(والذين يتوفون) يموتون (منكم ويذرون) يتركون (أزواجاً يتربصن) أي ليتربصن (بأنفسهن) بعدهم عن النكاح (أربعة أشهر وعشرا) من الليالي وهذا في غير الحوامل وأما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق والأمة على النصف من ذلك بالسنة (فإذا بلغن أجلهن) انقضت مدة تربصهن (فلا جناح عليكم) أيها الأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) من التزين والتعرض للخطاب (بالمعروف) شرعا (والله بما تعملون خبير) عالم بباطنه كظاهره
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من الرجال، أيها الناس، فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن بأنفسهن. فإن قال قائل: فأين الخبر عن "الذين يتوفون"؟. قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: بعض جبتك متخرقة، في ترك الخبر عما ابتدىء به الكلام، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدىء بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه، كما قال الشاعر:
لعلي إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبي ذبان أن يتندما
فقال: لعلي ، ثم قال: أن يتندما، لأن معنى الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، إن مالت بي الريح ميلة عليه، فرجع بالخبر إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر:
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله بغير دم، دار المذلة حلت
فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله إنه ذل.
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر "الذين يتوفون" متروك، وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر موتهم ، كما يحذف بعض الكلام- وأن "يتربصن" رفع، إذ وقع موقع ينبغي ، وينبغي رفع. وقد دللنا. على فساد قول من قال ب رفع "يتربصن" بوقوعه موقع ينبغي فيما مضى، فأغنى عن إعادته. وقال اخر منهم: إنما لم يذكر "الذين" بشيء، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء: من يلقك منا تصب خيرا، الذي يلقاك منا تصيب خيرا. قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء. قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما دلالة واضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا.قال أبو جعفر: وأما قوله: "يتربصن بأنفسهن"، فإنه يعني به: يحتبسن بأنفسهن- معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر وعشرا،إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم مثل ما قلنافيه:حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا، فعدتها أن تضع ما في بطنها.حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب في قول الله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وان استاخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر، لا يحلها إلا أن تضع حملها.قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بـ التربص ما وصفنا، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:-حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة، وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حميد بن نافع قال: سمعت- زينب ابنة أم سلمة تحدث، قال أبوكريب: قال أمحو أسامة: "عن أم سلمة، أن امرأة توفي عنها زوجها واشتكت عينها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال: لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، فتمكث فى بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا".
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا، عن صفية ابنة أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي-صلى الله عليه وسلم تحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ". قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغاً بورس ولا زعفران، ولا تكتحل، و لا تزين.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفية ابنة أبي عبيد، عن حفصة ابنة عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، الا على زوج".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته، عن أم سلمة- أو أم حبيبة- زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها، وأنها قد خافت على عينها، فزعم حميد عن زينب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وانما هي أربعة أشهر وعشر".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر" قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا، فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة، عن يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها، أفتكتحل؟ فقال قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! قال، قلت: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ قال: كان نساء أهل الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، وجلست في أخس بيوتها، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت: قد حللت".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميدبن نافع، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد خفت على عينها، وهي تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر!". قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى أشر بيت لها فجلست فيه، حتى إذا مرت بها سنة خرجت، ثم رمت ببعرة وراءها.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغاً ولا معصفراً، ولا تكتحل بالإثمد، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الاثمد مما ليس فيه طيب، ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا تكتحل، ولا تطيب، ولا تبيت عن بيتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا. الا ثوب عصب تجلبب به.حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا، ولا تمس طيبا، ولا تكتحل، ولا تمتشط، وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد. وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه. ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا.حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، لم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث شاءت.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل تعتد في بيتها، فلتعتد حيث شاءت. واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص، وبما:-حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال، حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا أبو عامر، قالا جميعا، حدثنا محمدبن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شدادبن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت ".حدثنا أبوكريب قال، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت، عن محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أن لا إحداد على المتوفى عنها زوجها"، وأن القول في تأويل قوله: "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، إنما هو: يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره. قال أبو جعفر: وأما الذين وجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها، فإنهم اعتلوا بظاهر التنزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو داخل في عموم الاية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر الذي قلنا في الزينة والطيب، وأما في النقلة فإن:- أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد، عن فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، "عن الفريعة ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار، فأستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت اليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله. قالوا: فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها،وبطل ما خالفه " . قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له، بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. قالوا: وأما الخبر الذي " روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا"، ثم أن تصنع ما بدا لها- فإنه غير دال على أن لا حداد على المرأة، بل إنما دل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلى الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك: أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟.قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها.فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل: "وعشرا"؟ ولم يقل: وعشرة؟ والعشر بغير الهاء من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن جاز ذلك المعنى فيه ما قلت، فهل تجيز: عندي عشر، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟. قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال والنساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون: صمنا عشرا من شهر رمضان، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره، أسقطوا من عدد المؤنث الهاء، وأثبتوها في عدد المذكور، كما قال تعالى ذكره: "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما" [الحاقة: 7]، فأسقط الهاء من سبع وأثبتها في الثمانية. وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى شاة، وقيل للذكور والإناث من البقر: بقر، وليس كذلك في بني آدم.
فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟.
قيل: قد قيل في ذلك، بما:-حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم، عن سعيد، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك بعد انقضاء عددهن، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة، "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء- أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقلة من المسكن الذي كن يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه، "بالمعروف"، يعني بذلك: على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. وقد قيل: إنما عني بذلك النكاح خاصة. وقيل: إن معنى قوله: "بالمعروف" إنما هو النكاح الحلال. ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: الحلال الطيب.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمدبن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: المعروف النكاح الحلال الطيب.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: قوله: "فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: هو النكاح الحلال الطيب.حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو النكاح.حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: "فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: "والله بما تعملون"، أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، "خبير"، يعني ذوخبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء.
فيه خمس وعشرون مسألة :
الأولى قوله تعالى : " والذين يتوفون منكم " لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع ، ذكر عدة الوفاة أيضاً ، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق (( والذين )) أي والرجال الذين يموتون منكم " ويذرون أزواجا " أي يتركون أزواجاً ، أي ولهم زوجات ، فالزوجات " يتربصن " ، قال معناه الزجاج واختاره النحاس ، وحذف المبتدأ في الكلام كثير ، كقوله تعالى : " قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " [ الحج : 72 ] ، أي هو النار ، وقال أبو علي الفارسي : تقديره والذي يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم ، وهو كقولك : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم ، وقيل التقدير وأزواج الذي يتوفون منكم يتربصن ، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز ، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذي يتوفون وقال بعض نحاة الكوفة : الخبر عن (( الذين )) متروك ، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ، وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم .
الثانية : هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص ، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقول : " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " [ الطلاق : 4 ] ، وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل ، " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " [ البقرة : 240 ] ، لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفي الرجل وخلف امرأته حاملاً أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج ، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، وبالميراث ، وقال قوم ، لس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول ، كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخاً وهذا غلط بين ، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج ، فإن خرجت لم تمنع ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً ، وهذا هو النسخ ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها ، وسيأتي .
الثالثة : عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين ، وأختاره سحنون من علمائنا ، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا والحجة لما روي عن علي وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى :" والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " وبين قوله : " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " [ الطلاق : 4 ] ، وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول ، وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من " حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال ، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج " ، أخرجه في الصحيح ، فبين الحديث أن قوله تعالى : " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " [ الطلاق : 4 ] ، محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن ، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين ، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود :
ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة ، قال علماؤنا : وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده ، والله أعلم ، وإنما يعني أنها مخصصة لها ، فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها ،وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة ، لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع ، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً ، توفي بمكة حينئذ وهي حامل ، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة ، وولدت بعده بنصف شهر ، وقال البخاري : بأربعين ليلة ، وروى مسلم من حديث عمر بن عبد الله بن الأرقم : أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت : فأفتاني بأني قد حللت حين وضعن حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي ، قال ابن شهاب ، ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها ، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء وقال الحسن و الشعبي و النخعي و حماد : لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها ، فاشترطوا شرطين : وضع الحمل ، والطهر من دم النفاس والحديث حجة عليهم ، ولا حجة لهم في قوله : (( فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب )) كما في صحيح مسلم و أبي داود ، لأن (( تعلت )) وإن كان أصله طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل ، فيحتمل أن يكون المراد به هاهنا تعلت من آلام نفاسها ، أي استقلت من أوجاعها ، ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه ، وإنما الحجة في " قوله عليه السلام لسبيعة : قد حللت حين وضعت " ، فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه ، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت ، فصح ما قاله الجمهور .
