25 - (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) طاعته وعن (والمسجد الحرام الذي جعلناه) منسكا ومتعبدا (للناس سواء العاكف) المقيم (فيه والباد) الطارىء (ومن يرد فيه بإلحاد) الباء زائدة (بظلم) أي بسببه بأن ارتكب منهيا ولو شتم الخادم (نذقه من عذاب أليم) مؤلم أي بعضه ومن هذا يؤخر خبر إن أي نذيقهم من عذاب أليم
قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد الآية أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الآية
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا رسله ، وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ، ويصدون عن سبيل الله : يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض " سواء العاكف فيه والباد " يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه ، حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به ، والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .
واختلف أهل التأويل ، في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه ، وهو المقيم فيه والباد في أنه ليس أحدهما بأحق بالمنزل فيه من الآخر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا حكام ، عن عمرو ، عن زيد بن أبي زياد ، عن ابن سابط ، قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة ، لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل ، ففشا فيهم السرق ، وكل أنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنما جعلته ليحرز متاعهم ،وهو قوله " سواء العاكف فيه والباد " قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحق بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال : قلت لسعيد بن جبير : أعتكف بمكة ، قال : أنت عاكف ، وقرأ " سواء العاكف فيه والباد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح " سواء العاكف فيه والباد " العاكف : أهله والباد : المنتاب في المنزل سواء .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ،قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " سواء العاكف فيه والباد " يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
حدثني يونس ،قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " سواء العاكف فيه و الباد " قال :العاكف فيه : المقيم بمكة ، و الباد : الذي يأتيه هم فيه سواء في البيوت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " سواء العاكف فيه و الباد " سواء فيه أهله و غير أهله .
حدثنا الحسن ، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قالثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله " سواء العاكف فيه و الباد " قال : أهل مكة و غيرهم في المنازل سواء .
و قال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال: ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " سواء العاكف فيه " قال: الساكن ، و الباد : الجانب سواء حق الله عليهما فيه .
حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله " سواء العاكف فيه " قال : الساكن " والباد " : الجانب .
قال ثنا الحسين قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة ، عن جابر وعن مجاهد و عطاء " سواء العاكف فيه " قالا : من أهله ، و الباد : الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .
و إنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، لأن الله تعالى ذكره ، ذكر في أول الآية صد من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال " إن الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله و المسجد الحرام " ثم ذكر جل ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال " الذي جعلناه للناس " فأخبر جل ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه ، ثم قال" سواء العاكف فيه و الباد " فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه و الباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدوا عنه المؤمنين به ، و ذلك لا شك طوافهم و قضاء مناسكهم به ، و المقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه و غير ملكهم . و قيل " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله " فعطف يصدون و هو مستقبل على كفروا ، و ه وماض ، لأن الصد بمعنى الصفة لهم و الدوام . و إذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ولا يكون بلفظ الماضي . و إذا كان ذلك كذلك ،فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصد عن سبيل الله ، و ذلك نظير قول الله " الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله " الرعد : 28 . و أما قوله سواء العاكف فيه فإن قراء الأمصار على رفع سواء بالعاكف ، و العاكف به ، و إعمال جعلناه في الهاء المتصلة به ، و اللام التي فيقوله للناس ،ثم استأنف الكلام بسواء ، وكذلك تفعل العرب بسواء إذا جاءت بعد حرف قد تم الكلام به ، فتقول مررت برجل سواء عنده الخير و الشر ، قد يجوز في ذلك الخفض ، و إنما يختار الرفع في ذلك لأن سواء في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : ذلك في سواء فاستأنف به , ورفع لم يقله في معتدل ، لأن معتدل فعل مصرح و سواء مصدر فاخراجهم إياه إلى الفعل كإخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . و قد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه سواء نصبا على إعمال جعلناه فيه ، و ذلك و إن كان له وجه في العربية ، فقرءاة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القراء على خلافه .
