعهم الغاوون " قال : يتبعهم الشياطين .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد و عبد الرحمن ، قالا : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن عكرمة ، في قوله :" والشعراء يتبعهم الغاوون "قال : عصاة الجن .
وقال أخرون : هم السفهاء ، وقالوا : نزل ذلك في رجلين تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،قوله : " والشعراء يتبعهم الغاوون " ، قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وأنهما تهاجيا ، وكان مع كل أحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء ، فقال الله " والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " والشعراء يتبعهم الغاوون " قل : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، تهاجيا مع كل واحد غواة من قومه ، وهم السفهاء .
وقال آخرون : هم ضلال الجن والإنس .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاية ، عن علي ، عن ابن عباس " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال : هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال : الغاوون المشركون .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال فيه ما قال الله جل ثناؤه : إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ، ومردة الشياطين ، وعصاة الجن ، وذلك أن الله عم بقوله : " والشعراء يتبعهم الغاوون " فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض ، فذلك على جميع أصناف الغواة التي دخلت في عموم الآية . قوله : " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أنهم ، يعني الشعراء ، في كل واد يذهبون ، كالهائم على وجهه على غير قصد ، بل جائرا على الحق ، وطريق الرشاد ، وقصد السبيل . وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتننانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق ، فيمدحون بالباطل قوما ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " يقول : في كل لغو يخوضون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " في كل واد يهيمون " قال : في كل فن يفتنون .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " قال : فن " يهيمون " قال : يقولون .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " في كل واد يهيمون " قال : يمدحون قومابباطل ، ويشتمون قوما بباطل .
وقوله : " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب .
كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يقول : أكثر قولهم يكذبون . وعنى بذلك شعراء المشركين .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جل ثناؤه : " والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات "... الخ . فقال : فرجت عني يا أبا أسامة ، فرج الله عنك .
وقوله : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وهذا استثناء من قوله : " والشعراء يتبعهم الغاوون " " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " . وذكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ثم هو لكل من كان بالصفة التي وصفه الله بها .
وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة و علي بن مجاهد ، و إبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " قال : جاء حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " إلى آخر السورة في حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك .
قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة و طاوس ، قالا : قال : " والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون " ، فنسخ من ذلك واستثنى ، قال : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ... الآية .
حدثني علي ، قال : ثنا أبوصالح ، قال ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم استثنى المؤمنين منهم ،يعني الشعراء ، فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ".
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، فذكر مثله .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال : هم الأنصار الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال :ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد قال : لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة .
وقوله " وذكروا الله كثيرا " اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء ، فقال بعضهم : هي حال منطقهم ومحاوتهم الناس ، قالوا : معنى الكلام : وذكروا الله كثيرا في كلامهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال :ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " في كلامهم .
وقال آخرون : بل ذلك في شعرهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وذكروا الله كثيرا " قال : ذكروا الله في شعرهم .
قال أبو جعفر : واولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا ، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه ، ولا على لسان رسوله فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كل أحوالهم .
وقوله : " وانتصروا من بعد ما ظلموا " يقول : وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم ، وإجابتهم عما هجوهم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبدالله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وانتصروا " من المشركين " من بعد ما ظلموا " .
وقيل : عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا علي بن مجاهد وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم بن البراد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون "جاء حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا " .
حدثنا القاسم ، قال :ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " ثم ذكر نحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال :ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قل : ثنا الحسن . قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد ، قوله " وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال عبدالله بن رواحة وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وانتصروا من بعد ما ظلموا " قال : عبدالله بن رواحة .
وقوله : " وسيعلم الذين ظلموا " يقول تعالى ذكره : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة " أي منقلب ينقلبون " يقول : أي مرجع يرجعون إليه ، وأي معاد يعودون إليه بعد مماتهم ، فإنهم يصيرون إلى نار لا يطفأ سعيرها ، ولا يسكن لهبها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، وعلي بن مجاهد ، و إبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " يعني : أهل مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " قال : وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أي منقلب ينقلبون .