الرابعة : ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك ، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها .
واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم ، وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلاً لو توفي وترك امرأة حاملاً فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد ، فعلم أن المقصود الولادة .
الخامسة : قوله تعالى : " يتربصن " التربص : التأني والتصبر عن النكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلاً ، ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى : " أسكنوهن " [ الطلاق : 6 ] ، ولس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد ، وإنما قال : (( يتربصن )) فبينت السنة جميع ذلك ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد ، وهو الإمتناع من الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، وهذا قول جمهور العلماء ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزوج ، ولها أن تتزين وتتطيب ، وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وثبت " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها : أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فأعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً " ، وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة رواه عنه مالك و الثوري و وهيب بن خالد و حماد بن زيد و عيسى بن يونس وعدد كثير و ابن عيينة و القطان و شعبة ، وقد رواه مالك عن ابن شهاب وحسبك ! قال الباجي : لم يرو عنه غيره ، وقد أخذ به عثمان بن عفان ، قال أبو عمر : وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها ، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه ، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر ، وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت ، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات ، ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف ، قالوا : وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم ، وإيجاب السكنى إيجاب حكم ، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع ، قال أبو عمر : أما السنة فثابتة بحمد الله ، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة ، لأن الإختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة ، وبالله التوفيق ، وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود ، وبه قال جابر بن زيد و عطاء و الحسن البصري قال ابن عباس : إنما قال الله تعالى : " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، ولم يقل يعتددن في بيوتهن ، ولتعتد حيث شاءت ، وروي عن أبي حنيفة ، وذكر عبد الرزاق قال : حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال : خرجت عائشة بأختها أم كلثوم حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله ، إلى مكة في عمرة ، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها ، قال : وحدثنا الثوري عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أبى الناس ذلك عليها قال : وحدثنا معمر عن الزهري قال : أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة ، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر ، وفي الموطأ : أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج ، وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد ، لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازماً لها ، وهو مقتضى القرآن والسنة ، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها ، وقال مالك : ترد ما لم تحرم .
السادسة : إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه ، وعليه أكثر الفقهاء : مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد وغيرهم لحديث الفريعة ، وهل يجوز بيع الدار إذا كانت ملكاً للمتوفى وأراد ذلك الورثة ، فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز ، ويشترط فيه العدة للمرأة ، قال ابن القاسم : لأنها أحق بالسكنى من الغرماء : وقال محمد بن الحكم : البيع فاسد ، لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها ، وجه قول ابن القاسم : أن الغالب السلامة ، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود ، فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت ، قال مالك في كتاب محمد : هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة ، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء ، لأنه دخل على العدة المعتادة ، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسداً ، وقال سحنون : لا حجة للمشتري وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين ، لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين ، ونحو هذا روى أبو زيد عن ابن القاسم .
السابعة : فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة ، فلها السكنى في مدة العدة ، خلافاً لـ أبي حنيفة و الشافعي : لقوله عليه السلام للفريعة ، وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن : " أمكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " ، لا يقال إن المنزل كان لها ، فلذلك قال هلا : " أمكثي في بيتك " ، فإن معمراً روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل ، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته ، وذكر الحديث ، ولنا من جهة المعنى أنه ترك داراً يملك سكناها ملكاً لا تبعة عليه فيه ، فلزم أن تعتد الزوجة فيه ، أصل ذلك إذا ملك رقبتها .
الثامنة : وهذا إذا كان قد أدى الكراء ، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة أنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسراً ، لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكاً تاماً ، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكاً تاماً ، وإنما ملك العوض الذي بيده ، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى ، لأن ذلك مال وليس بسكنى ، وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله .
التاسعة قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة : " أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن ، أو كان أسكن فيه إلى وفاته ، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيها حتى تنقضي عدتها .