و قوله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " يقول تعالى ذكره : و من يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، و هو أن يميل في البيت الحرام بظلم ، و أدخلت الباء في قوله بإلحاد ، و المعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله تنبت بالدهن ، و المعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ و الشبهان
و المعنى : و أسفله ينبت المرخ و الشبهان ، و كما قال أعشى بني ثعلبة :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل و الصريح الأجرد
بمعنى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا فيقول بعض هحويي البصريين . و أما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الباء فيه ، لأن تأويله : و من يرد بأن يلحد فيه بظلم . و كان يقول : دخول الباء في أن أسهل منه في إلحاد و ما أشبهه ، لأن أن تضمر الخوافض معها كثيرا ، و تكون كالشرط فاحتملت دخول الخافض و خروجه ، لأن الإعراب لا يتبين فيها ، و قال في المصادر يتبين الرفع و الخفض فيها ، قال: و أنضدني أبو الجراح :
فما رجت بالشرب هز لها العصا شحيح له عند الأداء نهيم
و قال امرؤ القيس :
ألا هل أتاها و الحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
قال: فأدخل الباء على أن و هي في موضع رفع كما أدخلها على إلحاد ، و هو في موضع نصب ، قال: و قد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر :
ألم يأتيك و الأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
و قال: و هو في ما أقل منه في أن أقل شبها بالأسماء من ما . قال : و سمعت أعرابيا من ربيعة ، و سألته عن شيء ، فقال: أرجو بذاك : يريد أرجو ذاك . و اختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام ، أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله و عبادة غيره به : أي بالبيت .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " يقول : بشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " هو أن يعبد فيه غير الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا المعتمر بن سليمان ،عن أبيه ، قال " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " قال : هو الشرك ، و من أشرك في بيت الله عذبه الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
و قال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أنو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، و تقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " قال : يعمل فيه عملا سيئا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، و نصر بن عبد الرحمن الأودي قالا : ثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، و لو أن رجلا بعد أن بين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا شعبة ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال مجاهد ، قال يزيد ، قال لنا شعبة ، رفعه ، و أنا لا أرفعه لك في قول الله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " قال : لو أن رجلا هم فيه بسيئة و هو بعدن أبين ، لأذاقه الله عذابا أليما .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال :ثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن الضحاك بم مزاحم ، في قوله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " قال : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة و هو في بلد آخر و لم يعلمها ، فتكتب عليه .
حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .
و قال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " بإلحاد بظلم " قال : الذي يريد استحلاله متعمدا . و يقال الشرك .
و قال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن أشعث ، عن حبيب بن أبي ثابت ،في قوله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " قال: هم المحتكرون الطعام بمكة .
و قال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيا عنه من العل ، حتى قول القائل : لا و الله ،و بلى و الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثن محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ،قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحل ، و الآخر في الحرم ، فاذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا و الله و بلى و الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن أبي ربيعة ، عن الأعمش ، قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا و الله و بلى من الإلحاد فيه .
قال أبو جعفر : و أولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود و ابن عباس ، من أنه معني بالظلم في هذا الموضع ، كل معصية لله ، و ذلك أن الله عم بقوله " و من يرد فيه بإلحاد بظلم " و لم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر و لا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : و من يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصي الله فيه ، نذقه ، يوم القيامة من عذاب موجع له . و قد ذكر عن بعض القراء أنه كان يقرأ ذلك و من يرد فيه بفتح الياء ، بمعنى : و من يرده بإلحاد من وردت المكان أرده . و ذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القراء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب ، و ذلك أن يرد فعل واقع ، يقال منه : هو يرد مكان كذا أو بلدة كذا غدا ، و لا يقال : يرد في مكان كذا . و قد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب ، أن طيئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، و ذكر أن بعضهم أنشده بيتا :
و أرغب فينا عن لقيط و رهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
بمعنى : و أرغب بها ، فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به فغير جائزة لما وصفت .