قوله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون " فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : (والشعراء) جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء ، قال ابن عباس : هم الكفار ( يتبعهم ) ضلال الجن والإنس ، . وقيل ( الغاوون ) الزائلون عن الحق ، ودل بهذا أن الشعراء أيضاً غاوون ، لأنهم لو لم يكونوا غلوين ما كان أتباعهم كذلك . وقد قدمنا في سورة ( النور ) أن من الشعر ماا يجوز إنشاده ، ويكره ، ويحرم . ورى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : " ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء " قلت : نعم . قال : ( هيه ) فأنشدته بيتاً . فقال : ( هيه ) ثم أنشدته بيتاً . فقال : ( هيه ) حتى أنشدته مائة بيت . هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته . وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه ، وهو وهم ، لأن لاشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم . واسم أبي الشريد سويد . وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعاً وطبعاً ، وإنما أستكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ، لأنه كان حكيماً ، ألا ترى قوله عليه سلام : " وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم " فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندون إليه ، كقول القائل :
الحمد لله العلي المنان صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس :
من قلها طبت في الظلال وفي مست حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلادد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يفضض الله فاك ". أو الذب عنه كقول حسان :
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذالك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم . أو الصلاة عليه ، كما روى زيد بن أسلم ، خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحاً في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفاً وتقول :
على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قوماً بكاً بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس عمر يبكي . وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ، ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال :
إني ررضيت عليا للهدى علماتً كما رضيت عتيقاً صاحب الغار .
وقد رضيت أبا حفص وشيعته وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
وكل الصحابة عندي قدوة علم فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أنبي لا أحبهم إلا من اجلك فاعتقني من النار وقال لآخر فأحسن :
حب النبي رسول الله مفترض وحب أصحابة نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولاى الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي : أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد ، فبذلك يضر الملك الموكل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تحلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشببيهات بكل بديع ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولاى ينكر في تشبيه ريقها بالراح . وأنشد أبو بكر رضي الله عنه :
فقدنا الوحي إذ وليت عنا وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهيناً توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا . قال أبو عمر : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحاً ، ولم يكن فيه فحش ولاى خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو المنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله ، وروى أبو هريرة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول أصدق كلمة _ أو أشعر كلمة _ قالتها العرب" قول لبيد :
ألاكل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد " وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم " وروي عن ابن سرين أنه أنشد شعراً فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر . فقال : ويلك يا لكع ! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ن ,فحسنه حسن وقبيحه قبيح ! قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر . قال : وسمعت ابن عمر ينشد :
بجب الخمر من مال الندامى ويكره أن يفارقه الغلوس
وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعراً مجيداً مقدماً فيه . وللزبير بن بكار القاضي في أشعاغره كتاب ، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها ، وله فيها أشعار كثيرة ، منها قوله :
تغلغل حب عثمة في فؤادي فبادية مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنساناً يطير
وقال ابن شهاب : قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك ! فقال : إن المصدور إذا نفث برأ .
الثانية : وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم ، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء ، رغبة في تسلية النفس وتحسن القول ، كما روي عن الفرزق أن سليما بن عبد الملك سمع قوله :
فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام
فقال : وقد وجب عليك الحد . فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد .قوله تعالى : " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " . روي أن النعمان بن عدي بن نظلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :
من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه . وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك . فقال يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً مما قلت ، وإنما كانت فظلة من القول ، وقد قال الله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فقال له عمر : أما عذرك فقد درأ عذرك فقد درأ عنك الحد ، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلت ما قلت . وذكر الزبير بن بكار قال : حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة و الأحوص فكتب إلى عامله على المدينة : إني قد عرفت عمر و الأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما واحملها إلي . وفلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ، فقال هيه !
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذاهوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نجو الجمرة البيض كالدمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون ! ثم أمر بنفيه . فقال : يا أمير المؤمنين ! أو خير من ذلك ؟ فقال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله إني لا أعود إلى مثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدأ . وأجدد توبة ، فقال : أو تفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد على توبته وخلاه ، ثم دعا بالأحوص ، فقال هيه !
الله بيني وبين قيمها يفر مني بها وأتبع
بل الله بين قيمها وبينك ! ثم أمر بنفيه ، فكلمه في رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فإنه فاسق مجاهر . فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه ، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره ، كمنثور الكلام القبيح ونحوه .
وروى إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام " رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل العلم صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشعر بمنزلة الكلام حسنة كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام " .
الثالثة : روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً " وفي الصحيح أيضاً " عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا الشيطان _ أو أمسكوا الشيطان _ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً " قال علماؤنا : وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقاً للتكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الخجو والذم إذا منع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم . ولا خلاف في أن من كل على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام . وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ، فإن لم يمكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعاً تعين علليه أن يداريه يما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل له أن عطى شيئاً ابتداء ، لأن ذلك عون على المعصية ، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض ، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة . وقلت قوله : ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه ) القيح : المدة [ لا] يخالها دم . يقال منه : قاح الجرح يقيص وتقيح وقيح . و( يريه ) قال الأصمعي : هو من الروي على مثال الرمي وهو أن يدوى جوفه ، يقال منه : رجل موري مشدد غير مهموز . وفي الصحاح : روى القيح جوفه يريه وريا إذا أكله . وأنشد اليزيدي :
قالت له ورياً إذا تنحنحا
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله : إنه الذي قد غلب عليه الشعر ، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ، ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول . ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية ، لحكم العادة الأدبية . وهذا المعنى هون الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث " باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر " . وقد قيل في تأويله : إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره . وهذا ليس بشيء ، لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محم قليله وكثيره ، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى .
الرابعة : قال الشافعي : الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته ، وقد كان عند العرب عظيم الموقع . قال الأول منهم :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين : " إنه لأسرع فيهم من رشق النبل " أخرجه مسلم . وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة !في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل " .
الخامسة : قوله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون " لم يختلف القراء في رفع و الشعراء فيما علمت . ويحوز النصب على إضمار فعل يفسره ( ويتبعهم ) وبه قرأ عيس بن عمر ، قال أبو عبيد : كان الغالب عبيه حب النصب ، قرأ : "والسارق والسارقة " [ المائدة : 38] و" حمالة الحطب " [ المسد : 4] و " سورة أنزلناها " [ النور : 1] وقرأ نافع و شيبة و الحسن و السلمي : ( يتبعهم ) مخففاً . الباقون ( يتبعهم ) . وقال الضحاك : تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت ، وقاله ابن عباس . وعنه هم الرواة للشعراء وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس ، وقد ذكرناه وروى عضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه " وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليسس ربه وجمع إليه ذريته ، فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد علي الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما _ يعني مكة والمدينة _ الشعر .
يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق, وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه, أو أنه أتاه به رئي من الجان, فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم, ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله, وأنه تنزيله ووحيه, نزل به ملك كريم أمين عظيم, وأنه ليس من قبل الشياطين, فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة, ولهذا قال الله تعالى: "هل أنبئكم" أي أخبركم "على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم" أي كذوب في قوله وهو الأفاك "أثيم" وهو الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان, وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة, فإن الشياطين أيضاً كذبة فسقة "يلقون السمع" أي يسترقون السمع من السماء, فيسمعون الكلمة من علم الغيب, فيزيدون معها مائة كذبة, ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس, فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء, كما صح بذلك الحديث.
كما رواه البخاري من حديث الزهري : أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان, فقال "إنهم ليسوا بشيء قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج, فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة". وروى البخاري أيضاً: حدثنا الحميدي , حدثنا سفيان , حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله, كأنها سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال: الحق, وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترقو السمع, ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ـ وصف سفيان بيده, فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائة كذبة, فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" تفرد به البخاري . وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس , عن رجال من الأنصار قريباً من هذا, وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ "حتى إذا فزع عن قلوبهم" الاية.
وقال البخاري : وقال الليث : حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الملائكة تحدث في العنان ـ والعنان: الغمام ـ بالأمر في الأرض, فتسمع الشياطين الكلمة, فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة, فيزيدون معها مائة كذبة". ورواه البخاري في موضع آخر في كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم , عن الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن , عن عروة عن عائشة بنحوه.
وقوله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن, وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما. وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس, ولهذا فئام من الناس, فأنزل الله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون". وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , حدثنا ليث عن ابن الهاد عن يحنس مولى مصعب بن الزبير , عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "خذوا الشيطان ـ أو أمسكوا الشيطان ـ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً".
وقوله تعالى: "ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : في كل لغو يخوضون. وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام, وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري : قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها مرة في شتمه فلان, ومرة في مدحة فلان. وقال قتادة : الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل. وقوله تعالى: "وأنهم يقولون ما لا يفعلون" قال العوفي عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار, والاخر من قوم آخرين, وإنهما تهاجيا, فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه, وهم السفهاء, فقال الله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر. فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم, فيتكثرون بما ليس لهم, ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله: فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا, لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات, والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة, أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة, وكان يقول الشعر, فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذوا على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك, ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته, وكتب إليه عمر " بسم الله الرحمن الرحيم " " حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ـ أما بعد ـ قد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر, فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط, وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك, ولكن والله لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلت ما قلت, فلم يذكر أنه حده على الشراب, وقد ضمنه شعره, لأنهم يقولون ما لا يفعلون, ولكنه ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به, ولهذا جاء في الحديث "لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلىء شعراً" والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر, لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة, كما قال تعالى: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين" وقال تعالى: "إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين" وهكذا قال ههنا: "وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين" إلى أن قال " وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون " إلى أن قال " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ".