العاشرة : واختلفوا في المرأة يأتيها نهي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها ، فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وقال سعيد بن المسيب و النخعي : تعتد حيث أتاها الخبر ، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة ' قال ابن المنذر : قول مالك صحيح ، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان .
الحادية عشرة : ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة ، ولا تبيت في ذلك المنزل ، وفي البخاري و مسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث على زوج أربعة أشهر وعشراً ، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار " ، وفي حديث أم حبيبة : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " الحديث ، الإحداد ، ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها ، لأن الزينة داعية إلى الأزواج ، فنهيت عن ذلك قطعاً للذرائع ، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك ، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء ، يقال : امرأة حاذ ومحد ، قال الأصمعي : ولم نعرف (( حدت )) وفاعل (( لا يحل )) المصدر الذي يمكن صياغته من (( تحد )) مع (( أن )) المرادة ، فكأنه قال : الإحداد .
الثانية عشرة : وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها إنها لا إحداد عليها ، وهو قول ابن كنانة و ابن نافع ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة و ابن المنذر ، وروى عنه ابن القاسم أن عليها الإحداد كالمسلمة ، وبه قال الليث و الشافعي و أبو ثور وعامة أصحابنا ، لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة .
الثالثة عشرة : وفي قوله عليه السلام : " فوق ثلاث إلا على زوج " ، دليل على تحريم إحداد المسلمات علىغير أزواجهن فوق ثلاث ، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثاً تبدأ بالعدة من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها ، فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة .
الرابعة عشرة : هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن ، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار ، وهو مذهب الجمهور من العلماء ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة ، حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي ، قال ابن المنذر ، أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار ، وهو قول مالك و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ، ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافاً ، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها ، لأنها ليست بزوجة ، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج ، قال الباجي : الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك ، وإن كانت لا تدرك شيئاً من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة ، وذلك لازم لها ، والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم : سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فأشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول لا ، ولم يسال عن سنها " ، ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم ، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز ، وأيضاً فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة .
الخامسة عشرة : قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافاً أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة ، إلا ما صبغ بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير و مالك و الشافعي ، وكرهه الزهري ، وقال الزهري : لا تلبس ثوب عصب ، وهو خلاف الحديث ، وفي المدونة قال مالك : لا تلبس رقيق عصب اليمن ، ووسع في غليظه ، قال ابن القاسم : لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن ، قال ابن المنذر : ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض ، قال القاضي عياض : ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كل زينة لا تمسه الحاد رقيقاً كان أو غليظاً ، ونحوه للقاضي عبد الوهاب قال : كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد ، ومنه بعض مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به ، وكذلك الرفيع من السواد ، وروى ابن المواز عن مالك : لا تلبس حلياً وإن كان حديداً ، وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد ، ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي ، والله أعلم .
السادسة عشرة : وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، إلا الحسن فإنه قال : ليس بواجب ، واحتج بما رواه عبد الله بن شداد بن الهاد " عن أسماء بنت عميس قالت : لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسلبي ثلاثاً ثم أصنعي ما شئت " ، قال المنذر : كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد ، وقال : المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا ، وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد ، وليس لأحد بلغته إلا التسليم ، ولعل الحسن لم تبلغه ، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهي امرأته ، فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري وأكتحلي ، قال ابن المنذر ، وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه ، وكان أحمد بن حنبل : هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به ، وقاله إسحاق .
السابعة عشرة : ذهب مالك و الشافعي ، إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة أو أكثر ، وهو قول ربيعة و عطاء ، وذهب الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه و الثوري والحسن بن حي و أبو ثور و أبو عبيد إلى أن المطلقة ثلاثاً عليها الإحداد ، وهو قول سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و ابن سيرين و الحكم بن عيينة ، قال الحكم : هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها ، ومن جهة المعنى أنهما جميعاً في عدة يحفظ بها النسب ، وقال الشافعي و أحمد و إسحاق : الإحتياط أن تتقي المطلقة الزينة قال ابن المنذر : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " ، دليل على أن المطلقة ثلاثاً والمطلق حي لا إحداد عليها .
