29 - واذكر (وإذ صرفنا) أملنا (إليك نفرا من الجن) جن نصيبين باليمن أو جن نينوى وكانوا سبعة أو تسعة وكان صلى الله عليه وسلم ببطن نحل يصلي بأصحابه الفجر رواه الشيخان (يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا) أي قال بعضهم لبعض (أنصتوا) اصغوا لاستماعه (فلما قضي) فرغ من قراءته (ولوا) رجعوا (إلى قومهم منذرين) مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا وكانوا يهودا وقد أسلموا
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال إن الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا أنصتوا وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل لله وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن إلى قوله ضلال مبين
يقول تعالى ذكره مقرعاً كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجن " وإذ صرفنا إليك " يا محمد " نفراً من الجن يستمعون القرآن " ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليهم وسلم بالحادث الذي من رجمهم بالشهب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن مغيرة عن زياد عن سعيد بن جبير ، قال : " كانت الجن تستمع فما رجموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر فذهبروا إلى قومهم " .
حدثنا محمد بن عبد الاعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير ، قال " لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حرست السماء فقال الشيطان : ما حرست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض ، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنخلة وهو يقرأ، فاستعموا حتى إذا فرغ " ولوا إلى قومهم منذرين " ... إلى قوله " مستقيم " " .
حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي عن عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " ....إلى آخر الآية ، قال : " لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرساً شديداً ، ورجمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : ( لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجن ، فقال : تفرقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أول بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجن وساداته فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ، وادي نخلة ، فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ، فاستمعوا ، فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين . "
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن " فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الحميد قال : ثن النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " .... الآية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله علسه وسلم رسلاً إلى قومهم .
وقال آخرون : بل كانوا تسعة نفر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال سفيان عن عاصم عن زر " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " قال : كانوا تسعة نفر فيهم زوبعة .
حدثنا ابن بشار ، قال : أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال : " أنزل على على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخلة ، " فلما حضروه " قال : كانوا تسعة أحدهم زوبعة ".
وقوله " فلما حضروه " يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله نبي الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في صفة حضروهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعرفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل .
وكما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة قال: ثنا عوف عن الحسن في قوله " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " قال : ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءوا ، فأوحى الله عزوجل إليه فيهم ، و أخبر عنهم .
وقا لآخرون : بل أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أ، يقرأ عليهم القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن عليهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " قال : " ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى ، قال: فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن ، فأيكم يتبعني .؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالة فأطرقوا ، فقال رجل : إنك لذو بدئه ، فاتبعه عبد اللله بن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون . قال: وخط نبي الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله خطاً ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغظاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن ، فلما رجع نبي الله قلت : يا نبي الله ما الغظ الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم ، فقضي بينهم بالحق . وذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط ، فراعواه ، قال : من هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء ."
حدثما ابن عبد الاعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجن ، فخط النبي صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود خطاً ، ثم قال له : لا تخرج منه ، ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال : هل رأيت شيئاً ؟ قال : سمعت لغظاً شديداً ، قال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينها ، فقضي بينهم بالحق ، وسألوه الزاد ، فقال : كل عظم لكم عرق ، وكل روث لكم خضرة ، قالوا : يا رسول الله الله تقذرها الناس علينا ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما ، فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزط ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظهروا ؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم الزط ، ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . "
قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود : " حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله علسه وسلم ليلة وفد الجن ، قال : أجل ـ قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطاً وقال : لا تبرح منها ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذعر ثلاث مرات ، حتى إذا كان قريباً من الصبح ، أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنمت ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن أن يختطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قال : نعم رأيت رجالاً سوداً مستشعري ثياب بيض ، قال : أولئك جن نصيبين ، سألوني المتاع - و المتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لن يجدوا عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، و لا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زرعة وهب بن راشد قال : قال يونس قال شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام ، أن ابن مسعود قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتىإذا كنا بأعلى مكة، خط لي برجله خطاً ، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني و بينه حتى ما أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق متبرزاً ، ثم أتاني فقال : ما فعل الرهط ؟ قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظماً أو روثاً أو جمجمة فأعطاهم إياه زاداً ثم نهر أن يستطيب أحد أو روث " .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وخب ، قال : ثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني سيونس عن ابن شهاب عن لأبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشام ، أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر مثله سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم ورثاً أوعظماً زاداً ، ولم يذكر الجمجمة . "
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني ، قال : أخبرني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بتت الليلة أقرأ على الجن ربعاً بالحجون ".