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: "إن الذين كفروا ويصدون " أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع، إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع، أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة " ويصدون " خبر " إن ". وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله والباد تقديره: خسروا إذ هلكوا. وجاء " ويصدون " مستقبلاً إذ هو فعل يديمونه، كما جاء قوله تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " [الرعد: 28]، فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز. قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق قال: وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر " نذقه من عذاب أليم ". قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه، لأنه جاء بخبر " إن " جزماً، وأيضاً فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر " إن " لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية: قوله تعالى: " والمسجد الحرام " قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجاً عنه، قال الله تعالى: " وصدوكم عن المسجد الحرام " [الفتح: 25] وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " [الإسراء: 1] وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة: قوله تعالى: " الذي جعلناه للناس " أي للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله تعالى: " إن أول بيت وضع للناس " [آل عمران: 96]. "سواء العاكف فيه والباد " العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد، فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارىء عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله، وهذا قول مجاهد و مالك ، رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى. وقال ذلك سفيان الثوري وغيره. وكذلك كان لأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.
وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم، كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحساناً إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الأوزاعي . أو كان فتحها صلحاً - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجناً، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ((المائدة)). وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.
قلت: الصحيح ما قاله مالك وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضاً عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضاً عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - قال - : من أكل من أجر بيوت مكة شيئاً فإنما يأكل ناراً ". قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعاً ووهم فيه، ووهم أيضاً في قوله عبيد الله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها ". وروى أبو داود " عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قلت يا رسول الله، ألا أبني لك بمنىً بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه ". وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: " الذين أخرجوا من ديارهم " فأضافها إليهم. " وقال عليه السلام يوم الفتح:
من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ".
الرابعة: قرأ جمهور الناس " سواء " بالرفع، وهو على الابتداء، و " العاكف " خبره. وقيل: الخبر " سواء " وهو مقدم، أي العاكف فيه والبادي سواء، وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبداً العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم " سواء " بالنصب، وهي قراءة الأعمش . وذلك يحتمل أيضاً وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً ثانياً لجعل، ويرتفع " العاكف " به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالاً من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة " سواء " بالنصب " العاكف " بالخفض، و البادي عطفاً على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة، وقد ذكرناه.
الخامسة: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " شرط، وجوابه " نذقه من عذاب أليم ". والإلحاد في اللغة: الميل، إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم، فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال: الشرك. وقال عطاء : الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير محرم. وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانةً للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ". وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو بعدن أبين لعذبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة ((ن والقلم)) مبيناً، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
السابعة: الباء في " بإلحاد " زائدة كزيادتها في قوله تعالى: " تنبت بالدهن " [المؤمنون: 20]، وعليه حملوا قول الشاعر:
حن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق. وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
أي ما لاقت، والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء : سمعت أعرابياً وسألته عن شيء فقال: أرجو بذلك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقد ذكرناه آنفاً.
يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم أولياؤه "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون" الاية, وفي هذه الاية دليل على أنها مدنية, كما قال في سورة البقرة: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" وقال ههنا: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام" أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام, أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر, وهذا التركيب في هذه الاية كقوله تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله: "الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام, وقد جعله الله شرعاً سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه "سواء العاكف فيه والباد" ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "سواء العاكف فيه والباد" قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وقال مجاهد : "سواء العاكف فيه والباد" أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل, وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله, وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف, وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً, فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر, واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله أتنزل غداً في دارك بمكة ؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين , وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة, فجعلها سجناً, بأربعة آلاف درهم, وبه قال طاوس وعمرو بن دينار , وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر, وهو مذهب طائفة من السلف, ونص عليه مجاهد وعطاء , واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين , عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعي رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها, وقال أيضاً عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم, وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها, فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو , فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك, فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجراً, فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري, قال: فلك ذلك إذاً. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء, قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول: "سواء العاكف فيه والباد" قال: ينزلون حيث شاؤوا, وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً "من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً" وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة, والله أعلم. وقوله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة, كقوله: "تنبت بالدهن" أي تنبت الدهن, وكذا قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد" تقديره إلحاداً, وكما قال الأعشى .