الثامنة عشرة : أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه ، واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثاً في المرض ، فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق ، هذا قول مالك و الشافعي و يعقوب و أبي عبيدة و أبي ثور قال ابن المنذر ، وبه نقول ، لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء ، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثاً لو ماتت لم يرثها المطلق ، وذلك لأنها غير زوجة ، وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها ، وقال الثوري : تعتد بأقصى العدتين ، وقال النعمان و محمد و: عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض .
التاسعة عشرة : واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه ، فقالت : طائفة : العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق ، هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال مسروق و عطاء وجماعة من التابعين ، وإليه ذهب مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو عبيد و الثوري و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر ، وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر ، روي هذا القول عن علي ، وبه قال الحسن البصري و قتادة و عطاء الخراساني و جلاس بن عمرو وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ، إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق ، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر ، والصحيح الأول لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق ، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة ، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون ، ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها ، وأيضاً فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت حاملاً لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها ، ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر ، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية ، لا يكون إلا بعد العلم والله أعلم .
الموفية عشرين : عدة الوفاة تلزم الحرة ، والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض ، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل ، وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة ايام ، لعموم الآية في قوله تعالى : " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال ، قال ابن العربي : نصف عدة الحرة إجماعاً ، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع ، لكن لصممه لم يسمع قال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين ، وليس بالثابت عنه أنه قال : عدتها عدة الحرة .
قلت : قول الأصم صحيح من حيث النظر ، فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة ، فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر ، فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة ، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة ، والله أعلم ، قال ابن العربي : وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ بها يبرأ الرحم ، وهذا منه فاسد جداً ، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها ، وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها .
قلت : وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها أن كانت غير مدخول بها ، لأنه قد علم براءة رحمها ، وهذا يقتضي أن تتزوج مسلماً أو غيره إثر وفاته ، لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج .
الحادية والعشرون : واختلفوا في عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها ، فقالت طائفة : عدتها أربعة أشهر وعشر ، قاله جماعة من التابعين منهم سعيد و الزهري و الحسن البصري وغيرهم ، وبه قال الأوزاعي و إسحاق ، وروى أبو داود و الدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ح يعني في أم الولد ، لفظ أبي داود ، وقال الدارقطني : موقوف ، وهو الصواب ،وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع عمرو ، قال ابن المنذر : وضعف أحمد و أبو عبيد هذا الحديث ، وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض ، وهو قول عطاء و إبراهيم النخعي و سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، قالوا : لأنها عدة تجب في حال الحرية ، فوجب أن تكون عدة كاملة ، أصله عدة الحرة ، وقال مالك و الشافعي و أحمد و أبو ثور : عدتها حيضة ، وهو قول ابن عمر ، وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها ، وبه قال قتادة قال ابن المنذر : وبقول ابن عمر أقول ، لأنه الأقل مما قيل وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه ، وذكر أختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء ، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها العتق ثلاث حيض .
قلت : أصح هذه الأقوال قول مالك ، لأن الله سبحانه قال : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " ، فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق ، فانتفى بذلك أن يكون عن غيره ، وقول : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة ، فدل على أن الأمة بخلافها ، وأيضاً فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة ، أصل ذلك الأمة .
الثانية والعشرون : إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة ، فالذي ذكره أبو محمد في (( معونته )) أن الحيضة استبراء وليست بعدة ، وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة ، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض ، وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد قال مالك : لا أحب أن تواعد أحداً ينكحها حتى تحيض حيضة ، قال ابن القاسم : وبلغني عنه أنه قال : لا تبيت إلا في بيتها ، فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة .
الثالثة والعشرون : أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثاً أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة ، لقوله تعالى : " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " [ الطلاق : 6 ] .
واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقالت طائفة : لا نفقة لها ، كذلك قال جابر بن عبد الله وابن عباس و سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عكرمة و عبد الملك بن يعلى و يحيى الأنصاري و ربيعة و مالك و أحمد و إسحاق ، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي ، وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال ، وروي هذا القول عن علي وعبد الله وبه قال ابن عمر و شريح و ابن سيرين و الشعبي و أبو العالية و النخعي و جلاس بن عمرو و حماد بن أبي سليمان و أيوب السختياني و سفيان الثوري و أبو عبيد قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ، لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه ، فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه ، وقال القاضي أبو محمد ، لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته ، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : " أربعة أشهر وعشرا " اختلف العلماء في الأربعة الأشهر التي جعلها الله ميقاتاً لعدة المتوفى عنها زوجها ، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا ، فقال بعضهم : لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر ، وإلا فهي مسترابة ، وقال آخرون : ليس عليه أكثر من أربعة أشهر وعشر ، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة ، لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : " وعشرا " روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية أنه سئل : لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر ؟ قال : لأن الروح تنفخ فيها ، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى : وقال الأصمعي ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها مركض وقال غيره : أركضت فهي مركضة وأنشد :
ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام
وقال الخطابي : قوله " وعشرا " يريد والله أعلم الأيام بلياليها ، وقال المبرد : إنما أنث العشر لأن المراد به المدة ، المعنى وعشر مدد ، كل مدة من يوم وليلة ، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر ، وقيل : لم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ، (( وعشراً )) أخف في اللفظ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال ، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة ، تقول : صمنا خمساً من الشهر ، فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار ، وذهب مالك و الشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي ، قال ابن المنذر : فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلاً حتى يمضي اليوم العاشر ، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج من الفقهاء و أبو بكر الأصم من المتكلمين ،وروي عن ابن عباس أنه قرأ (( أربعة أشهر وعشر ليال )) .
قوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن وهو عبارة عن انقضاء العدة .
الثانية : قوله تعالى : " فلا جناح عليكم " خطاب لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء ، " فيما فعلن " يريد به التزوج فيما دونه من التزين واطراح الإحداد ، " بالمعروف " ، أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد ، لأنه حق للأولياء كما تقدم .
الثالثة : وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة ، وفيها رد على إسحاق في قوله : إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الاول ، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل ، وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة ، قال الله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن " وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلاً ، فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك ، والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب ، والله أعلم .
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن, أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال, وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع, ومستنده في غير المدخول بها عموم الاية الكريمة, وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها, ولم يدخل بها ولم يفرض لها, فترددوا إليه مراراً في ذلك, فقال أقول فيها برأيي, فإن يك صواباً فمن الله, وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً, وفي لفظ : لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط , وعليها العدة, ولها الميراث, فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً, وفي رواية: فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها, وهي حامل, فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع, أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الايتين, وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي, لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه, أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل, فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته, وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال, فلما تعلت من نفاسها, تجملت للخطاب, فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك, فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك, جمعت علي ثيابي حين أمسيت, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك, فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي, وأمرني بالتزويج إن بدا لي, قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة, يعني لما احتج عليه به, قال: ويصحح ذلك عنه, أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة, فإن عدتها على النصف من عدة الحرة, شهران وخمس ليال على قول الجمهور , لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد, فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الاية, ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة, وقد ذكر سعيد بن المسيب, وأبو العالية وغيرهما, أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً, لاحتمال اشتمال الرحم على حمل, فإذا انتظر به هذه المدة, ظهر إن كان موجوداً, كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح" فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر, والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور, ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه, والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر ؟ قال: فيه ينفخ الروح, وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح, رواهما ابن جرير , ومن ههنا ذهب الإمام أحمد, في رواية عنه, إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا, لأنها صارت فراشاً كالحرائر , وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة عن رجاء بن حيوة, عن قبيصة بن ذؤيب, عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا, عدة أم الولد, إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر . ورواه أبو داود عن قتيبة, عن غندر , وعن ابن المثنى, عن عبد الأعلى, وابن ماجه عن علي بن محمد, عن الربيع, ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة, عن مطر الوراق, عن رجاء بن حيوة, عن قبيصة, عن عمرو بن العاص, فذكره. وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث, وقيل إن قبيصة لم يسمع عمراً, وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف, منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير, والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز, وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان, وهو أمير المؤمين, وبه يقول الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه, وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه, والثوري والحسن بن صالح بن حيي: تعتد بثلاث حيض, وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة, وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور, وقال الليث: ولو مات وهي حائض, أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض, فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إلي, والله أعلم.
