(فإن خفتم) من عدو أو سيل أو سبع (فرجالاً) جمع راجل أي مشاة صلوا (أو ركبانا) جمع راكب أي كيف أمكن مستقبلي القبلة أو غيرها ويومئ بالركوع والسجود (فإذا أمنتم) من الخوف (فاذكروا الله) أي صلوا (كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها والكاف بمعنى مثل وما مصدرية أو موصولة
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له، لما قد بيناه من معناه، فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله، فصلوا رجالا، مشاة على أرجلكم، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم، "أو ركباناً"، على ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين.ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك، جاز نصب الرجال بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون: إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، بمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا، وإن تفعل شرا تصب شرا، فيعطفون الجواب عن الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، بمعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض، فصلوا رجالا. والرجال جمع راجل و رجل ، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد الرجال رجل ، مسموع منهم: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلاً، وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم رجلان ، كما قال بعض بني عقيل:
علي إذا أبصرت ليلى بخلوة أن ازدار بيت الله رجلان حافيا
فمن قال رجلان للذكر، قال للأنثى رجلى، وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال: أتى القوم رجالى ورجالى مثل كسالى وكسالى.وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: فإن خفتم فرجالا مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ: فرجالا، وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين.وأما الركبان فجمع راكب ، يقال: هو راكب، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب ، يقال: جاءنا أركوب من الناس وأراكيب . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: سألته عن قوله: "فرجالا أو ركبانا"، قال: عند المطاردة، يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومىء إيماء.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "فرجالا أو ركبانا" قال: صلاة الضراب ركعتين، يومىء إيماء.
حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله: "فرجالا أو ركبانا"، قال: يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومىء إيماء.حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير: "فرجالاً أو ركبانا"، قال: إذا طردت الخيل فأومىء إيماء. حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن مالك، عن سعيد قال: يومىء إيماء.حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: "فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومىء إيماء.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومىء برأسه أو يتكلم بلسانه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال أيضا: أو راكبا، أو ما قدر أن يومىء برأسه. وسائر الحديث مثله. حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع، فصلاتهم تكبيرتان إيماء، أي جهة كانت.حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "رجالا أو ركبانا"، قال: ذاك عند القتال، يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلاً إذا كان يطلب أو يطلبه سبع، فليصل ركعة، يومىء إيماء، فإن لم يستطع فليكبرتكبيرتين.حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ركعة وأنت تمشي، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك، على أي جهة كان.حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أما "رجالا" فعلى أرجلكم، إذا قاتلتم، يصلي الرجل يومىء برأسه أينما توجه، والراكب على دابته يومىء برأسه أينما توجه. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى، تومىء برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين، وإلا فواحدة.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاووس،عن أبيه: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ذاك عند المسايفة. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في قوله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طلب الأعداء فقد حل لهم أن يصلوا قبل أي جهة كانوا، رجالا أو ركبانا، يومئون إيماء ركعتين، وقال قتادة: تجزىء ركعة. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين، راكبا كان أو راجلا.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان وجهه، يومىء ماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا، ذا في المطاردة. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومىء إيماء، إن شاء راكباً أو راجلا، قال الله تعالى ذكره: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن قال،في الخائف الذي يطلبه العدو، قال: إن استطاع أن يصلي ركعتين، وإلا صلى ركعة.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: ركعة.حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة.حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة، عن صلاة المسايفة، فقالوا: يومىء إيماء حيث كان وجهه.حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد والحكم وقتادة: أنهم سئلوا عن صلاة عند المسايفة، فقالوا: ركعة حيث وجهك.حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار قال: سألت ابن سيرين صلاة المنهزم فقال: كيف استطاع.حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن
جابر بن غراب قال: كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة، الصلاة! فقال هرم: يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال: ونحن مستقبلو المشرق.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي نضرة قال: كان هرم بن حيان على جيشر، فحضروا العدو فقال: يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة، أو ما استيسر، فقلت لأبي نضرة: ما ما استيسر؟ قال: يومىء.حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا أبو مسلمة، عن أبي نضرة قال: حدثني جابر بن غراب قال: كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة! فقال: يسجد الرجل تحت جنته سجدة.حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا، وحيث توجهت بك دابتك، تومىء إيماء للمكتوبة.حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة.حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري، عن عبد الملك، عن عطاء في هذه الاية قال: إذا كان خائفا صلى على أي حال كان.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك- وسألته عن قول الله: "فرجالا أو ركبانا"- قال: راكبا وماشيا، لو كانت إنما عني بها الناس، لم تأت إلا "رجالا" وانقطعت الاية. إنما هي رجال : مشاة، وقرأ: "يأتوك رجالا وعلى كل ضامر" [الحج: 87]، قال: يأتون مشاة وركبانا.
