3 - (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) فيه بأن يخالفوه بامساك المظاهر منها الذي هو خلاف مقصود الظهار من وصف المرأة بالتحريم (فتحرير رقبة) إعتاقها عليه (من قبل أن يتماسا) بالوطء (ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير)
يقول تعالى ذكره : والذين يقولون لنسائهم : أنتن علينا كظهور أمهاتنا .
وقوله :" ثم يعودون لما قالوا " اختلف أهل العلم في معنى العود لما قال المظاهر ، فقال بعضهم : هو الرجوع في تحريم ما حرم على نفسه من زوجته التي كانت له حلالاً قبل تظاهره ، فيحلها بعد تحريمه إياها على نفسه بعزمه على غشيانها ووطئها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " ثم يعودون لما قالوا " قال : يريد أن يغشى بعد قوله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " ثم يعودون لما قالوا " قال : حرمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها .
وقال آخرون : نحو هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إمساكه إياها بعد تظهيره منها وتركه فراقها ، عود منه لما قال عزم على الوطء أو لم يعزم ، وكان أبو العالية يقول : معنى قوله : " لما قالوا " فيما قالوا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، قال : سمعت أبا العالية يقول في قوله : " ثم يعودون لما قالوا " : أي يرجع فيه .
واختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة في ذلك المعنى : فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، فمن لم يجد فصيام ، فإطعام ستين مسكيناً ، ثم يعودون لما قالوا إنا لا نفعله فيفعلونه هذا الظهار ، يقول : هي علي كظهر أمي ، وما أشبه هذا من الكلام ، فإذا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكيناً عاد لما قد قال هو علي حرام يفعله ، وكأن قائل هذا القول كان يرى أن هذا من المقدم الذي معناه التأخير .
وقال بعض نحويي الكوفة " ثم يعودون لما قالوا " يصلح فيها في العربية : ثم يعودون إلى ما قالوا ، وفيما قالوا ، يريدون النكاح ، يريد : يرجعون عما قالوا ، وفي نقض ما قالوا قال : ويجوز في العربية أن تقول : إن عاد لما فعل ، تريد ، إن فعل مرة أخرى ، ويجوز إن عاد لما فعل : إن نقض ما فعل ، وهو كما تقول : حلف أن يضربك ، فيكون معناه : حلف لا يضربك ، وحلف ليضربنك .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معنى اللام في قوله " لما قالوا " بمعنى إلى أو في ، لأن معنى الكلام : ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه ، وإن قيل معناه : ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا ، أو في تحليل ما حرموا فصواب ، لأن كل ذلك عود له ، فتأويل الكلام : ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم .
وقوله : " فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " يقول : فعليه تحرير رقبة ، يعني عتق رقبة عبد أو أمة من قبل أن يماس الرجل المظاهر امرأته التي ظاهر منها أو تماسه .
واختلف في المعني بالمسيس في هذا الموضع نظير اختلافهم في قوله : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " [ البقرة : 237 ] ، وقد ذكرنا ذلك هنالك .
وسنذكر بعض ، ما لم نذكره هنالك .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " فهو الرجل يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فإذا قال ذلك ، فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر عن يمينه بعتق رقبة " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " والمس : النكاح " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " وإن هو قال لها : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا ، فليس يقع في ذلك ظهارا حتى يحنث ، فإن حنث فلا يقربها حتى يكفر ، ولا يقع في الظهار طلاق .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، قال : ثنا أشعث ، عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً أن يغشى المظاهر دون الفرج .
حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا زيد ، قال : قال سفيان : إنما المظاهرة عن الجماع ، ولم ير بأساً أن يقضي حاجته دون الفرج أو فوق الفرج ، أو حيث يشاء ، أو يباشر .
وقال آخرون : عني بذلك كل معاني المسيس ، وقالوا : الآية على العموم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا وهيب ، عن يونس ، قال : بلغني عن الحسن أنه كره للمظاهر المسيس .
وقوله : " ذلكم توعظون به " يقول تعالى ذكره : أوجب ربكم ذلك عليكم عظة لكم تتعظون به ، فتنتهون عن الظهار وقول الزور " والله بما تعملون خبير " يقول تعالى ذكره : والله بأعمالكم التي تعملونها أيها الناس ذو خبرة لا يخفى عليه شيء منها ، وهو مجازيكم عليها ، فانتهوا عن قول المنكر والزور .
فيه اثنتا عشرة مسألة .
الأولى :قوله تعالى : " والذين يظاهرون من نسائهم " هذا ابتداء والخبر " فتحرير رقبة " وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة . وقيل : أي فكفارتكم عتق رقبة . والمجمع عليه عند العلماء في الظاهر قوله الرجل لأمرأته :أنت علي كظهر أمي .وهو قول المنكر والزور الذي عني الله بقوله : " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " فمن قال هذا القول حرم عليه وطء أمرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار ، لقوله عز وجل : " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول حاصة حتى ينضم إليها العود ، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الاول : أنه العزم على الوطء ،وهو مشهور قول العرقيين أبي حنيفة وأصحابه .وروى عن مالك :فإن عزم على وطئها كان عودا ، وإن لم يعزم لم يكن عودا . الثاني : للعزم على المساك : بعد التطاهر منها ، قاله مالك . الثالث : العزم عليهما .