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد
وقال الاخر:
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم, ولهذا عداه بالباء فقال: "ومن يرد فيه بإلحاد" أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار: وقوله: "بظلم" أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول, كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : بظلم بشرك, وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله, وكذا قال قتادة وغير واحد. وقال العوفي عن ابن عباس : بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل, فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك, فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم, وقال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملاً سيئا, وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه, كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره, حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين, لأذاقه الله من العذاب الأليم, قال شعبة : هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد : هو قد رفعه, ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به, قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري , ووقفه أشبه من رفعه, ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود , وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي , عن مرة , عن ابن مسعود موقوفاً, والله أعلم. وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه, ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم, وكذا قال الضحاك بن مزاحم , وقال سفيان الثوري عن منصور , عن مجاهد : إلحاد فيه لا والله وبلى والله, وروي عن مجاهد , عن عبد الله بن عمرو مثله, وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه, وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء , عن ميمون بن مهران , عن ابن عباس في قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: تجارة الأمير فيه. وعن ابن عمر : بيع الطعام بمكة إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت : "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: المحتكر بمكة, وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري , أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى , عن عمه عمارة بن ثوبان , حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا عطاء بن دينار , حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله الله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: نزلت في عبد الله بن أنيس , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر, والاخر من الأنصار, فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري, ثم ارتد عن الإسلام, وهرب إلى مكة, فنزلت فيه "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد, يعني بميل عن الإسلام, وهذه الاثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد, ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها, ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل, " ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول ", أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء, ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم" الحديث.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كناسة , حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيلحد فيه رجل من قريش, لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" فانظر لا تكن هو, وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص : حدثنا هاشم , حدثنا إسحاق بن سعيد , حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير , إياك والإلحاد في الحرم , فاني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحلها ويحل به رجل من قريش, لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها" قال: فانظر لا تكن هو, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
قوله: 25- "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله" عطف المضارع على الماضي، لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد، ومثل هذا قوله "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله"، أو المراد بالصد ها هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في ويصدون واو الحال: أي كفروا والحال أنهم يصدون. وقيل الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله: "والباد" وذلك نحو خسروا أو هلكوا. وقال الزجاج: إن الخبر ونذقه من عذاب أليم. ورد بأنه لو كان خبراً لأن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو ومن يرد بغير جواب فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا والمراد بالصد المنع وسبيل الله دينه: أي يمنعون من أراد الدخول في دين الله والمسجد الحرام، معطوف على سبيل الله قيل المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله: "الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف، وهو المقيم فيه الملازم له والباد أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم وانتصاب سواء على أنه المفعول الثاني لجعلناه، وهو بمعنى مستوياً، والعاكف مرتفع به، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، ويحتمل أن يكون انتصاب سواء على الحال. وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجمهور برفع "سواء" على أنه مبتدأ وخبره العاكف أو على أنه خبر مقدم، والمبتدأ العاكف أي العاكف فيه والبادي سواء، وقرئ بنصب "سواء" وجر العاكف على أنه صفة للناس: أي جعلناه للناس العاكف والبادي سواء، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلاً ووقفاً، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه.
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ. وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاه أم أبى. وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها. والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه. أو جميع الحرم، أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" مفعول برد محذوف لقصد التعميم، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً: أي مراد بإلحاد: أي بعدول عن القصد، والإلحاد في اللغة الميل إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم.
وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيل صيد خيواناته وقطع أشجاره، وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله. والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذاً بمجرد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" فدخل النار هنا بسبب مجرد حرصه على قتل صاحبه. وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة، والباء في قوله بإلحاد إن كان مفعول يرد محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة، وقيل إنها زائدة هنا كقول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي نرجو الفرج، ومثله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
أي ما لاقت، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس بإلحاد. وقيل إن يرد مضمن معنى بهم، والمعنى: ومن يهم فيه بإلحاد. وأما الباء في قوله بظلم فهي للسببية، والمعنى: ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم، ويجوز أن يكون بظلم بدلاً من بإلحاد بإعادة الجار ويجوز أن يكونا حالين مترادفين.