قال أبو جعفر: والخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا، وراكبا جائلا، الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال عن أمر بقتاله، من عدو للمسلمين، أو محارب، أو طلب سبع، أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه.وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومىء إيماء لعموم كتاب الله: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع، بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت. وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها، وذلك حال شدة الخوف، لأن:- محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا: حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه، وإن كان خوف أشد من ذلك" "فرجالا أو ركبانا".حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا- يعني في القتال- فإنما هو الذكر، وإشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا". ففصل النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره. "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، إنما عني به الخوف الذي وصفنا صفته.وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، روي عن ابن عمر أنه كان يقول:حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر انه قال في صلاة الخوف: يصلي بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال: فإن كان خوف أشد من ذلك "فرجالا أو ركبانا". وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن.وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة، لأن:-بشر بن معاذ حدثني قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة".-قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: "فإذا أمنتم"، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم، "فاذكروا الله" في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما نعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله، كما ذكركم بتعليمه ياكم من أحكامه، وحلاله وحرامه، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة، والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، التي جهلها غيركم وبضركم، من ذلك وغيره، إنعاما منه عليكم بذلك، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.وكان مجاهد يقول في قوله: "فإذا أمنتم"، ما:-حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: "فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة. وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فإذا أمنتم فاذكروا الله"، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.وقوله ههنا: "اذكروا الله"، قال: الصلاة، "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون".قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيماً في مصره وبلده، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر، فيتوجه قوله: "فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شدة الخوف، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. ثم قال: "فإذا أمنتم" فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.وبعد، فإن كان جرى للسفر ذكر، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من
الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ولم يقل: "فإذا أمنتم". وفي قوله تعالى ذكره: "فإذا أمنتم"، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه، وخلاف قول مجاهد.
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " فإن خفتم " من الخوف الذي هو الفزع ، " فرجالا " أي فصلوا رجالا " أو ركبانا " معطوف عليه ، والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلاً إذا عدم المركوب ومشى على قدميه ، فهو رجل وراجل ورجل ( بضم الجيم ) وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، حكاه الطبري ورجلان ورجيل ورجل ، ويجمع على رجال ورجلى ورجال ورجالة ورجلان ورجلة ( بفتح الجيم ) وأرجلة وأراجل واراجيل والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضاً على رجال .
الثانية : لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً ، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال ، ورخص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام وركباناً على الخيل والإبل ونحوها ، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه ، هذا قول العلماء ، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله ، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيع ما تضمنته هذه الآية .
الثالثة : هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه .
الرابعة : واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالاً وركباناً ، فقال الشافعي : هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معاً والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب ، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه ، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف ، فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا ، وقيل : يعيدون ، وهو قول أبو حنيفة ، قال أبو عمر : فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلاً أو راكباً مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف ، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه ، وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية ، وهذا يأتي بيانه في سورة (( النساء )) إن شاء الله تعالى ، وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك ، فإنه استحب من غير خوف العدو ، الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء .
الخامسة : قال أبو حنيفة : إن القتال يفسد الصلاة ، وحديث ابن عمر يرد عليه ، وظاهر الآية أقوى دليل عليه ، وسيأتي هذا في (( النساء )) إن شاء الله تعالى ، قال الشافعي لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها ، والله أعلم .
السادسة : لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك و الشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن و قتادة وغيرهما ، يصلي ركعة إيماء ، روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، قال ابن عبد البر : أنفرد به بكير بن الأخنس ، وليس بحجة فيما ينفرد به ، والصلاة أولى ما احتيط فيه ، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين ، وقال الضحاك بن مزاحم : يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين ، وقال إسحاق بن راهويه ، فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ذكره ابن المنذر .
وقوله تعالى : " فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم " أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان ، وقال مجاهد " أمنتم " خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة ، ورد الطبري على هذا القول ، وقالت فرقة ، " أمنتم " زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذه الصلاة .
