28 - (وقال رجل مؤمن من آل فرعون) قيل هو ابن عمه (يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن) أي لأن (يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات) بالمعجزات الظاهرات (من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه) أي ضرر كذبه (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) به من العذاب عاجلا (إن الله لا يهدي من هو مسرف) مشرك (كذاب) مفتر
وقوله : " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن ، فقال بعضهم : كان من قوم فرعون ، غير أنه كان قد آمن بموسى ، وكان يسر إيمانه من فرعون وقومه خوفاً على نفسه .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " وقال رجل مؤمن من آل فرعون " قال : هو ابن عم فرعون ، ويقال : هو الذي نجا مع موسى . فمن قال هذا القول ، وتأول هذا التأويل ، كان صواباً الوقف إذا أراد القارىء الوقف على قوله : " من آل فرعون " ، لأن ذلك خبر متناه قد تم .
وقال آخرون : بل كان الرجل إسرائيلياً ، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون .
والصواب على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله " يكتم إيمانه " لأن قوله : " من آل فرعون " صلة لقوله : " يكتم إيمانه " فتمامه قوله : يكتم إيمانه . وقد ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل فرعون : جبريل ، كذلك -
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ، القول الذي قاله السدي من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، قد أصغى لكلامه ، واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله ، وقيله ما قال ، وقال له : ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، ولو كان إسرائيلياً لكان حرياً أن يعاجل هذا القائل له ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل ، لاعتداده إياهم أعداء له ، فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد سبيلاً ! ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع قوله ، وكف عما كان هم به في موسى .
وقوله : " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " يقول : أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله فأن في موضع نصب لما وصفت " وقد جاءكم بالبينات " يقول : وقد جاءكم بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك . وتلك البينات من الآيات يده وعصاه .
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق " وقد جاءكم بالبينات من ربكم " بعصاه وبيده .
وقوله : " وإن يك كاذباً فعليه كذبه " يقول : وإن يك موسى كاذباً في قيله : إن الله أرسله إليكم يأمركم بعبادته ، وترك دينكم الذي أنتم عليه ، فإنما إثم كذبه عليه دونكم " وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " يقول : وإن يك صادقاً في قيله ذلك ، أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون ،فلا حاجة بكم إلى قتله ، فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطاً " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " يقول : إن الله لا يوفق للحق من هو متعد إلى فعل ما ليس له فعله ، كذاب عليه ، يكذب ويقول عليه الباطل وغير الحق .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به الشرك ، وأراد : إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " : مشرك أسرف على نفسه بالشرك .
وقال آخرون : عنى به من هو قتال سفاك للدماء بغير حق .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " قال : المسرف : هو صاحب الدم ، ويقال : هم المشركون .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عم بقوله " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " والشرك من الإسراف ، وسفك الدم بغير حق من الإسراف ، وقد كان مجتمعاً في فرعون الأمران كلاهما ، فالحق أن يعم ذلك كما أخبر جل ثناؤه عن قائله ، أنه عم القول بذلك .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وقال رجل مؤمن " ذكر بعض المفسرين : أن اسم هذا الرجل حبيب . وقيل :شمعان بالشين المعجمية . قال السهيلي : وهو أصح ما قيل فيه . وفي تاريخ الطبري رحمه الله : اسمه خبرك . وقيل : حزقيل ؟ . ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء . الزمخشري : واسمه سمعان أو حبيب . وقيل : خربيل أو حزبيل . واختلف هل كان إسرائيلياً أو قتطياً فقال الحسن وغيره : كان قبطياً . ويقال : إنه كان ابن عم فرعون ،قاله السدي . قال : وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام ، ولهذا قال : (من آل فرعون ) . وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى : " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى " [ القصص : 20] الآية. وهذا قول مقاتل . وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم " وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك . وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون ،فلهذا لم يتعرض له بسوء . وقيل كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعو عن السدي أيضاً ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير ، والتقدير : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون . فمن جعل الرجل قبطياًفـ( من ) عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل ، التقدير : وقال رجل ممؤمن منسوب من آل فرعون ، أي من أهله وأقاربه . ومن جعله إسرائيل فـ(من ) متعلقة بـ( يكتم ) في موضع المفعول الثاني ل(يكتم ) القشيري : ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد ، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه . ,قال الله تعالى : " ولا يكتمون الله حديثا " [النساء : 42] وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول .
الثاني :قوله تعالى : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " أي لأن يقول ومن أجل ( أن يقول ربي الله ) فـ( أن) في موضع نصب بنزع الخافض . " وقد جاءكم بالبينات " يعني الآيات التسع " من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه " ولم يكن ذلك لشك منه في رساتلته وصدقه ، ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى . ولو كان و( إن يكن ) بالنون جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه ، ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس . " وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم . ومذهب أبي عبيدة أن معنى ( بعض الذي يعدكم ) كل الشي يعدكم وأنشد قول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
فبعض بمعنى كل ، لأن البعض إذا أصابها أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد ، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ . وذكر الماوردي : أن البعض قد يسستعمل في مضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام ، كما قال الشاعر :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقيل أيضاً : قال ذلك لأنه حذرهم أنواعاً من العذاب كل نوع منها مهلك، فكأنه حذرهم أن يصيبكم أحد العذابين . وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا ، فالمعنى يصيبكم أحد العذابين . وقيل : أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد ، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضاً . وقيل : وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا ، فإذا كفروا بصيبهم بعض ما وعدوا . " إن الله لا يهدي من هو مسرف " على نفسه " كذاب " على ربه إشارة إلى موسى ويكون هذا من قوله المؤمن . وقيل : ( مسرف ) في عناده ( كذاب ) في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : " يكتم إيمانه " قال القاضي أبو بكر بن العربي : ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمناً باعتاقده ، وقد مال مالك : إن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته أنه يلزمه ، كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه . فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك ، لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه ، بما لبابه أن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يلتفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته ومن التكليف ، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله .
الرابعة : روى البخاري و مسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذا أقيل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " لفظ البخاري . خرجه الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول) من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله ، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته : ويلكم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ . فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون إن ذلك رجل كتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل .
قلت : قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه . في ( نوادر الأصول ) أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها : ما أشد شيء رأيت المشركين يلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان المشركون قعوداً في المسجد ، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم ، فبيناهم كذلك إذا دخل رسسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم ، فقالوا : أليست تقول كذا في آلهتنا قال : ( بلى ) فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى إبي بكر فقال له : أدرك صاحبك . فخرج من عندنا وإن له عدائر ، فدخل المسجد وهو يقول : ( ولكم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر ، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه ، وهو يقول : تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، إكرام إكرام.
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطياً من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون ويقال إنه الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام, واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام, ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجل بالعقوبة لأنه منهم وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون والذي قال: "يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" رواه ابن أبي حاتم وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون "ذروني أقتل موسى" فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل. وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر كما ثبت بذلك الحديث, ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله" اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟" انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي قال وتابعه محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال مر صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم فقالوا له أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال: "أنا ذاك" فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه وهو يصيح بأعلى صوته وإن عينيه لتسيلان وهو يقول: يا قوم "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" حتى فرغ من الاية كلها وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه, وقوله تعالى: "وقد جاءكم بالبينات من ربكم" أي كيف تقتلون رجلاً لكونه يقول ربي الله وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: "وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم" يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والاخرة وإن يكن صادقاً وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والاخرة فمن الجائز عندكم أن يكون صادقاً فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه. وهكذا أخبر الله عز وجل عن موسى عليه السلام أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: "ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون" وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله ولا يمسوه بسوء ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته قال الله عز وجل: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" أي أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس, وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية وكان فتحاً مبيناً, وقوله جل وعلا: "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" أي لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذباً كما تزعمون لكان أمره بيناً يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقيماً, ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله, ثم قال المؤمن محذراً قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: "يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض" أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله "فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا" أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئاً من بأس الله إن أرادنا بسوء قال فرعون لقومه راداً على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون "ما أريكم إلا ما أرى" أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر" وقال الله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" فقوله: "ما أريكم إلا ما أرى" كذب فيه وافترى وخان الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورعيته فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضاً في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه قال الله تبارك وتعالى: "فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد" وقال جلت عظمته: "وأضل فرعون قومه وما هدى" وفي الحديث "ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
28- "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه" قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله: "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى" الآية، وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه: "ولا يكتمون الله حديثاً" وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل حبيب، وقيل حزقيل، وقيل غير ذلك، وقرأ الجمهور " رجل " بضم الجيم، وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها، وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرئ بكسر الجيم ومؤمن صفة لرجل، ومن آل فرعون صفة أخرى، ويكتم إيمانه صفة ثالثة، والاتفهام في "أتقتلون رجلاً" للإنكار، و"أن يقول ربي الله" في موضع نصب بنزع الخافض: أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وجملة "وقد جاءكم بالبينات من ربكم" في محل نصب على الحال: أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والدلالات الظاهرات على نبوته وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال: "وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم" ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن، ومعنى "يصبكم بعض الذي يعدكم" أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال: كما قال سيبويه، وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم: بعض هنا بمعنى كل: أي يصبكم كل الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي كل النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل كما في قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقول الآخر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وليس في البيتين ما يدل على ما زعموه، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله: "يكتم إيمانه" قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل: وقال الليث: بعض ها هنا صلة، يريد: يصبكم الذي يعدكم، وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب، وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" هذا من تمام كلام الرجل المؤمن وهو احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
28. " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ".
واختلفوا في هذا المؤمن: قال مقاتل و السدي : كان قبطياً ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله عنه فقال: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " (القصص-20)، وقال قوم: كان إسرائيلياً، ومجاز الآية: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، وكان اسمه حزئيل عند ابن عباس، وأكثر العلماء. وقال ابن إسحاق: كان اسمه [جبران]. وقيل: كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون حبيباً. " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله "، لأن يقول ربي الله، " وقد جاءكم بالبينات من ربكم "، أي: بما يدل على صدقه، " وإن يك كاذباً فعليه كذبه "، لا يضركم ذلك، " وإن يك صادقاً "، فكذبتموه، " يصبكم بعض الذي يعدكم "، قال أبو عبيد: المراد بالبعض الكل، أي: إن قتلتموه وهو صادق أصابكم ما يتوعدكم به من العذاب. قال الليث: (( بعض )) صلة، يريد: يصبكم الذي يعدكم. وقال أهل المعاني: هذا على الظاهر في الحجاج كأنه قال: أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل، " إن الله لا يهدي "، إلى دينه، " من هو مسرف "، [مشرك]، " كذاب "، على الله.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنفه به خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (( أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )).
28-" وقال رجل مؤمن من آل فرعون " من أقاربه . وقيل " من " متعلق بقوله " يكتم إيمانه " والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم " أتقتلون رجلاً " أتقصدون قتله . " أن يقول " لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره . " ربي الله " وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد ." وقد جاءكم بالبينات " المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات . " من ربكم " أضافة إليهم بعد البينات احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : " وإن يك كاذباً فعليه كذبه " لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله ." وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم " فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذباً أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم وتفسير الـ" بعض " بالكل كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط النفوس حمامها
مروج لأنه أراد بالـ" بعض " نفسه . " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " احتجاج ثالث ذو وجهين .
أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات .
وثانيهما : أن من خلق الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله . ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه " مسرف كذاب " لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة .
28. And a believing man of Pharaoh's family, who hid his faith, said: Would ye kill a man because he saith: My Lord is Allah, and hath brought you clear proofs from your Lord? If he is lying, then his lie is upon him; and if he is truthful then some of that wherewith he threateneth you will strike you. Lo! Allah guideth not one who is a prodigal, a liar.
28 - A Believer, a man from among the people of Pharaoh, who had concealed his faith, said: Will ye slay a man because he says, My Lord is God? When he has indeed come to you with Clear (Signs) from your Lord? And if he be a liar, on him is (the sin of) his lie; but, if he is telling the Truth, then will fall on you something of the (calamity) of which he warns you: truly God guides not one who transgresses and lies!