( هو الذي خلق لكم ما في الأرض) أي الأرض وما فيها (جميعا) لتنتفعوا به وتعتبروا (ثم استوى) بعد خلق الأرض أي قصد (إلى السماء فسوَّاهن) الضمير يرجع إلى السماء لأنها في معنى الجملة الآيلة إليه : أي صيرها كما في آية أخرى {فقضاهن} (سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) مجملاً ومفصلاً ، أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادرٌ على إعادتكم
"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم"
قوله تعالى : "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" فيه عشر مسائل :
الأولى :"خلق" معناه اخترع وأوجد بعد العدم . وقد يقال في الإنسان : خلق عند إنشائه شيئاً ، ومنه قول الشاعر :
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليله
وقد تقدم هذا المعنى . وقال ابن كيسان : "خلق لكم" أي من أجلكم . وقيل : المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم . وقيل : إنه دليل على التوحيد والاعتبار .
قلت : وهذا هو الصحيح على ما نبينه . ويجوز أن يكون عنى به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء .
الثانية : استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها ـ كقوله : "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" الآية ـ حتى يقوم الدليل على الحظر . وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثاً ، فلا بد لها من منفعة . وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستعائه بذاته ، فهي راجعة إلينا . ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك أو في اعتبارنا بها . ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد ، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب . ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين . ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سمواً مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر . وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسناً ولا قبحاً إلا ويمكن أن يكون حسناً في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورد المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف . ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره ، وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه . قال ابن عطية : وحكي ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب . قال : فينبغي ان يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف .
الثالثة : الصحيح في معنى قوله تعالى : "خلق لكم ما في الأرض" الاعتبار . يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها ، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض ، لا تبعد منه القدرة على الإعادة .
فإن قيل : إن معنى كم الانتفاع ، أي لتنتفعوا بجميع ذلك ، قلنا : المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا . فإن قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات ، قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سبباً للإيمان وترك المعاصي ، وذلك أعظم الاعتبار . قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظراً ولا إباحة ولا وقفاً ، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته .
وقال أرباب المعاني في قوله : "خلق لكم ما في الأرض جميعا" : لتتقووا به على طاعته ، لا لتصرفوه في وجوه معصيته . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد .
الرابعة : روى زيد بن أسلم عن ابيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
"أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا ، فقال له عمر : هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
أنفق ولا تخش من ذي العرض إقلالا
فتبسم رسول الله صلى عليه وسلم ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بذلك أمرت " . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : "خلق لكم ما في الأرض جميعا" ، " سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" . فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعاً لعذره وحجة عليه ، لكون له عبداً كما خلقه عبداً ، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه ، كما قال تعالى : "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" وقال : "فإن ربي غني كريم" ، و" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي يابن آدم أنفق أنفق عليك يمين الله ملأى سحا لا يغيضها شيء الليل والنهار" . و" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" . وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضاً ، وهذا كله صحيح رواه الائمة والحمد لله . فمن استنار صدره ، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال ، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته ، وانقطعت مشيئته لنفسه ، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالاً . وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء ، فإذا أعطى اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا ، فيضيق عيه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله . روى مسلم " عن أسماء بنت أبي بكر قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك " . وروى النسائي " عن عائشة قالت : دخل علي سائل مرة عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك ، قلت : نعم ، قال : مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك" .