السابعة : واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن ، فقال مالك : إن صلى ركعة آمناً ثم خاف ركب وبنى ، وكذلك إن صلى ركعة راكباً هو خائف ثم أمن نزل وبنى ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني ، وقال أبو حنيفة : إذا افتتح الصلاة آمناً ثم خاف استقبل ولم يبن ، فإن صلى خائفاً ثم أمن بنى ، وقال الشافعي : يبني النازل ولا يبني الراكب ، وقال أبو يوسف : لا يبني في شيء من هذا كله .
الثامنة : قوله تعالى : " فاذكروا الله " قيل : معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ، ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه ، فالكاف في قوله " كما " بمعنى الشكر ، تقول : افعل بمي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكراً ، و((ما )) في قوله : " ما لم " مفعولة بـ " علمكم " .
التاسعة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم ، الصلاة أصلها الدعاء ، وحالة الخوف أولى بالدعاء ، فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف ، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه ، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض ، وحضر أو سفر ، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن ، لا تسقط عن المكلف بحال ، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال وسيأتي بيان حكم المريض في آخر (( آل عمران )) إن شاء الله تعالى ، والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات ، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص ، قال ابن العربي : ولهذا قال علماؤنا : وهي مسألة عظمى ، إن تارك الصلاة يقتل ، لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال ، وقالوا فيها : إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال ، فيقتل تاركها ، أصله الشهادتان ، وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في (( براءة )) إن شاء الله تعالى .
ويأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها, كما ثبت في الصحيحين "عن ابن مسعود, قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل ؟ قال: الصلاة في وقتها. قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قلت: ثم أي ؟ قال بر الوالدين", قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا ليث عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم, عن القاسم بن غنام, عن جدته أم أبيه الدنيا, عن جدته أم فروة, وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الأعمال, فقال "إن أحب الأعمال إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها" وهكذا رواه أبو داود والترمذي, وقال: لا نعرفه إلا من طريق العمري وليس بالقوي عند أهل الحديث, وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى, وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي ؟ فقيل: إنها الصبح, حكاه مالك في الموطأ بلاغاً عن علي وابن عباس, وقال هشيم وابن علية وغندر وابن أبي عدي وعبد الوهاب وشريك وغيرهم عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي, وقال: صليت خلف ابن عباس الفجر, فقنت فيها ورفع يديه, ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين, رواه ابن جرير, ورواه أيضاً من حديث عوف عن خلاس بن عمرو , عن ابن عباس مثله سواء, وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا عوف عن أبي المنهال, عن أبي العالية, عن ابن عباس, أنه صلى الغداة في مسجد البصرة, فقنت قبل الركوع, وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه, فقال "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" وقال أيضاً: حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا الربيع بن أنس عن أبي العالية, قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة صلاة الغداة, فقلت لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبي: ما الصلاة الوسطى ؟ قال: هذه الصلاة. وروي من طريق أخرى عن الربيع عن أبي العالية, أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فلما فرغوا قال: قلت لهم: أيتهن الصلاة الوسطى ؟ قالوا: التي قد صليتها قبل. وقال أيضاً: حدثنا ابن بشار , حدثنا ابن عثمة عن سعيد بن بشير , عن قتادة, عن جابر بن عبد الله, قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح, وحكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومجاهد وجابر بن زيد وعكرمة والربيع بن أنس, ورواه ابن جرير عن عبد الله بن شداد وابن الهاد أيضاً, وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه الله, محتجاً بقوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" والقنوت عنده في صلاة الصبح, ومنهم من قال: هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر, وهي بين صلاتين ورباعيتين مقصورتين, وترد المغرب, وقيل: لأنها بين صلاتين جهريتين وصلاتي نهار سريتين, وقيل: إنها صلاة الظهر, قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان يعني ابن عمرو, عن زهرة يعني ابن معبد, قال: كنا جلوساً عند زيد بن ثابت, فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى, فقال: هي الظهر, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير, وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, حدثني عمرو بن أبي حكيم, سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة, ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها, فنزلت "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة به وقال أحمد أيضاً: حدثنا يزيد حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان أن رهطاً من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى, فقال: هي صلاة العصر فقام إليه رجلان منهم فسألاه, فقال: هي الظهر. ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه, فقال: هي الظهر, إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير, فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان, والناس في قائلتهم وفي تجارتهم, فأنزل الله "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم". والزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري, لم يدرك أحداً من الصحابة, الصحيح ما تقدم من روايته عن زهرة بن معبد وعروة بن الزبير. وقال شعبة وهمام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن زيد بن ثابت, قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. وقال أبو داود الطيالسي وغيره, عن شعبة: أخبرني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب, قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت, قال: الصلاة الوسطى هي الظهر, ورواه ابن جرير, عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد, عن شعبة, عن عمر بن سليمان, عن زيد بن ثابت, قال الصلاة الوسطى هي الظهر, ورواه ابن جرير, عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد, عن شعبة, عن عمر بن سليمان, عن زيد بن ثابت, في حديث رفعه, قال "الصلاة الوسطى صلاة الظهر". وممن روي عنه أنها الظهر ابن عمر, وأبو سعيد وعائشة, على اختلاف عنهم, وهو قول عروة بن الزبير وعبد الله بن شداد بن الهاد, ورواية عن أبي حنيفة رحمهم الله, وقيل: إنها صلاة العصر. قال الترمذي والبغوي رحمهما الله: وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم. وقال القاضي الماوردي: هو قول جمهور التابعين: وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر. وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره. وهو قول جمهور الناس. وقال الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى بكشف المغطى تبيين الصلاة الوسطى, وقد نص فيه: أنها العصر, وحكاه عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وعن ابن عباس وعائشة على الصحيح عنهم, وبه قال عبيدة وإبراهيم النخعي ورزين وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وعبيد بن مريم وغيرهم, وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي والشافعي قال ابن المنذر: وهو الصحيح عن أبي حنيفة, وأبي يوسف ومحمد, واختاره ابن حبيب المالكي, رحمهم الله.
ذكر الدليل على ذلك ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن مسلم, عن شتير بن شكل, عن علي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى, صلاة العصر, ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً" ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء, وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير , والنسائي من طريق عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش, عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى, عن شتير بن شكل بن حميد, عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, وقد رواه مسلم أيضاً من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة, عن يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب , وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغير واحد من أصحاب المساند والسنن والصحاح من طرق يطول ذكرها عن عبيدة السلماني, عن علي به, ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن البصري عن علي به, قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر, قال: قلت لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى, فسأله, فقال: كنا نراها الفجر أو الصبح, حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى, صلاة العصر, ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم ناراً" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به. وحديث يوم الأحزاب, وشغل المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ, مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم, وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته, أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. وقد رواه مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر" وحدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبان, حدثنا قتادة عن الحسن, عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" وسماها لنا أنها هي صلاة العصر, وحدثنا محمد بن جعفر وروح, قالا: حدثنا سعيد عن قتادة, عن الحسن عن سمرة بن جندب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هي العصر" قال ابن جعفر: سئل عن صلاة الوسطى, ورواه الترمذي من حديث سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن, عن سمرة, وقال: حسن صحيح, وقد سمع منه حديث آخر. وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منيع, حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن التيمي, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الوسطى صلاة العصر". (طريق أخرى بل حديث آخر) قال ابن جرير: وحدثني المثنى, حدثنا سليمان بن أحمد الجرشي الواسطي, حدثنا الوليد بن مسلم, قال: أخبرني صدقة بن خالد, حدثني خالد بن دهقان, عن خالد بن سبلان, عن كهيل بن حرملة, قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى, فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها, ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, فقال: أنا أعلم لكم ذلك, فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدخل عليه ثم خرج إلينا, فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر, غريب من هذا الوجه جداً.
(حديث آخر) ـ قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق, حدثنا أبو أحمد, حدثنا عبد السلام عن مسلم مولى أبي جبير, حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي, قال: كنت جالساً عند عبد العزيز بن مروان, فقال: يا فلان اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى ؟ فقال رجل جالس: "أرسلني أبو بكر وعمر, وأنا غلام صغير, أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغيرة, فقال هذه صلا ة الفجر, وقبض التي تليها, فقال هذه الظهر, ثم قبض الإبهام, فقال هذه المغرب, ثم قبض التي تليها, فقال هذه العشاء, ثم قال أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى, فقال أي الصلاة بقيت؟ فقلت: العصر , فقال هي العصر" غريب أيضاً جداً.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي حدثني أبو ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الوسطى صلاة العصر" إسناده لا بأس به.
