(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا، يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه. "وعملوا الصالحات" التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي ندبهم إليها. "وأقاموا الصلاة" المفروضة بحدودها، وأدوها بسننها. "وآتوا الزكاة" المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الربا قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم، "لهم أجرهم"، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم، "عند ربهم" يوم حاجتهم إليه في معادهم، "ولا خوف عليهم" يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتم، وكفرهم قبل مجيئهم موعظة ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم، وتصديقهم بوعد الله ووعيده، "ولا هم يحزنون" على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه.
قوله تعالى : "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا, أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه, أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به, بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة, كما قال تعالى: "قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث" وقال تعالى: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " وقال " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله " الاية, وقال ابن جرير: في قوله "يمحق الله الربا" وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل, وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده, فقال: حدثنا حجاج. حدثنا شريك, عن الركين بن الربيع عن أبيه, عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل", وقد رواه ابن ماجه: عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون, عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري, عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل", وهذا من باب المعاملة, بنقيض المقصود, كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا الهيثم بن نافه الظاهري, حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة, عن فروخ مولى عثمان, أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين, خرج من المسجد فرأى طعاماً منشوراً, فقال: ما هذا الطعام ؟ فقالوا: طعام جلب إلينا, قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه, قيل: يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر, قال: من احتكره ؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر, فأرسل إليهما, فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع, فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام", فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبداً, وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع, قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذوماً, ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به, ولفظه "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام".
وقوله "ويربي الصدقات" قرئ بضم الياء والتخفيف, من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه, أي كثره ونماه ينميه, وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية, قال البخاري: حدثنا عبد الله بن كثير, أخبرنا كثير سمع أبا النصر, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار, عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يقبل الله إلا الطيب, فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه, حتى يكون مثل الجبل" كذا رواه في كتاب الزكاة, وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال, عن عبد الله بن دينار فذكره بإسناده نحوه, وقد رواه مسلم في الزكاة, عن أحمد بن عثمان بن حكيم, عن خالد بن مخلد, فذكره, قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم, وزيد بن أسلم, وسهيل, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم, فقد تفرد البخاري بذكرها, وأما طريق زيد بن أسلم, فرواها مسلم في صحيحه, عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب, عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به, وأما حديث سهيل, فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به, والله أعلم, قال البخاري: وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي, عن الحاكم وغيره, عن الأصم, عن العباس المروزي, عن أبي النضر, هاشم بن القاسم, عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري, عن عبد الله بن دينار , عن سعيد بن يسار , عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يصعد إلى الله إلا الطيب, فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه, حتى يكون مثل أحد" وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعاً, عن قتيبة, عن الليث بن سعد, عن سعد المقبري, وأخرجه النسائي من رواية مالك, عن يحيى بن سعيد الأنصاري, ومن طريق يحيى القطان, عن محمد بن عجلان, ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم , فذكره, وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع, عن عباد بن منصور, حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول, الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يقبل الصدقة, ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه, حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" وتصديق ذلك في كتاب الله " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " وكذا رواه أحمد, عن وكيع, وهو في تفسير وكيع, ورواه الترمذي, عن أبي كريب عن وكيع به, وقال: حسن صحيح, وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به, ورواه أحمد أيضاً عن خلف بن الوليد, عن ابن المبارك, عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور, كلاهما عن أبي نضرة, عن القاسم به, وقد رواه ابن جرير, عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق, عن عبد الرزاق, عن معمر, عن أيوب, عن القاسم بن محمد, عن أبي هريرة, قال: قال رسول, الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه, فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله, وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله, أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد, فتصدقوا" وهكذا رواه أحمد: عن عبد الرزاق, وهذا طريق غريب صحيح الإسناد, ولكن لفظه عجيب, والمحفوظ ما تقدم, وروي عن عائشة أم المؤمنين, فقال الإمام أحمد, حدثنا عبد الصمد, حدثنا حماد عن ثابت, عن القاسم بن محمد, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد" تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب, ولا يقبل الله إلا الطيب, فيتلقاها الرحمن بيده, فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه" أو قال فصيله, ثم قال: لا نعلم أحداً رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس.
وقوله "والله لا يحب كل كفار أثيم", أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل, ولا بد من مناسبة في ختم هذه الاية بهذه الصفة, وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال, ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح, فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل, بأنواع المكاسب الخبيثة, فهو جحود لما عليه من النعمة, ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل ـ ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم, المطيعين أمره المؤدين شكره, المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, مخبراً عما أعد لهم من الكرامة, وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
وقد تقدم تفسير قوله: 277- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" إلى آخر الآية.
وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق "ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا" وكذبوا على الله "وأحل الله البيع وحرم الربا" ومن عاد فأكل الربا "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله: "لا يقومون" قال: ذلك حين يبعث من قبره. وأخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه، ثم قرأ "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"" وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا، منها من حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً عند ابن ماجه والبيهقي بلفظ "سبعون باباً" وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس وأنس. وأخرج ابن جرير عن الربيع في الآية قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان وهي في بعض القراءات: لا يقومون يوم القيامة. يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: آخر آية أنزلها على رسوله آية الربا. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عمر مثله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه. وأخرج أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه أيضاً وزاد في قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" قال: يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا فانتهى عنه "فله ما سلف" يعني فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم "وأمره إلى الله" يعني بعد التحريم وبعد تركه إن شاء عصمه منه وإن شاء لم يفعل "ومن عاد" يعني في الربا بعد التحريم فاستحله بقولهم: " إنما البيع مثل الربا " - " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني لا يموتون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: "يمحق الله الربا" قال: ينقص الربا "ويربي الصدقات" قال: يزيد فيها، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً، ، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني من حديث عائشة نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وفي حديث عائشة وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث "يمحق الله الربا ويربي الصدقات". وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد" وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.
277. " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
277-" إن الذين آمنوا " بالله ورسوله وبما جاءهم منه . " وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة " عطفها على ما يعمهما لأنافتهما على سائر الأعمال الصالحة . " لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم " من آت . " ولا هم يحزنون " على فائت .
277. Lo! those who believe and do good works and establish worship and pay the poor due, their reward is with their Lord and there shall no fear come upon them neither shall they grieve.
277 - Those who believe, and do deeds of righteousness, and establish regular prayers and regular charity, will have their reward with their Lord: on them shall be no fear, nor shall they grieve.