25. قوله عز وجل: " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله "، عطف المستقبل على الماضي، لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي، كما قال تعالى في موضع آخر: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " (النساء:167)، معناه: إن الذين كفروا فيما تقدم، ويصدون عن سبيل الله في الحال، أي: وهم يصدون. " والمسجد الحرام "، أي: ويصدون عن المسجد الحرام. " الذي جعلناه للناس "، قبلةً لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال: " وضع للناس " (آل عمران:96). " سواءً "، قرأ حفص عن عاصم و يعقوب : ((سواء)) نصباً بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين. وقيل: معناه مستوياً فيه، " العاكف فيه والباد "، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر، وتمام الكلام عند قوله " للناس "، وأراد بالعاكف: المقيم فيه، والبادي: الطاريء المنتاب إليه من غيره.
واختلفوا في معنى الآية، فقال قوم: ((سواء العاكف فيه والباد)) أي: في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه. وإليه ذهب مجاهد و الحسن وجماعة، وقالوا: المراد منه نفس المسجد الحرام. ومعنى التسوية: هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت.
وقال آخرون: المراد منه جميع الحرم، ومعنى التسوية: أن المقيم والبادي سواء في النزول به، ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منزل، وهو قول ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و ابن زيد قالوا: هما سواء في [البيوت] والمنازل.
وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزلة منهم. وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وعلى القول الأول -وهو الأقرب إلى الصواب- يجوز، لأن الله تعالى قال: " الذين أخرجوا من ديارهم " (الحج:40)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن "، فنسب الدار إليه نسب ملك، واشترى عمر داراً للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم، فدل على جواز بيعها. وهذا قول طاووس و عمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي .
قوله عز وجل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " أي: في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم، الباء في قوله ((بإلحاد)) زائدة كقوله: " تنبت بالدهن " (المؤمنون:20)، ومعناه من يرد فيه إلحاداً بظلم، قال الأعشى : (( ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ))، أي: رزق عيالنا. وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال: معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم.
واختلفوا في هذا الإلحاد، فقال مجاهد و قتادة : هو الشرك وعبادة غير الله.
وقال قوم: هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم.
وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم، أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم، من قتل صيد، أو قطع شجر.
وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك، وهذا معنى قول الضحاك .
وعن مجاهد أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
وقال حبيب بن أبي ثابت: هو احتكار الطعام بمكة.
وقال عبد الله بن مسعود في قوله: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم "، قال: لو أن رجلاً هم بخطيئة لم تكتب عليه، ما لم يعملها، ولو أن رجلاً ههم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين، أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. وقال السدي : إلا أن يتوب.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله، وبلى والله.
25ـ " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله " لا يريد به حالاً ولا استقبالاً وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حين عطفه على الماضي . وقيل هو حال من فاعل " كفروا " وخبر " إن " محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون . " والمسجد الحرام" عطف على اسم الله وأوله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : " الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد " أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : " الذين أخرجوا من ديارهم " وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و " سواء " خبر مقدم والجملة مفعول ثان لـ " جعلناه " إن جعل " للناس " حالاً من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و " العاكف " مرتفع به ، وقرىء " العاكف " بالجر على أنه بدل من الناس . " ومن يرد فيه " مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرئ بالفتح من الورود . " بإلحادً " عدول عن القصد " بظلم " بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحداً بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام " نذقه من عذاب أليم " جواب لـ " من " .
25. Lo! those who disbelieve and bar (men) from the way of Allah and from the Inviolable Place of Worship, which We have appointed for mankind together, the dweller therein and the nomad; whosoever seeketh wrongful partiality therein, him We shall cause to taste a painful doom.
25 - As to who have rejected (God), and would keep back (men) from the way of God, and From the Sacred Mosque, which We have made (open) to (all) men Equal is the dweller there and the visitor from the country and any whose purpose therein Is profanity or wrong doing them will we cause to taste Of a most grievous penalty.