(حديث آخر) قال أبو الحاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير, حدثنا الجراح بن مخلد, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا همام بن مورق العجلي, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الوسطى صلاة العصر". وقد روى الترمذي من حديث محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الوسطى صلاة العصر", ثم قال: حسن صحيح, وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن طلحة به, ولفظه "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" الحديث, فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئاً, ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها, وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من رواية الزهري عن سالم, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" وفي الصحيح أيضاً من حديث الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي قلابة عن أبي كثير عن أبي المهاجر, عن بريدة بن الحصيب, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "بكروا بالصلاة في يوم الغيم, فإنه من ترك صلاة العصر, فقد حبط عمله" وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة, عن أبي تميم عن أبي نصرة الغفاري, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد من أوديتهم, يقال له الحميص, صلاة العصر, فقال "إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها, ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين, ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد" ثم قال: رواه عن يحيى بن إسحاق عن الليث عن جبير بن نعيم عن عبد الله بن هبيرة به, وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعاً عن قتيبة عن الليث, وراه مسلم أيضاً من حديث محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن جبير بن نعيم الحضرمي, عن عبد الله بن هبيرة السبائي به, فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضاً حدثنا إسحاق, أخبرني مالك, عن زيد بن أسلم, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي يونس مولى عائشة, قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً, قالت: إذا بلغت هذه الاية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني, فلما بلغتها آذنتها, فأملت علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك به, وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى الحجاج, حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه, قال: كان في مصحف عائشة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " وهي صلاة العصر وهكذا رواه من طريق الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك وقد روى الإمام مالك أيضاً عن زيد بن أسلم, عن عمرو بن رافع, قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: إذا بلغت هذه الاية فآذني "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فلما بلغتها آذنتها, فأملت علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ". هكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار فقال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى ابن عمر أن عمر بن نافع قال فذكر مثله وزاد كما حفظتها من النبي صلى الله عليه وسلم.
(طريق أخرى عن حفصة) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر, عن عبد الله بن يزيد الأزدي, عن سالم بن عبد الله, أن حفصة أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفاً, فقالت: إذا بلغت هذه الاية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني, فلما بلغ آذنها, فقالت: اكتب " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " وهي صلاة العصر .
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا عبيد الله عن نافع, أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفاً, فقالت: إذا بلغت هذه الاية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها, فلما بلغها أمرته فكتبها " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ". قال نافع: فقرأت ذلك المصحف, فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرأا كذلك , وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدة, حدثنا محمد بن عمرو, حدثني أبو سلمة عن عمرو بن رافع مولى عمر, قال: كان في مصحف حفصة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " وتقرير المعارضة أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة, فدل ذلك على أنها غيرها, وأجيب عن ذلك بوجوه (أحدها) أن هذا إن روي على أنه خبر, فحديث علي أصح وأصرح منه, وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة, كما في قوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين " "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين", أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات, كقوله "ولكن رسول الله وخاتم النبيين" وكقوله " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى " وأشباه ذلك كثيرة وقال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وقال أبو داود الأيادي:
سلط الموت والمنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام
والموت هو المنون, قال عدي بن زيد العبادي:
قدمت الأديم لراهشيه فألفى قولها كذباً ومينا
والكذب هو المين, وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك, ويكون الصاحب هو الأخ نفسه, والله أعلم, وأما إن روي على أنه قرآن, فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن, ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في المصحف, ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم, لا من السبعة ولا من غيرهم. ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث, قال مسلم: حدثنا إسحق بن راهويه, أخبرنا يحيى بن آدم عن فضيل بن مرزوق, عن شقيق بن عقبة, عن البراء بن عازب, قال: نزلت " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله, ثم نسخها الله عز وجل, فأنزل "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فقال له زاهر رجل كان مع شقيق: أفهي العصر ؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت, وكيف نسخها الله عز وجل. قال مسلم: ورواه الأشجعي عن الثوري, عن الأسود, عن شقيق (قلت): وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد, والله أعلم, فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهي تلاوة الجادة ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها إن كانت الواو دالة على المغايرة, وإلا فلفظها فقط , والله أعلم.
وقيل: إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب, رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس, وفي إسناده نظر, فإنه رواه عن أبيه عن أبي الجماهير عن سعيد بن بشير, عن قتادة عن أبي الخليل, عن عمه, عن ابن عباس, قال: صلاة الوسطى المغرب. وحكى هذا القول ابن جرير, عن قبيصة بن ذؤيب, وحكى أيضاً عن قتادة على اختلاف عنه, ووجه هذا القول بعضهم بأنها وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية, وبأنها وتر المفروضات, وبما جاء فيها من الفضلية, والله أعلم.