الخامسة : قوله تعالى : "ثم استوى" ثم لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء ، قال الله تعالى : "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" ، وقال "لتستووا على ظهوره" ، وقال الشاعر :
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد خلق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا ، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا . وهذه الآية من المشكلات ، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه ، قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وذهب إليه كثير من الأئمة ، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلاً سأله عن قوله تعالى : "الرحمن على العرش استوى" قال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء ! أخرجوه . وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة . وهذا قول المشبهة . وقال بعضهم : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها . وقال الفراء في قوله عز وجل : "ثم استوى إلى السماء فسواهن" قال : الاستواء في كلام العرب على وجهين ، أحدهما : ان يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، أو يستوي عن اعوجاج ، فهذا ن وجهان . ووجه ثالث أن تقول : كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني . على معنى أقبل إلي وعلي .هذا معنى قوله : "ثم استوى إلى السماء" والله أعلم . قال وقد قال ابن عباس : ثم استوى إلى السماء صعد . وهذا كقولك : كان قاعداً فاستوى قائماً ، وكان قائماً فاستوى قاعداً ، وكل ذلك في كلام العرب جائز . وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قوله استوى بمعنى أقبل صحيح ، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء ، والقصد هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى . ولفظة ثم تتعلق بالخلق لا بالإرادة . وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي ، و الكلبي ضعيف . وقال سفيان بن عيينة و ابن كيسان في قوله : "ثم استوى إلى السماء" . قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه فهذا قول . وقيل : على دون تكييف ولا تحديد ، واختاره الطبري . ويذكر عن ابي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال : استوى بمعنى أنه ارتفع . قال البيهقي : ومراده من ذلك ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء . وقيل : إن المستوي الدخان . وقال ابن عطية : وهذا يأباه وصف الكلام . وقيل : المعنى استولى ، كما قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
قال ابن عطية : وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : "الرحمن على العرش استوى" قلت : قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى . والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة .
السادسة : يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ، وكذلك في حم السجدة . وقال في النازعات : "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها" فوصف خلقها ، ثم قال : "والأرض بعد ذلك دحاها" . فكأن السماء على هذا خلقها قبل الأرض ، وقال تعالى : "الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض" وهذا قول قتادة : إن السماء خلقت أولاً ، حكاه عنه الطبري . وقال مجاهد وغيره من المفسرين : إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه ، فجعله أرضاً وثار منه دخان فارتفع ، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء ، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وكان إذ خلقها غير مدحوة .
قلت : وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى ، وهو أن الله تعالى خلق أولاً دخان السماء ثم خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .
ومما يدل على أن الدخان خلق أولاً قبل الأرض ما رواه السدي عن ابي مالك ، وعن ابي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء ، فسما عليه ، فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين ، في الأحد والإثنين . فجعل الأرض على حوت والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله : "ن والقلم" والحوت في الماء والماء على صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على الصخرة ، والصخرة في الريح ـ وهي الصخرة التي ذكر لقمان : ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسل عليها الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، وذلك قوله تعالى : "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " يقول : من سأل فهكذا الأمر ، "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فقتها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظاً تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، قال فذلك حين يقول :"خلق السماوات والأرض في ستة أيام" ويقول : "كانتا رتقا ففتقناهما" وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام ، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى . وروى وكيع عن الأعمش عن ابي ظبيان عن ابن عباس قال : إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم فقال له أكتب . فقال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة . قال : ثم خلق النون فدحا الأرض عليها ، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات ، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة . ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان ، خلاف الرواية الأولى . والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى ، لقوله تعالى : "والأرض بعد ذلك دحاها" والله أعلم بما فعل ، فقد اختلفت فيه الأقاويل ، وليس للاجتهاد فيه مدخل .
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار ان إبليس تغلغل الى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها ، فألقى في قلبه ، فقال : هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال ! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع . قال : فهم لوثيا بفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت في منخرة ، فعج إلى الله نها فخرجت . قال كعب : والذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت .
السابعة : أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجة في سننه ، و أبو حاتم البستي في صحيح مسنده " عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، أنبئني عن كل شيء . قال : كل شيء خلق من الماء فقلت : أخبرني عن شيء إذا عملت به دخلت الجنة . قال : أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام " . قال أبو حاتم قول ابي هريرة : " أنبئني عن كل شيء " أراد به عن كل شيء خلق من الماء . والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال : "كل شيء خلق من الماء" وإن لم يكن مخلوقاً . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون" .