وقوله: " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير " يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين عن غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أم المؤمنين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وفي الصحيحين أيضاً عن أم سملة أن امرأة قالت: يا رسول الله, إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال لا كل ذلك يقول ـ لا ـ مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر, وقد كانت إحداكم في الجاهلية تمكث سنة" قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها, دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها, ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة, ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها, ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات, ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الاية ناسخة للاية التي بعدها, وهي قوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج" الاية, كما قاله ابن عباس وغيره, وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك, وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً, ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً, وهل يجب في عدة البائن فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن, سواء في ذلك الصغيرة والايسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة, لعموم الاية, وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة, وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك, وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" قالوا: فجعله تعبداً, وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف, وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها, ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع, والله الموفق للصواب.
وقوله "فإذا بلغن أجلهن" أي انقضت عدتهن, قاله الضحاك والربيع بن أنس, "فلا جناح عليكم" قال الزهري: أي على أوليائها. "فيما فعلن" يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن, قال العوفي عن ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها, فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج, فذلك المعروف. وروي عن مقاتل بن حيان نحوه, وقال ابن جريج عن مجاهد "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" قال: النكاح الحلال الطيب, وروي عن الحسن والزهري والسدي ونحو ذلك.
لما ذكر سبحانه عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. قاله الزجاج: ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً: أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن. وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، وهو كقولك السمن منوان بدرهم: أي منه. وحكي المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله: 234- "ويذرون أزواجاً" لا يلائم ذلك التقدير، لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة. وقال بعض النحاة من الكوفيين: إن الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن. ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً ولا تتأخر عن هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وإلى هذا ذهب الجمهور. وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص وإعمالاً لهما، والحق ما قاله الجمهور. والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع والتربص الثاني والتصبر عن النكاح. وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة، وأن عدتهن جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر، وقيل: إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي: إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى بين الحرة والأمة، وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدتها عدة الحرة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إلأيه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه: "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب". وقد تقدم حديث "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وهو صالح للاحتجاج به، وليس المراد منه. إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدتها على النصف من عدتها، ولكنه لما لم يكن أن يقال: طلاقها تطليقة ونصف وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدمنا من معرفة خلوها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدة، ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد. واختلف أهل العلم في عدة أم الولد لموت سيدها. فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق وابن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص: قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم "عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر". وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وقال طاوس وقتادة: عدتها شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: تعتد بثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة وغير الحائض شهر، وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور. قوله: "فإذا بلغن أجلهن" المراد بالبلوغ هنا: انقضاء العدة "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" من التزين والتعرض للخطاب "بالمعروف" الذي لا يخالف شرعاً ولا عادةً مستحسنة. وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدم الوفاة. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد: ترك الزينة من الطيب، وليس الثياب الجيدة والحلي وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدة الرجعية، واختلفوا في عدة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب الفروع.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "والذين يتوفون منكم" قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله. ثم أنزل الله "والذين يتوفون منكم" الآية فهذه عدة المتوفى عنها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: "ولهن الربع مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم" يقول: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية قال: ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر، لأن في العشر ينفخ فيه الروح. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "فإذا بلغن أجلهن" يقول: إذا انقضت عدتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في قوله: "فلا جناح عليكم" يعني أولياءها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب والزينة. وأخرج مالك وعبد الرزاق وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كانت في الحجرة أو في المسجد فدعاني أو أمر بي فدعيت، فقال: كيف قلت؟ قالت: فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
234. قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم " أي يموتون وتتوفى آجالهم، وتوفى واستوفى بمعنى واحد، ومعنى التوفي أخذ الشيء وافياً " ويذرون أزواجاً " يتركون أزواجاً " يتربصن " ينتظرن " بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " أي يعتددن بترك الزينة والطيب والنقلة على فراق أزواجهن هذه المدة إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً لقوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج " (240-البقرة) ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كانت هذه العدة يعني أربعة اشهر وعشراً واجبة عند أهل زوجها فأنزل الله تعالى: " متاعاً إلى الحول " فجعل لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وإن شاءت خرجت وهو قول الله عز وجل: " غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن " (240-البقرة) فالعدة كما هي واجبة عليها.