وقيل: إنها العشاء الأخير, اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور, وقيل: هي واحد من الخمس لا بعينها وأبهمت فيهن, كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر, ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب وشريح القاضي ونافع مولى ابن عمر, والربيع بن خيثم, ونقل أيضاً عن زيد بن ثابت واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل: بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس, رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر, وفي صحته أيضاً نظر, والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمرو بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر, وإنها لإحدى الكبر إذا اختاره مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل: إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر. وقيل: بل هي صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة. وقيل صلاة الخوف. وقيل: بل صلاة عيد الفطر. وقيل: بل صلاة الأضحى, وقيل: الوتر. وقيل: الضحى. وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة, ولم يظهر لهم وجه الترجيح, ولم يقع الإجماع على قول واحد, بل لم يزل النزاع فيها موجوداً من زمان الصحابة وإلى الان. قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن مثنى, قالا: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب, قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه, وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها, وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر , وقد ثبت السنة بأنها العصر فتعين المصير إليها. وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما الله في كتاب الشافعي رحمه الله, حدثنا أبي سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول: قال الشافعي, كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم. بخلاف قولي مما يصح, فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني, وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي, وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود عن الشافعي: إذا صح الحديث وقلت قولاً, فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك, فهذا من سيادته وأمانته, وهذا نفس إخوانه من الأئمة رحمهم الله, أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر, وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر, وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب الشافعي, وصمموا على أنها الصبح قولاً واحداً, قال المارودي: ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه, وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها, ولهذا لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة, اعتذر إليه بذلك وقال "إن الصلاة لشغلاً". وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله", وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد, عن إسماعيل, حدثني الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني, عن زيد بن أرقم, قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة, حتى نزلت هذه الاية "وقوموا لله قانتين" فأمرنا بالسكوت, رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن إسماعيل به, وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة, كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح, قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيرد علينا, قال: فلما قدمنا سلمت عليه فلم يرد علي, فأخذني ما قرب وما بعد, فلما سلم قال "إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة, وإن الله يحدث من أمره ما يشاء, وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة, ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم فهاجر إلى المدينة, وهذه الاية "وقوموا لله قانتين" مدنية بلا خلاف, فقال قائلون: إنما أراد زيد بن أرقم بقوله: كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة, الإخبار عن جنس الكلام, واستدل على تحريم ذلك بهذه الاية بحسب ما فهمه منها, والله أعلم, وقال آخرون: إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها, ويكون ذلك قد أبيح مرتين وحرم مرتين, كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم, والأول أظهر, والله أعلم, وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا بشر بن الوليد, أخبرنا إسحاق بن يحيى عن المسيب, عن ابن مسعود, قال كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة, فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه, فلم يرد علي, فوقع في نفسي أنه نزل في شيء فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال "وعليك السلام أيها المسلم ورحمة الله, إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء, إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا" وقوله "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون", لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها, وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل, وهي حال القتال والتحام الحرب, فقال "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" أي فصلوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, كما قال مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها, ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم, أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها, قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورواه البخاري وهذا لفظ مسلم, ورواه البخاري من وجه آخر عن ابن جريج, عن موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أو قريباً منه, ولمسلم أيضاً عن ابن عمر, قال : فإن كان خوف أشد من ذلك, فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماءً, وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله, وكان نحو عرفة أوعرفات, فلما واجهه حانت صلاة العصر , قال فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد, وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الاصار والأغلال عنهم, وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: في هذه الاية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه, قال وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح, نحو ذلك ـ وزاد: ويومئ برأسه أينما توجه, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا غسان, حدثنا داود يعني ابن علية عن مطرف, عن عطية, عن جابر بن عبد الله, قال: إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه, فذلك قوله "فرجالاً أو ركباناً", وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك, وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان, وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ـ زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ ـ كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً, وفي السفر ركعتين, وفي الخوف ركعة, وبه قال: الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار , حدثنا ابن مهدي عن شعبة, قال: سألت الحكم وحماداً وقتادة عن صلاة المسايفة, فقالوا: ركعة, وهكذا روى الثوري عنهم سواء, وقال ابن جرير أيضاً: حدثني سعيد بن عمرو السكوني, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا المسعودي, حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله, قال: صلاة الخوف ركعة. واختار هذا القول ابن جرير , وقال البخاري: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو). وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة, صلوا إيماء كل امرئ لنفسه, فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال, ويأمنوا فيصلوا ركعتين, فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين, فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول, وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند غضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال, فلم يقدروا على الصلاة, فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار , فصليناها ونحن مع أبي موسى, ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. هذا لفظ البخاري, ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق لعذر المحاربة إلى غيبوبة الشمس, وبقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير, ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة, فلم يعنف واحداً من الفريقين, وهذا على اختيار البخاري لهذا القول, والجمهور على خلافه, ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء, ووردت بها الأحاديث, لم تكن مشروعة في غزوة الخندق, وإنما شرعت بعد ذلك, وقد جاء مصرحاً بهذا في حديث أبي سعيد وغيره, وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك, لأن هذا حال نادر خاص, فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر , والله أعلم.
وقوله "فإذا أمنتم فاذكروا الله" أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم, فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها, "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والاخرة فقابلوه بالشكر والذكر , كقوله بعد صلاة الخوف "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" وستأتي الأحاديث االواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية.
قوله: 239- "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" الخوف هو الفزع، والرجال جمع رجل أو راجل، من قولهم: رجل الإنسان يرجل راجلاً: إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل. يقول أهل الحجاز: مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً. حكاه ابن جرير الطبري وغيره. لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال الركوب، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان. وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك والبحث مستوفي في كتب الفروع. قوله: "فإذا أمنتم" أي إذا زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة قائمين بجميع شروطها وأركانها وهو قوله: "فاذكروا الله كما علمكم" وقيل معنى الآية: خرجتم من دار السفر إلى دار الشرائع "ما لم تكونوا تعلمون" والكاف صفة لمصدر محذوف: أي ذكراً كائناً كتعليمه إياكم، أو مثل تعليمه إياكم.
وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي فيهن فحافظوا عليهن. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت أنه سأله رجل عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات تدركها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم أن سائلاً سأله عن الصلاة الوسطى، قال: حافظ عليهن فإنك إن فعلت أصبتها، إنما هي واحدة منهن. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: سئل شريح عن الصلاة الوسطى، فقال: حافظوا عليها تصيبوها. وقد قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها. وأخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" مثل ما قدمنا عن زيد بن أرقم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن محمد بن كعب نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقوموا لله قانتين" قال: مصلين. أخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كل أهل دين يقومون فيها عاصين، قوموا أنتم مطيعين. وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وقوموا لله قانتين" قال: من القنوت الركوع والخشوع، وطول الركوع: يعني طول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الصلاة لشغلاً" وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وقد اختلف الأحاديث في القنوت المصطلح عليه، هل هو قبل الركوع أو بعده، وهو هو في جميع الصلوات أو بعضها، وهو هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" قال: يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه "فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" يعني كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت المسايفة فليوم برأسه حيث كان وجهه فذلك قوله: "فرجالاً أو ركباناً". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" قال: ركعة ركعة. وأخرج وكيع وابن جرير عن مجاهد "فإذا أمنتم" قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.
239. قوله تعالى: " فإن خفتم فرجالاً " (فرجالاً) أي رجالة يقال: راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام " أو ركبانا " على دوابهم وهوجمع راكب، معناه إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركباناً على ظهور دوابكم، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة يصلي حيث كان وجهه راجلاً أو راكباً مستقبل القبلة وغير مستقبلها ويومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وكذلك إذا قصده سبع أو غشيه سيل يخاف منه على نفسه فعدا أمامه مصلياً بالايماء يجوز.
والصلاة في حال الخوف على أقسام فهذه صلاة شدة الخوف وسائر الأقسام سيأتي بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى، ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء و طاووس و الحسن و مجاهد و قتادة : أن يصلي في حال شدة الخوف ركعة، وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك )) " فإذا أمنتم فاذكروا الله " أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها " كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ".
239-" فإن خفتم " من عدو أو غيره . " فرجالاً أو ركباناً " فصلوا راجلين أو راكبين ورجالاً جمع راجل أو رجل بمعناه كقائم وقيام ، وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف . " فإذا أمنتم " وزال خوفكم . " فاذكروا الله " صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن " كما علمكم " ذكراً مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن . أو شكراً يوازيه وما مصدرية أو موصولة . " ما لم تكونوا تعلمون " مفعول علمكم .
239. And if ye go in fear, then (pray) standing or on horseback. And when ye are again in safety, remember Allah, as He hath taught you that which (heretofore) ye knew not.
239 - If ye fear (an enemy), pray on foot, or riding, (as may be most convenient), but when ye are in security, celebrate God's praises in the manner he has taught you, which ye knew not (before).