وقوله "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط , عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال: لما نزلت "والشعراء يتبعهم الغاوون" " جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون, فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الاية أنا شعراء, فتلا النبي "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال : أنتم "وذكروا الله كثيراً" قال : أنتم "وانتصروا من بعد ما ظلموا" قال : أنتم " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق , وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة , عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عبد الله , عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة , أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الاية "والشعراء يتبعهم الغاوون" يبكيان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها عليهما "والشعراء يتبعهم الغاوون" حتى بلغ "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال "أنتم".
وقال أيضاً حدثنا أبي , حدثنا أبو مسلم , حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: لما نزلت "والشعراء يتبعهم الغاوون" إلى قوله "وأنهم يقولون ما لا يفعلون" قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم, فأنزل الله تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الاية, وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد: أن هذا استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء, ولكن هذه السورة مكية, فكيف يكون سبب نزول هذه الايات شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر, ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها, والله أعلم, ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى يدخل فيه من كان متلبساً من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله, ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحاً, وذكر الله كثيراً في مقابلة ما تقدم من الكلام السيء. فإن الحسنات يذهبن السيئات, وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه, كما قال عبد الله بن الزبعري حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب , كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمه وأكثرهم له هجواً, فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يهجوه, ويتولاه بعد ما كان قد عاداه, وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال: " يا رسول الله ثلاث أعطنيهن, قال : نعم قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك ؟ قال : نعم قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال : نعم وذكر الثالثة" , ولهذا قال تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً" قيل: معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم, وقيل في شعرهم. كلاهما صحيح مكفر لما سبق.
وقوله تعالى: "وانتصروا من بعد ما ظلموا" قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين, وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد, وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان " اهجهم ـ أو قال ـ هاجهم وجبريل معك". وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل, فقال "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه, والذي نفسي بيده, لكأن ما ترمونهم به نضح النبل".
وقوله تعالى: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون", كقوله تعالى: "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم" الاية, وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة", قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" يعني من الشعراء وغيرهم, وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة قال: حضرت الحسن ومر عليه بجنازة نصراني, فقال: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". وقال عبد الله بن أبي رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الاية بكى, حتى أقول قد اندق قضيب زوره, "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
وقال ابن وهب : أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم, فبينما هم ليلة على نار يشتوون عليها أو يصطلون, إذا بركاب قد أقبلوا فقاموا إليهم, فإذا فضالة بن عبيد فيهم, فأنزلوه فجلس معهم ـ قال ـ وصاحب لنا قائم قال يصلي حتى مر بهذه الاية "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت. وقيل: المراد بهم أهل مكة, وقيل الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن هذه الاية عامة في كل ظالم. كما قال ابن أبي حاتم : ذكر عن زكريا بن يحيى الواسطي , حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي , حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المحبر , حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا, حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب, إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب, فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه, وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". آخر تفسير سورة الشعراء, والحمد لله رب العالمين.
فقال: 224- "والشعراء يتبعهم الغاوون" والمعنى: أن الشعراء يتبعهم: أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون: أي الضالون عن الحق، والشعراء جمع شاعر، والغاوون جمع غاو، وهم ضلال الجن والإنس. وقيل الزائلون عن الحق، وقيل الذين يرون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز، وقيل المراد شعراء الكفار خاصة. قرأ الجمهور "والشعراء" بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر الشعراء بالنصب على الاشتعال، وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي "يتبعهم" بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
قوله عز وجل: 224- "والشعراء يتبعهم الغاوون". قال أهل التفسير: أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر مقاتل أسماءهم، فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومشافع بن عبد مناف. وأبو عزة بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب وبالباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويروون عنهم وذلك.
قوله: "والشعراء يتبعهم الغاوون"، هم الرواة الذين يروون هجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وقال قتادة ومجاهد: الغاوون هم الشياطين.
وقال الضحاك: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، ومع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية. وهي رواية عطية عن ابن عباس.
224 -" والشعراء يتبعهم الغاوون " وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك ، وهو استئناف أبطل كونه عليه والصلاة والسلام شاعراً وقرره بقوله :
224. As for poets, the erring follow them.
224 - And the Poets, it is those straying in Evil, who follow them: