ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى (فإن لم تفعلوا) ما ذُكر لعجزكم (ولن تفعلوا) ذلك أبداً لظهور إعجازه - اعتراض - (فاتقوا) بالإيمان بالله وأنه ليس من كلام البشر (النار التي وقودها الناس) الكفار (والحجارة) كأصنامهم منها ، يعني مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر ، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه (أعدت) هُيِّئت (للكافرين) يعذبون بها ، جملة مستأنفة أو حال لازمة
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فإن لم تفعلوا"، إن لم تأتوا بسورة من مثله، فقد تظاهرتم. أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله: "ولن تفعلوا"، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
كما حدثنا بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيدبن جبير، عن ابن عباس: "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"، فقد بين لكم الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله "فاتقوا النار"، يقول: فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحمي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صليها فأخبرهم أن الناس وقودها، وأن الحجارة وقودها، فقال: "التي وقودها الناس والحجارة"، يعني بقوله: "وقودها" حطبها، والعرب تجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنزلة الحطب. فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرًا من قول القائل: وقدت النار فهي تقد وقودًا وقدة ووقداناً ووقدًا، يراد بذلك أنها التهبت.
فإن قال قائل: وكيف خصت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حطبًا؟
قيل: إنها حجارة الكبريت، وهي أشد الحجارة فيما بلغنا حرًا إذا أحميت.
كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمروبن ميمون، عن عبد الله ابن مسعود، في قوله: "وقودها الناس والحجارة"، قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن عيينة، عن مسعر،عن عبد الملك الزراد، عن عمروبن ميمون، عن ابن مسعود في قوله: "وقودها الناس والحجارة"، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمروبن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة"، أما الحجارة، فهي حجارة في النار من كبريت أسود، يعذبون به مع النار.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: "وقودها الناس والحجارة"، قال: حجارة من كبريت أسود في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله بن مسعود، قال: حجارة من الكبريت
خلقها الله عنده كيف شاء وكما شاء.
القول في تأويل قوله: "أعدت للكافرين ".
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن الكافر في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرًا، لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نعماءه قبله.
فمعنى قوله إذا: "أعدت للكافرين "، أعدت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الأرض فراشاً، والسماء بناء، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم المشركين معه في عبادته الأنداد والآلهة، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحد بالأقوات والأرزاق.
كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: "أعدت للكافرين "، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
قوله تعالى : "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" .
قوله تعالى : "فإن لم تفعلوا" يعني فيما مضى "ولن تفعلوا" أي تطيقوا ذلك فيما يأين . والوقف على هذا على صادقين تام . وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار . فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على صادقين .
فإن قيل : كيف دخلت إن على لم ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أ ن إ ن ها هنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على لم كما تدخل على الماضي ، لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا : إن تركتم الفعل .
قوله تعالى : "ولن تفعلوا" نصب بلن ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة :
فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد
وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي لن ترع . هذا على تلك اللغة . وفي قوله : "ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها . وقال ابن كيسان : "ولن تفعلوا" توقيفاً لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثلهم .
وقوله : "فاتقوا النار" جواب فإن لم تفعلوا ، أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى . وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها . ويقال : إن لغى تميم وأسد فتقوا النار . وحكى سيبويه : تقى يتقي ، مثل قضى يقضي . النار :مفعولة . التي من نعتها . وفيها ثلاث لغات : التي واللت ( بكسر التاء ) واللت ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة . وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضاً . اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) . وفي جمعها خمس لغات : اللاتي ، وهي لغة القرآن . واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي . واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة :
من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتي
واللوا ( بإسقاط التاء ) ، وهذا ما حكاه الجوهري . وزاد ابن الشجري : اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) . فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي . وفي اللائي : اللوائي : قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز :
بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردت
وبعض الشعراء أدخل على التي حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده . فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال :
من اجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
ويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية . والوقود ( بالفتح ) : الحطب . وبالضم : التوقد . و الناس عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطباً لها ، أجارنا الله منها . والحجارة هي حجارة الكبريت الأسود ـ عن ابن مسعود و الفراء ـ وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة انواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الر ائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت . وليس في قوله تعالى : "وقودها الناس والحجارة" ـ دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها . وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" أي حطب جهنم . وعليه فتكون الحجارة والناس وقوداً للنار ، وذكر ذلك تعظيماً للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس . وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة . وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"كل مؤذ في النار" . وفي تأويله وجهان : أحدهما : أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار . الثاني : أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة . والله أعلم .
روى مسلم " عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال: نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ـ في رواية ـ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " . وقودها مبتدأ . الناس خبره . والحجارة عطف عليهم . وقرأ الحسن مجاهد و طلحة بن مصرف : وقودها ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير : وقيدها الناس . قال الكسائي و الأخفش : الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب ، و ( بالضم ) : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقوداً ( بالضم ) ووقداً ووقدة ووقيداً ووقداً ووقداناً ، أي توقدت . وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً . والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موقدة . والوقدة : شدة الحر، وهي عشرة أيام أو نصف شهر . قال النحاس : يجب على هذا الا يقرأ إلا وقودها ( بفتح الواو ) لأن المعنى حطبها ، إلا الأخفش قال : حكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر . قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر .
قوله تعالى : "أعدت للكافرين" ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكروه في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي . وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافاً للمبتدعة في قولهم : إنها لم تخلق حتى الآن . وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي . روى مسلم " عن ابي هريرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تدرون ما هذا ، قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها" . وروى البخاري عن ابي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجت النار والجنة فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها " . وأخرجه مسلم بمعناه . يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضاً في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك . وبالله التوفيق . و أعدت يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : "أو جاؤوكم حصرت صدورهم" فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع حصرت قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا يتم الوقف على الحجارة . ويجوز أن يكون كلاماً منقطعاً عما قبله ، كما قال : "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم" . وقال السجستاني : "أعدت للكافرين" من صلى التي ، كما قال في آل عمران : "واتقوا النار التي أعدت للكافرين" . ابن الأنباري : وهذا غلط ، لأن التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله : "وقودها الناس" فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صلة غير أعدت .
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص " قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سورة سبحان " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وقال في سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وكل هذه الايات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الاية " وإن كنتم في ريب " أي شك " مما نزلنا على عبدنا " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " فاتوا بسورة من مثله " يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: " فاتوا بعشر سور مثله " وقوله "لا يأتون بمثله" وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني من رجل أمي مثله، والصحيح الأول، لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الابدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والاذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وقال: "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال في الترهيب: "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير" وقال في الزجر: "فكلاً أخذنا بذنبه" وقال في الوعظ : " أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الايات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: "يا أيها الذين آمنوا" فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الاية، وان جاءت الايات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الاخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الايات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" ـ لفظ مسلم ـ وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الايات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة، فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.
وقوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" أما الوقود، بفتح الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً" وقال تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها، وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط بن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة" قال هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت، وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الاية، حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد، وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى : "كلما خبت زدناهم سعيراً" وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها، قال وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين، أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار، والاخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.
وقوله تعالى: "أعدت للكافرين" الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "أعدت للكافرين" أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر ، وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الاية على أن النار موجودة الان لقوله تعالى: "أعدت" أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الان وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)
قوله تعالى: " فاتوا بسورة من مثله " وقوله في سورة يونس: "بسورة مثله" يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عن المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً وقد قال الرازي في تفسيره فإن قيل قوله تعالى : " فاتوا بسورة من مثله " يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز، هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله، لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم " والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال " والعصر * إن الإنسان لفي خسر " ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ولقد أنزل علي مثلها، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر، ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.
24- "فإن لم تفعلوا" يعني فيما مضى "ولن تفعلوا" أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة "فاتقوا النار" بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار، وجملة لن تفعلوا لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها، لأنها لم تقع المعارضة من أحد الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن. والوقود بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد أي المصدر، وقد جاء في الفتح. والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقوداً للنار معهم. ويدل على هذا قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" أي حطب جهنم. وقيل: المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل ما لا يقدر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها، والمراد بقوله: "أعدت" جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك. وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص: " قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سبحان: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" وقال في سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ".
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه. وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: في شك " مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله " قال: من مثل القرآن حقاً وصدقاً لا باطل فيه ولا كذب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد " فاتوا بسورة من مثله " قال: مثل القرآن "وادعوا شهداءكم" قال: ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله: "شهداءكم" قال: أعوانكم على ما أنتم عليه "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" فقد بين لكم الحق . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " يقول: لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن وقودها برفع الواو الأولى، إلا التي في السماء ذات البروج "النار ذات الوقود" بنصب الواو. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله: "وقودها الناس والحجارة" حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وقودها الناس والحجارة" قال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكفاية؟ قال: فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها". وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أعدت للكافرين" قال: أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر.
24. " فإن لم تفعلوا " فيما مضى " ولن تفعلوا " أبداً فيما بقي. وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله. " فاتقوا النار " أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار. " التي وقودها الناس والحجارة " قال ابن عباس وأكثر المفسرين يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً، وقيل جميع الحجارة وهودليل على عظمة تلك النار وقيل: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " (98-الأنبياء) " أعدت " هيئت
" للكافرين ".
24-" فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وميز لهم الحق عن الباطل ، رتب عليه ما هو كالفذلكة له ، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته جميعاً عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ، ظهر معجز والتصديق به واجب ، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب ، فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازاً ، ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكتابة تقريراً للمكنى عنه ، وتهويلاً لشأن العتاد ، وتصريحاً بالوعيد مع الإيجاز ، وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب ، فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكاً في عجزهم ، ولذلك نفى إتيانهم معترضاً بين الشرط والجزاء تهكماً بهم وخطاباً معهم على حسب ظنهم ، فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققاً عندهم . و " تفعلوا " جزم بـ" لم " لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال : فإن تركتم الفعل ، ولذلك ساغ اجتماعهما . " ولن " كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه و الخليل في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أصله لا أن ، وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نوناً ، والوقود بالفتح ما توقد به النار ، وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه : وسمعنا من يقول وقدت النار وقوداً عالياً ، واسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل : فلان فخر قومه وزين بلده ، وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم ، وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي : وقودها احتراق الناس ، والحجارة : وهي جمع حجر . كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس ، والمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم ، وبدل عليه قوله تعالى : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " . عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه . أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم . وقيل : الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها ، وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه ، وقيل : حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود ، إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها ، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت ، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران . ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم " ناراً وقودها الناس والحجارة " . وسمعوه صح تعريف النار . ووقوع الجملة صلة بإزائها فإنها يجب أن تكون قصة معلومة .
" أعدت للكافرين " هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم . وقرئ : أعتدت من العتاد بمعنى العدة ، والجملة استئناف ، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها ، وإن جعلته مصدراً للفصل بينهما بالخبر . وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه :
الأول : ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن ، ثم :إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته ، التجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج .
الثاني : أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به ، فإنهم لو عارضوه بشئ لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة ، مخافة أن يعارض فتدحض حجته . وقوله تعالى : " أعدت للكافرين " دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم .
24. And if ye do it not and ye can never do it - enguard yourselves against the fire prepared for disbelievers, whose fuel is of men and stones.
24 - But if ye cannot and of a surety ye cannot then fear the fire whose fuel is men and stones, which is prepared for those who reject Faith.