وقال: عطاء قال: ابن عباس رضي الله عنهما: نسخت هذه الاية عدتها عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ويجب عليها الإحداد في عدة الوفاة، وهي أن تمتنع من الزينة والطيب فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن سواء كان فيه طيب أو لم يكن، ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيب فلا يجوز، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب أو فيه زينة كالكحل الأسود ولا بأس بالكحل الفارسي الذي لا زينة فيه فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فرخص فيه كثير من أهل العلم منهم سالم بن عبد الله و سليمان بن يسار و عطاء و النخعي وبه قال مالك وأصحاب الرأي، وقال الشافعي رحمه الله: تكتحل به ليلاً وتمسحه بالنهار.
قالت أم سلمة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبراً فقال " إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ".
ولا يجوز لها الخضاب ولا لبس الوشي والديباج والحلي ويجوز لها لبس البيض من الثياب ولبس الصوف والوبر، ولا تلبس الثوب المصبوغ للزينة كالأحمر والأخضر الناضر والأصفر، ويجوز ما صبغ لغير زينة كالسواد والكحلي وقال سفيان : لا تلبس المصبوغ بحال. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمر بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة، خلوق أو غيره، فدهنت به جارية ثم مست بطنها ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ".
وقالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها عبد الله فدعت بطيب فمست به ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر " لايحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ان ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ، ثم قال: هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول "قال حميد : فقلت لزينب: وما ترمي بالعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تؤتي بدابة، حمار أو شاة أو طير فتفتض به، أي تمسح فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره، وقال مالك : تفتض أي تمسح جلدها.
وقال سعيد بن المسيب : الحكمة في هذه المدة أن فيها ينفخ الروح في الولد، ويقال إن الولد يرتكض أي يتحرك في البطن لنصف مدة الحمل أربعة أشهر وعشراً قريباً من نصف مدة الحمل، وإنما قال عشراً بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي فيقولون صمنا عشراً والصوم لا يكون إلا بالنهار.
وقال المبرد : إنما أنث العشر لأنه المدد أي عشر مدد كل مدة يوم وليلة، وإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فعدتها بوضع الحمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنها تنتظر آخر الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشراً، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى أراد بالقصرى سورة الطلاق " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (4-الطلاق) نزلت بعد قوله تعالى: " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " في سورة البقرة فحمله على النسخ، وعامة الفقهاء خصوا الآية بحديث سبيعة وهو ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت.
قوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن " أي انقضت عدتهن " فلا جناح عليكم " خطاب للأولياء " فيما فعلن في أنفسهن " أي من اختيار الأزواج دون العقد فإن العقد إلى الولي، وقيل فيما فعلن من التزين للرجال زينة لا ينكرها الشرع " بالمعروف والله بما تعملون خبير " والإحداد واجب على المرأة في عدة الوفاة، أما المعتدة عن الطلاق نظر فإن كانت رجعية فلا إحداد عليها في العدة لأن لها أن تصنع ما يشوق عنها قلب الزوج إليها ليراجعها، وفي البائنة بالخلع والطلقات الثلاثة قولان: أحدهما: عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال أبو حنيفة ، والثاني: لا إحداد عليها وهو قول عطاء ، وبه قال مالك .
234-" والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " أي أزواج الذين ، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم ، كقولهم السمن منوان بدرهم . و قرئ " يتوفون " بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهاباً إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشراً ويشهد له قوله تعالى : " إن لبثتم إلا عشراً " ثم " إن لبثتم إلا يوماً " ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر أن كان ذكراً ، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين ، وزيد عليه العشر استظهاراً إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها ، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه ، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم ، والحامل وغيرها ،لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة ، والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " . وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطاً . " فإذا بلغن أجلهن " أي انقضت عدتهن . " فلا جناح عليكم " أيها الأئمة أو المسلمون جميعاً . " فيما فعلن في أنفسهن " من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة . " بالمعروف " بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن ، فإن قصروا فعليهم الجناح . " والله بما تعملون خبير " فيجازيكم عليه .
234. Such of you as die and leave behind them wives, they (the wives) shall wait, keeping themselves apart, four months and ten days. And when they reach the term (prescribed for them) then there is no sin for you in aught that they may do with themselves in decency. Allah is Informed of what ye do.
234 - If any of you die and leave widows behind, they shall wait concerning themselves four months and ten days: when they have fulfilled their terms, there is no blame on you if they dispose of themselves in a just and reasonable manner. and God is well acquainted with what ye do.