ويروى ذلك أيضاً عن عبادة بن الصامت مرفوعاً . قال البيهقي : وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أول شيء خلقه بعد الخلق الماء والريح والعرش القلم . وذلك بين في :
حديث عمران بن حصين ، " ثم خلق السموات والأرض " . وذكر عبد الرازق عن عمر بن حبيب بن عمرو بن المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري . قال : ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو . قال : فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله ، فقال : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس : "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه ، أي من خلقه وإبداعه واختراعه . خلق الماء أولاً ، أو الماء وما شاء من خلقه ، لا عن أصل ولا على مثال سبق ، ثم جعله أصلاً لما خلق بعد ، فهو المبدع وهو البارىء لا إله غيره ولا خالق سواه ، سبحانه جل وعز .
الثامنة : قوله تعالى : "فسواهن سبع سماوات" ذكر تعالى أن السموات سبع . ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى : "ومن الأرض مثلهن" وقد اختلف فيه ، فقيل : ومن الأرض مثلهن أي في العدد ، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعين العدد . وقيل : "ومن الأرض مثلهن" أي في غلظهن وما بينهن . وقيل : هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض ، قاله الداودي . والصحيح الأول ، وأنها سبع كالسموات سبع . روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"من أخذ شبراً من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين" .
وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، إلا أن فيه من بدل إلى . ومن حديث أبي هريرة :
"ولا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة" . وروى النسائي عن ابي سعيد الخدري " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به قال : يا موسى . قل : لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئاً تخصني به قال يا موسى : لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله " . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال :
"بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ـ قال ـ هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ـ ثم قال ـ هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام ـ ثم قال : ـ هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض . ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السمائين ـ ثم قال : ـ هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض ـ ثم قال : ـ هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ـ ثم قرأ ـ "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" " . قال أبو عيسي : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه . علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه . قال : هذا حديث غريب ، و الحسن لم يسمع من ابي هريرة . والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد روى أبو الضحى ـ واسمه مسلم ـ عن ابن عباس أنه قال : "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى . قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح ، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحا عليه دليلاً ، والله أعلم .
التاسعة : قوله تعالى : "هو الذي خلق لكم ما في الأرض" ابتداء وخبر . ما في موضع نصب . "جميعا" عند سيبويه نصب على الحال . "ثم استوى" أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء ، وأهل الحجاز يفخمون . "سبع" منصوب على البدل من الهاء والنون ، أي فسوى سبع سموات . ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سموات ، كما قال الله جل وعز : "واختار موسى قومه سبعين رجلا" أي من قومه ، قاله النحاس . وقال الأخفش : انتصب على الحال ."وهو بكل شيء عليم" ابتداء وخبر . والأصل في هو تحريك الهاء ، والإسكان استخفاف .
والسماء تكون واحدة مؤنثة ، مثل عنان ، وتذكيرها شاذ ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش ، وسماءة في قول الزجاج ، وجمع الجمع سماوات وسماءات . فجاء سواهن إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس . ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس . وقيل : جعلهن سواء .
العاشرة : قوله تعالى : "وهو بكل شيء عليم" أي بما خلق ، وهو خالق كل شيء فوجب أن يكون عالماً بكل شيء ، وقد قال : "ألا يعلم من خلق" فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية . وقالت الجهمية : عالم بلا علم قائم لا في محل ، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات ، والرد على هؤلاء في كتب الديانات . وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال : "أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" ، وقال : "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" ، وقال : "فلنقصن عليهم بعلم" ، وقال "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" ، وقال : "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" الآية . وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله : "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" إن شاء الله تعالى . وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من : هو وهي ، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم ، وكذلك فعل أو عمرة إلا مع ثم . وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من "أن يمل هو" ، والباقون بالتحريك .
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض فقال " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا مضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعاً، والسماء ههنا اسم جنس فلهذا قال " فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم " أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: "ألا يعلم من خلق" وتفصيل هذه الاية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم " ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعاً، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى "أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم" فقد قيل إن ثم ههنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل إن الدحي كان بعد خلق السموات، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم " قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن "ن والقلم" والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها " يقول أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها" لأهلها "في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول من سأل فهكذا الأمر "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، إنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوحى في كل سماء أمرها قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار والجبال والبرد ومما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة حفظاً تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حيث يقول "خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" ويقول "كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي" وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " قال: بعضهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض، وهذه الاية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في سورة السجدة: " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم " فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها " قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً، وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها" ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعاً فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الاية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفيسر أيضاً من رواية ابن جريح، قال أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي.