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم فيه القرآن ، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحجون ، وقد ذمرنا الرواية عنا بذلك .
وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذمر من لم نذكره .
حجثنا أبو كريب قال : ثنا خلاد عن زهير بن معاوية عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس " أن النفر الذين أتوا رسول الله صل الله عليه وسلم من جن نصيبين أتوه وهو بنخلة " .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وخدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال ثنا ورقاء جميعاً عن ابن نجيح عن مجاهد " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن " قال : " لقيهم بنخلة ليلتئذ .
وقوله " فلما حضروه قالوا أنصتوا " يقول تعالى ذكره : فلما حضروا القرآن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن ، "
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى عن سفيان عن عاصم عن زر " فلما حضروه قالوا أنصتوا " قالوا : صه .
قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش مثله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة في قوله " فلما حضروه قالوا أنصتوا " قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا .
وقوله " فلما قضي " يقول : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة و تلاةو القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني ابي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، "فلما قضي " يقول : فلما فرغ من الصلاة " ولوا إلى قومهم منذرين " وقوله " ولوا إلى قومهم منذرين " يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به .
وذكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلاً إلى قومهم .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : ثنا عبد الحميد الحماني ، قال : ثنا النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وهذا القةل خلاف القول الذي روي عنه أنه قال : لم يكن نبي الله على الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، لأنه محال أ، ي رسلهم إلى آخرين إلأا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن ، ثم على بعد انصرافهمم إلأى قومهم ، فأرسلهم رسلاً حينئذ إلى قومهم وليس ذلك الخبر الذي روي .
قوله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " هذا توبيخ لمشركي قريش ، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر ومعنى : ( صرفنا ) وجهنا إليك وبعثنا ، وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب على ما يأتي ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، قال المفسرون ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد وغيرهم : لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده غلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبدياليل ومسعوداً وحبيباً وهم إخوة ، بنو عمرو بن عمير ، وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر : ما وجد الله أحدً يرسله غيرك ! وقال الثالث : والله لا أكلمك كلمة أبداً، ، إن كان الله أرسلك كما تقوم فأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به ، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، فقال للجمحية : ماذا لقينا من أحمائك ؟ ثم قال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي لمن تكلني ! إلى عبد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته امري ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس ، خذ قطفاً من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل ، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك ؟ قال : أنا نصراني من أهل نينوى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أمن من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه ، فقال له ابنا ربيعة ، لم فعلت هكذا ! ؟ فقال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا ، أخبرني بأمر ما يعلمه إلأ نبي ثم أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين ، وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس : إن هذا الذي حدت في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف قال إبليس ، إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة ، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآ، فاستمعوا له وقالوا : أنصتوا ، وقالت طائفة : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله عز وجل إليه نفراً من الجن من نينوى وجمعهم له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ثم قال الثانية فأطرقوا ، ثم قال الثالثة فأطرقوا ، فقال ابن مسعود ، أنا يا رسول الله ، قال ابن مسعود : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون ، وخط لي خطاً وأمرني أن أجلس فيه وقال : لا تخر منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها ، وسمعت لغطاً وغمغمة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال : أنمت ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياباً بيضاً ، فقال : أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة ، فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث ، قلت : يا نبي الله ، وما يغني ذلك عنهم ! قال : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحماً يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حياً يوم أكل ، فقلت : يا رسول الله ، لقد سمعت لغطاً شديداً ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا غلي فقضيت بينهم بالحق ، ثم تبرز النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال : هل معك ماء ؟ فقلت : يا نبي الله ، معي إدارة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال : تمرة طيبة وماء طهور ، روى معناه معمر عن قتادة و شعبة أيضاً عن ابن مسعود . وليس في حديث معمر ذكر نبيذ التمر ، روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطاً فقال : ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزط ، قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضاً وذكر الدارقطني عن عبد الله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال : شراب طهور ، ابن لهيعة لا يحتاج به ، وبهذا السند عن ابن مسعود : أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمعك ماء يابن مسعود ؟ فقال : معي نبيذ في إداوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صب علي منه ، فتوضأ وقال : هو شراب وطهور ، تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث ، قال الدارقطني : وقيل : إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن : حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن الفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله بن مسعود : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ قال لا ، قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه ، وعن عمرو بن مرة قال قلت لـ أبي عبيد : حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن ؟ فقال لا ، قال ابن عباس : كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ، وقال زر بن حبيش : كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، وقال قتادة : إنهم من أهل نينوى ، وقال مجاهد : من أهل حران ، وقال عكرمة : من جزيرة الموصل ، وقيل : إنهم كانوا سبعة ، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين ، وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال : رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزر نهرها ، وقال السهيلي : ويقال كانوا سبعة ، وكانوا يهوداً فأسلموا ، ولذلك قالوا : أنزل من بعد موسى ، وقيل في أسمائهم : شاصر وماصر ومنشى وماشى والأحقب ، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد ، ومنهم عمرو بن جابر : ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل ، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها ، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان ، أيكم دفن عمرو بن جابر ؟ فقلنا : ما ندري من عمرو بن جابر ! فقالتا : إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه ، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو ! وهو الحية التي رأيتم ، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين وذكر ابن سلام رواية أخرى أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل .
قلت : وذكر هذ الخبر الثعلبي بنحوه فقال : وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا : إنا كنا في سفر فرأينا حية متشحطة في دمائها ، فأخذها رجل منا فواريناها ، فجاء أناس فقالوا : أيكم دفن عمراً ؟ قلنا ! وما عمرو ! قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا ، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل ، ففي هذ الخبر ابن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن ، والله أعلم ، وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه : أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشاً فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها ، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر ، وأخبر أن تكل الحية كانت رجلاً من جن نصيبين اسمه زوبعة ، قال السهيلي : وبلغنا في فضائل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة ، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها ، فإذا قائل يقول : يا سرق ، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ستموت بأرض فلاة فيكفك رجل صالح ، فقال : ومن أنت يرحمك الله ! فقال : رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق ، وهذا سرق قد مات ، وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ ، فأتيت في المنام فقيل لها : إنك قتلت رجلاً مؤمناً من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لو كان مؤمناً ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل لها : ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة ، وما جاء إلا ليستمع الذكر ، فأصبحت عائشة فزعة واشترت رقاباً فأعتقتهم ، قال السهيلي : وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا ، فإن كانوا سبعة فالأحقب منهم وصف لأحدهم ، وليس باسم علم ، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفاً ثمانية بالأحقب ، والله أعلم .
قلت : وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه : هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس ، قيل : إنه مؤمني الجن وممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه سورة " إذا وقعت الواقعة " [ الواقعة : سورة البقرة الآية مائتان ] ، " والمرسلات " و" عم يتساءلون " [ النبأ : سورة البقرة الآية مائتان ] ، " إذا الشمس كورت " و ( الحمد ) و( المعوذتين ) وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام ، وأنه لقي نوحاً وتاب على يديه ، وهوداً وصالحاً ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام ، وقد ذكر الماوردي اسماءهم مجهد فقال : حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم ، وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بـ ابن السماك قال : حدثنا محمد بن البراء قال : حدثنا الزبير بن بكار قال : كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمى جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال .
قوله تعالى : " فلما حضروه " أي حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من باب تلوين الخطاب وقيل : لما حضروا القرآن واستماعه " قالوا أنصتوا " أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن ، قال ابن مسعود ، هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه ( قالوا أنصتوا ) قالوا صه ، وكانوا سبعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا " الآية إلى قوله : " في ضلال مبين " وقيل : ( أنصتوا ) لسماع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى متقارب ، " فلما قضي " وقرأ لاحق بن حميد و خبيب بن عبد الله بن الزبير ( فلما قضى ) بفتح القاف والضاد ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة ، وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك ؟ فجاءوا وادي نخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر ، وكانوا سبعة ، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقل : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم ، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن ، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا ، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أرسلهم ، ويدل على هذا قولهم ، ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) ولولا ذلك لما أنذروا قومهم ، وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلاً إلى قومهم ، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى ، وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في " قل أوحي إلي " [ الجن : سورة البقرة الآية مائتان ] ، وفي صحيح مسلم ، عن معن قال : سمعت أبي قال سألت مسروقاً ، من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك يعني ابن مسعود أنه آذنته بهم شجرة .
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, سمعت عكرمة عن الزبير, "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن" قال: بنخلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الاخرة "كادوا يكونون عليه لبداً" قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض, تفرد به أحمد, وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة, عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا إسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم, انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء, وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم, فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء, فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر, فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء, فهناك حين رجعوا إلى قومهم " قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن" وإنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه, وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به, ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً, فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً, وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب, فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث, فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة, فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض, ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه ايوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله, وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم, وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه, فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين, وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك, ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين, وهذا صحيح, ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر, فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور, وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه, وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره, والله أعلم, وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة "فلما حضروه قالوا أنصتوا" قال صه, وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة, فأنزل الله عز وجل: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين " فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة, وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم, ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج, كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والاثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي, عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام, عن معن بن عبد الرحمن, قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة, فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما, ويحتمل أن يكون في المرة الأولى, ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم, والله أعلم, ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات, والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلمت حاله, وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم, ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة, أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء, فقلنا: يا رسول الله, فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: "إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم" قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد, قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن" وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه, فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء, قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر مايكون لحماً, وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".
(طريق أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن, حدثني عمي, حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون".
(طريق أخرى) فيها أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثنا عمي عبد الله بن وهب, أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي, وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: "من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل" فلم يحضر منهم أحد غيري, قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام, فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته, ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب, ذاهبين حتى بقي منهم رهط, ففرغ رسول الله, فأعطاهم عظماً وروثاً, ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد عن يونس بن يزيد الأيلي به.
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به, وقد روى إسحاق بن راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه, فذكر نحوه أيضاً.
(طريق أخرى) قال أبو نعيم: حدثنا أبو مالك, حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي قال: حدثنا عفان وعكرمة قالا: حدثنا معتمر قال: قال أبي: حدثني أبو تميمة عن عمرو, ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا, فخط لي خطاً فقال: "كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت" فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قال: فكيف كان ؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطاً وقال: "لا تبرح منها" فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذعر ثلاث مرات حتى كان قريباً من الصبح أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنمت ؟" فقلت: لا والله, ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول "اجلسوا" فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم" ثم قال صلى الله عليه وسلم "هل رأيت شيئاً ؟" قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستشعرين ثياباً بيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع ـ والمتاع الزاد ـ فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثاً إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت, فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة".
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السملي وأبو نصر بن قتادة قال أخبرنا أبو محمد بن يحيى بن منصور القاضي, حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا روح بن صلاح, حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن نفراً من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة أقرأ عليهم القرآن" فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطاً وأجلسني فيه وقال لي "لاتخرج من هذا" فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمة فقال: "إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء" قال: فلما أصبحت قلت لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً.
(طريق أخرى) قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون, فخط لي خطاً ثم تقدم إليهم, فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك. فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا سفيان بن أبي فزارة العبسي, حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء ؟" قلت: ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة وماء طهور" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث زيد به.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله أمعك ماء ؟" قال: معي نبيذ في إداوة. قال صلى الله عليه وسلم: "اصبب علي" فتوضأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ياعبد الله شراب وطهور" تفرد به أحمد من هذا الوجه, وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن, فلما انصرف تنفس فقلت: ما شأنك ؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" هكذا رأيته في المسند مختصراً, وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة فقال: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" قلت: استخلف. قال: "من ؟" قلت: أبا بكر. قال: فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت: ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" قلت: استخلف. قال: "من ؟" قلت: عمر. فسكت ساعة ثم مضى ثم تنفس فقلت ؟ ما شأنك ؟ قال: "نعيت إلي نفسي" قلت: فاستخلف قال صلى الله عليه وسلم "من ؟" قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين" وهو حديث غريب جداً وأحرى به أن لا يكون محفوظاً, وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى, فإن في ذلك الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضاً في دين الله أفواجاً نزلت سورة "إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما, ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه, وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها, والله أعلم وقد رواه أبو نعيم أيضاً عن الطبري عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين بن أبي بردة, عن يحيى بن سعيد الأسلمي, عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي مرة الصنعاني, عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف, وهذا إسناد غريب وسياق عجيب.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط حوله, فكان أحدهم مثل سواد النخل وقال: "لا تبرح مكانك فأقرئهم كتاب الله" فلما رأى المرعى قال: كأنهم هؤلاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أمعك ماء ؟" قلت: لا. قال: "أمعك نبيذ ؟" قلت: نعم فتوضأ به.
(طريق أخرى مرسلة) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني, أخبرنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن" قال هم اثنا عشر ألفاً جاؤوا من جزيرة الموصل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: "أنظرني حتى آتيك" وخط عليه خطاً وقال "لا تبرح حتى آتيك" فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب, فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة".
(طريق أخرى مرسلة أيضاً): قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله تعالى: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن" قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟" فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة, فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل, قال فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه, وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك, قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ماهم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم, كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه, وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم, وإنما كان بعيداً منه ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة, هذه طريقة البيهقي, وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره, كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد, وهي عند مسلم, ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى, والله أعلم, كما روى ابن أبي حاتم في تفسير "قل أوحي إلي" من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذي لقوه بنخلة فجن نينوى, وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين, وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن, وهو محتمل على بعد, والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي,: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب, حدثنا أبو بكر الإسماعيلي, أخبرنا الحسن بن سفيان, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا عمرو بن يحيى عن جده سعيد بن عمرو قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداوة لوضوئه وحاجته, فأدركه يوماً فقال "من هذا ؟" قال: أنا أبو هريرة. قال صلى الله عليه وسلم: "ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاماً" أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده قريباً منه, فهذا يدل على ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روى ابن عباس غير ما روى عنه أولاً من وجه جديد, فقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني, حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن" الاية. قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين, فجعلهم رسول الله رسلاً إلى قومهم. فهذا يدل على أنه روى القصتين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سويد بن عبد العزيز, حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن" الاية, قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين, وكانت أسماؤهم حيي وحسي ومنسى وساصر وناصر والاردوبيان والأحتم, وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال له بنو الشيصان وكانوا أكثر الجن عدداً وأشرفهم نسباً, وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن بن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة, أتوه من أصل نخلة, وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر, وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة, وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان, وقيل: كانوا ثلثمائة, وتقدم عن عكرمة على أنهم كانوا اثني عشر ألفاً, فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم, ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه: حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب, حدثني عمر هو ابن محمد قال: إن سالماً حدثه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم, علي بالرجل, فدعي له, فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك, قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر رضي الله عنه: صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: ياجليح, أمر نجيج رجل فصيح, يقول لا إله إلا الله قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ماوراء هذا, ثم نادى ياجليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله, فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري, وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه, ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح, وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه, وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه, والله أعلم, وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد بن قارب, وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم, ولله الحمد والمنة.
وقال البيهقي: حديث سواد بن قارب, ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح, أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني قراءة عليه, حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة, حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه, حدثنا أبو بكر القصري حدثنا محمد بن النواس الكوفي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب ؟ قال فقال له عمر رضي الله عنه: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً, قال فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب قال: فقال له عمر رضي الله عنه: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ قال سواد رضي الله عنه: فإني كنت نازلاً بالهند وكان لي رئي من الجن, قال فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك, قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل, قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول:
عجبت للجـــــن وتحساسهـــــــا وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكــــــة تبغي الهدى ما خير الجن كأنجاسهـــا
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسهـا
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال يا سواد بن قارب, إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد, فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول:
عجبت للجــــــــن وتطلابهـــــــا وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكـــــة تبغي الهدى ليــس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبـــت للجـــــن وتخبارهــــــا وشدها العيــس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهــــــدى ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجـن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله, قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة, والناس عليه كعرف الفرس, فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحباً بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك" قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعراً فاسمعه مني قال صلى الله عليه وسلم: "قل يا سواد" فقلت:
أتاني رئي بعد ليــــــل وهجعـــــــة ولم يك فيما قد بلـــــوت بكـــــاذب
ثلاث ليـــــال قولـــــه كل ليلــــــة : أتاك رسول من لؤي بن غالـــــــب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهــــــد أن الله لا رب غيــــــره وأنك مأمون علــــى كل غائـــــــب
وأنك أدنـــــى المرسلين شفــــاعة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايـب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرســــــل وإن كان فيما جاء شيب الذوائـــب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قــــارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي: "أفلحت يا سواد" فقال عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الان ؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن. ثم أسنده البهيقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة, حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي, حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل, قلت: حدثني كيف كان شأنه! فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه, وتركت فلم يأخذني أحد منهم, فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا ؟" فقلت: أنا ابن مسعود, فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أخذك أحد يعشيك ؟" فقلت: لا , قال صلى الله عليه وسلم: "فانطلق لعلي أجد لك شيئاً".
قال: فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها, فتركني قائماً ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك, قال فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي, فلم ألبث إلا قليلاً حتى جاءت الجارية فقالت: أجب رسول الله. فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى الله عليه وسلم: "انطلق أنت معي حيث انطلقت" قلت: ما شاء الله فأعادها علي ثلاث مرات. كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق, وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد فخط صلى الله عليه وسلم بعصاه خطاً ثم قال: "اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك" ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل, حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ففرقت فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس, فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه, فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: "اجلسوا" فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا, فأتاني رسول الله فقال: "أنمت بعدي ؟" فقلت: لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت, فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك, وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه, فقال "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم, فهل رأيت من شيء منهم ؟".
فقلت: رأيت رجالاً سوداً مستشعرين بثياب بيض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة" قلت: فما يغني عنهم ذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم "إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل, ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنق أحد منكم بعظم ولا بعرة" وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم, والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد: حدثني نمير بن زيد القنبر. حدثنا أبي, حدثنا قحافة بن ربيعة, حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟" فأسكت القوم ثلاثاً, فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها, وأفضينا إلى أرض براز فإذا برجال طوال كأنهم الرماح مستشعرين بثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم, وهذا حديث غريب, والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حبان, حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح, حدثنا يعقوب الدورقي, حدثنا الوليد بن بكير التيمي, حدثنا حصين بن عمر, أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض, ينفح منه ريح المسك فقلت لصحابي: امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق, فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فوالله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمراً. قلنا: ومن عمرو, قالت: أيكم دفن الحية ؟ قال فقلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صواماً قواماً, يأمر بما أنزل الله تعالى, ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل: فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة, فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة" وهذا حديث غريب جداً, والله أعلم.
قال أبو نعيم, وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه, وروى عبد الله بن أحمد والظهراني عن صفوان بن المعطل: هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتاً الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن, وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه, عن معاذ بن عبيد الله بن معمر قال: كنت جالساً عند عثمان بن عفان رضي الله عنه, فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض, فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما الاخر, قال: فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة, وإذ ينفح من بعضها ريح المسك, فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة, فلففتها في عمامتي ودفنتها, فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت, هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت, واستشهد الذي دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقاً فقد رأيت عجباً, وإن كنت كاذباً فعليك كذبك. وقوله تبارك وتعالى: "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن" أي طائفة من الجن "يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا" أي استمعوا وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ البيهقي: حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان, أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق, حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي, حدثنا هشام بن عمار الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً, ما قرأت عليهم هذه الاية من مرة "فبأي آلاء ربكما تكذبان" إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك ونعمك ربنا نكذب فلك الحمد". ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم به قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه, فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير بن محمد به مثله. وقوله عز وجل: "فلما قضي" أي فرغ كقوله تعالى: "فإذا قضيت الصلاة" " فقضاهن سبع سماوات في يومين " "فإذا قضيتم مناسككم" "ولوا إلى قومهم منذرين" أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: "ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" وقد استدل بهذه الاية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل, ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً لقوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ". وقال عز وجل: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق". وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم" فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبراً عنهم: "قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى" ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم, وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة, فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى, وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال: بخ بخ! هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعاً. "مصدقاً لما بين يديه" أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله, وقوله: "يهدي إلى الحق" أي في الاعتقاد والإخبار "وإلى طريق مستقيم" في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب, فخبره صدق وطلبه عدل, كما قال تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً".
وقال سبحانه وتعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق" فالهدى هو العلم النافع, ودين الحق هو العمل الصالح, وهكذا قالت الجن "يهدي إلى الحق" في الاعتقادات "وإلى طريق مستقيم" أي في العمليات "يا قومنا أجيبوا داعي الله" فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس, حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال: "أجيبوا داعي الله وآمنوا به" وقوله تعالى: "يغفر لكم من ذنوبكم" قيل إن من ههنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات قليل, وقيل إنها على بابها للتبعيض "ويجركم من عذاب أليم" أي ويقيكم من عذابه الأليم, وقد استدل بهذه الاية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة, وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة, ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة, فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس, ولا تدخل ذرية إبليس الجنة, والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف, وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" وفي هذا الاستدلال نظر, وأحسن منه قوله جل وعلا: "ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان" فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة, وقد قابلت الجن هذه الاية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد, فلم يكن تعالى ليمتن عليهم جزاء لا يحصل لهم, وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك قوله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً" وما أشبه ذلك من الايات.
وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة, وهذه الجنة لا يزال فيها فضل ينشىء الله تعالى لها خلقاً أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحاً, وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة, لأنه ليس في الاخرة إلا الجنة والنار, فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة, ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة, وإن أجيروا من النار, ولو صح لقلنا به, والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: "يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى" ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة, وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها, ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم, وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها, ثم قال مخبراً عنهم "ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض" أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به " وليس له من دونه أولياء " أي لا يجيرهم منه أحد "أولئك في ضلال مبين" وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب, ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً كما تقدم بيانه, ولله الحمد والمنة والله أعلم.
لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضاً أن في الجن كذلك، فقال: 28- " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " العامل في الظرف مقدر: أي واذكر إذ صرفنا. أي وجهنا إليك نفراً من الجن وبعثناهم إليك، وقوله: "يستمعون القرآن" في محل نصب صفة ثانية لنفراً أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى "فلما حضروه" أي حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أولى "قالوا أنصتوا" أي قال بعضهم لبعض اسكتوا، أمروا بعضهم بعضاً بذلك لأجل أن يسمعوا "فلما قضي" قرأ الجمهور "قضي" مبنياً للمفعول: أي فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولاحق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل: أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته، والقراءة أولى تؤيد أن الضمير في حضروه للقرآن، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه وسلم "ولوا إلى قومهم منذرين" أي انصرفوا قاصدين إلى ما وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم، وانتصاب: منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك.
29. قوله عز وجل: " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن " الآية، قال المفسرون: لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف، وهو يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهو إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو [عمرو بن] عمير، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي [سري]، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيده عليه ذلك، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجمهني أو إلى عدو ملكته أمري؟، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك .
فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفاً من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك ياعداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه، فقال: (( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن )).
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا " إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " (الجن-2)، فأنزل الله على نبيه: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " (الجن-1) وإنما أوحي إليه قول الجن".
وروي: أنهم لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر، وكان أول بعث بعث ركباً من أهل نصيبين، وهم أشراف الجن وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة.
وقال أبو حمزة [الثمالي]: بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً، وهم عامة جنود إبليس، فلما رجعوا قالوا: (( إنا سمعنا قرآناً عجباً )).
وقال جماعة: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفراً من الجن من نينوى، وجمعهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فاتبعه عبد الله بن مسعود، قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له: شعب الحجون، وخط لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق إلي وقال: أنمت؟ فقلت: لا والله يارسول الله، وقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، قال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم يارسول الله رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض،قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع -والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة.
قال: فقالوا: يارسول الله تقذرها الناس، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث.
قال: فقلت: يارسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، قال فقلت: يارسول الله سمعت لغطاً شديداً؟ فقال: إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ، قال: ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني، فقال:هل معك ماء؟قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال: تمرة طيبة وماء طهور.
قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فأفزعوه حين رآهم، فقال: اظهروا، فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الجن.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند، عن عامر قال: " سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال فقلنا: يارسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال:أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.
قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
قال: وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن".
ورواه مسلم عن علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله: (( وآثار نيرانهم )).
قال الشعبي : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله.
قوله عز وجل: " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن "، اختلفوا في عدد ذلك النفر، فقال كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة. وروى عاصم عن زر بن حبيش: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. " فلما حضروه قالوا أنصتوا "، قالوا: صه.
وروي في الحديث: (( أن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف حيلون ويظعنون )).
فلما حضروه قال بعضهم لبعض: أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم.
" فلما قضي "، فرغ من تلاوته، " ولوا إلى قومهم "، انصرفوا إليهم، " منذرين "، مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
29-" وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن " أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار . " يستمعون القرآن " حال محمولة على المعنى " فلما حضروه " أي القرآن أو الرسول . " قالوا أنصتوا " قالوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه . " فلما قضي " أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضميرة الرسول عليه الصلاة والسلام ." ولوا إلى قومهم منذرين " أي منذرين إياهم بما سمعوا . روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده .
29. And when We inclined toward thee (Muhammad) certain of the Jinn, who wished to hear the Quran and, when they were in its presence, said: Give ear! and, when it was finished, turned back to their people, warning.
29 - Behold, We turned towards thee a company of Jinns (quietly) listening to the Quran: when they stood in the presence thereof, they said, Listen in silence! When the (reading) was finished, they returned to their people, to warn (them of their sins).