قال ابن كيسان: 29- "خلق لكم" أي من أجلكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله: "جميعاً" أقوى دلالة على هذا. وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقال الرازي في تفسيره: إن لقائل أن يقول: إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه انتهى. وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال: فإن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية انتهى. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضاً ضار فليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، وجميعاً منصوب على الحال. والاستواء في اللغة: الاعتدال والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع والعلو على الشيء، قال تعالى: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" وقال: "لتستووا على ظهوره" وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية. وقد قيل: إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله: "فسواهن" مبهم يفسره ما بعده كقولهم: زيد رجلاً، وقيل: إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس، والمعنى: أنه عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه. وقد استدل بقوله: "ثم استوى" على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في حم السجدة. وقال في النازعات "أنتم أشد خلقاً أم السماء بناها" فوصف خلقها ثم قال: "والأرض بعد ذلك دحاها" فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض" وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بد من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع. وقوله: " سبع سماوات " فيه التصريح بأن السموات سبع، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى: "ومن الأرض مثلهن" فقيل: أي في العدد، وقيل: أي في غلظهن وما بينهن. وقال الداودي: إن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض. والصحيح أنها سبع كالسموات. وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله من سبع أرضين" وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد. ومعنى قوله تعالى: "سواهن" سوى سطوحهن بالإملاس، وقيل: جعلهن سواء. قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: فهل يدل التنصيص على سبع سموات. أي فقط؟ قلنا: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والله أعلم انتهى. وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع. ونحن نقول: إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ولم يأت شيء من ذلك، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم، لأنه يجب أن يكون عالماص بجميع ما ثبت أنه خالقه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً "ثم استوى إلى السماء"، قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " يقول: خلق سبع سموات بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن فوق بعض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض" الآية، قالوا: إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم انبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله: "ن والقلم" والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرت، فذلك قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها، سخرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك قوله:" أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض "إلى قوله " بارك فيها " يقول : أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها" يقول: أقوات أهلها "في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول: من سأل فهكذا الأمر، "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها. سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ثم استوى إلى السماء" يعني صعد أمره إلى السماء فسواهن: يعني خلق سبع سموات، قال: أجرى النار على الماء فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السموات منه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر". وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وأنها سبع سموات، وأن الأرض سبع أرضين وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية، وإنما تركنا ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص، بل هو متعلق بما هو أعم منها.
29.قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " لكي تعتبروا وتستدلوا وقيل لكي تنتفعوا " ثم استوى إلى السماء " قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء. وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء " فسواهن سبع سماوات " خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدع " وهو بكل شيء عليم " قرأ أبو جعفر و أبو عمرو و الكسائي و قالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام، زاد الكسائي و قالون : ثم هو و قالون " أن يمل هو " (282-البقرة).
29-" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى " لكم " لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . جميعاً : حال من الموصول الثاني .
" ثم استوى إلى السماء " قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شئ . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و " ثم " لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : " ثم كان من الذين آمنوا " لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : " والأرض بعد ذلك دحاها " فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه " أأنتم أشد خلقاً " مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر .
" فسواهن " عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و " هن " ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلاً .
" سبع سماوات " بدل أو تفسيره . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يتق خلاف .
" وهو بكل شيء عليم " فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليماً ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شئ منها ، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : " وهو بكل خلق عليم " .
وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : " وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم " فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها ، قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وانه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سكن نافع و أبو عمرو و الكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيهاً له بعضد .
29. He it is Who created for you all that is in the earth. Then turned He to the heaven, and fashioned it as seven heavens. And He is Knower of all things.
29 - It is he who hath created for you all things that are on earth; Moreover his design comprehended the heavens, for he gave order and perfection to the seven firmaments; and of all things he hath perfect knowledge.