وهو قول مالك في موطئه ، قال مالك في قول الله عز وجل : " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا" قال : سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها ، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة ، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه .قال مالك : وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر . القول الرابع : أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا ، فاله الحسن ومالك أيضا . الخامس : وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه هو أن يمسكها زوجة تعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، لأنه لما ظاهر قصد التحريم ، فإن وصل به الطلاق قفد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه . وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتحب عليه الكفارة . السادسة أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة . ومعنى العود عند القائلين بهذا : أنه لايستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمهما ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد . السابعة هو تكرير الظهار بلفظه . وهذا قول أهل الظهار النافين للقياس ،قالوا : إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود ، وإن لم يكرر فليس بعود . ويسند ذلك إلى بكير بن الأشبح و أبي الأشبح وأبي العالية و أبي حنيفة أيضا ، وهو قول الفراء وقال أبو العالية : وظاهر الآية يشهد له ، لانه قال : " ثم يعودون لما قالوا " أي إلى قول ما قالوا .وروى علي بن أبي طلحة عن ابن العباس في قوله عز وجل : " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " هوأن يقول لها أنت علي كظهر أمي . فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفالة الظهار .قال ابن العربي : فأما العول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لايصح عن بكير ،وإنما يشبه أن نكون من جهالة داود وأشياعه . وقد رويت قصص المتظاهرين وليسم في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، وأيضا فإن المعنى ينقضه ، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من العول وزور ، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم ولاسبب المحظور وجبت عليك الكفارة ، وهذا لا يعقل ، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لاتشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أوغيره .
قلت : قوله شيبه ان يكون من جهالة داود وأشاعه حمل منه عليه ، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم ، وأما قول الشافعي : بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات : الأول : أنه قال : ثم وهذا يظاهره يقتضي التراخي . الثاني : أن قوله تعالى : " ثم يعودون " يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بقعل منهم . الثالث : أن الطلاق الرجعي لاينافي البقاء علىالملك فلم يسقط حكم الظهار كلإيلاء . فإن قيل : فإذا رآها كلام لم يسمكها إذا لا يصح إمساك الام بالنكاح . وهذه عمدة أهل ما وراء النهر .قلنا : إذا عزم علىخلاف ما قال ورآها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله . وتحقيق هذا القول : أن العزم قول يفسي ، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح ، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار ، ثم عاد لما قال وهو التحليل ، ولايصح أن يكون منه ابتداء عقد ، لأن العقد باق قلم يبق إلا أنه قو ل عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي ، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله ، لقوله : " من قبل أن يتماسا " .وهذا تفسير بالغ في فنه .
الثانية : قال بعض أهل التأويل :الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون " إلى ماكانوا عليه من الجماع " فتحرير رقبة " لما قالوا ،أي فعليهم . تحرير رقبة من أجل ما قالوا : فالجار في قوله : " لما قالوا " متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الإبتداء وهو علهم ، قاله الاخفش . وقال الزجاج :المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا .وقيل : المعنى الذي كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، ثم يعدون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة منعاد أن يحرر رقبة: الفراء : اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون ما قالوا يوريدون الوطء .وتال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا واحد ، واللام وإلى يتعاقبان ، قال " الحمد لله الذي هدانا لهذا " [الاعراف : 43 ] وقال : " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " [الصافات : 23 ] وقال :" بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] وقال :" وأوحي إلى نوح " [هود : 36 ] .
الثالثة :وقوله تعالى:" فتحرير رقبة " أي فعليه إعتاق رقبة ،يقال :حررته أي جعلته حرا .ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب ،من كمالها إسلامها عند مالك و الشافعي ، كالرقبة في كقارة القتل .وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها .
الرابعة : فإن إعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عنا ولا عند أبي حنيفة .وقال الشافعي يجزئ ، لأن نصف العبدين في معنى العبد الواحد ، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزي كالإطعام ، ودليلنا قوله تعالى : " فتحرير رقبة " وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس برقبة ، وليس ذلك مما يدخله التلفيق ، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامهما ، أصله إذا اشترك رجلان في أضحيتين ، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا ، ولأنه لو أوصى بأن تشتري رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين ، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم . والإطعام وغيره لا يتجزى في الكفارة عندنا .
الخامسة : قوله تعالى: " من قبل أن يتماسا " أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير ،فإن جامعها قبل التكفير ،أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكى عن مجاهد : انه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفارة أخرى . وعن غيره : أن الكفارة والواجبة بالظهار تسقط عنه ول يلزمه شيء أصلا ، لأن الله تعالى أوجبالكفارة وأمر بها قبل المسيس ، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها . والصحيح ثبوت الكفارة ، لأنه بوطئه ارتكب إثمنا فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها . وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفار . وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام . وقال أبو حنيفة : إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء . وقال الحسن وسفيان ،وهو الصحيح من المذهب الشافعي . وقيل : وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس ، وهو قول مالك واحد قولي الشافعي . وقد تقدم .
السادسة : قوله تعلى : " ذلكم توعظون به " أي يؤمرون به " والله بما تعملون خبير " من التكفير وغيره .
قال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام, عن خويلة بنت ثعلبة قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة, قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه, قالت: فدخل علي يوماً فراجعته بشيء, فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة, ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت: قلت كلا, والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي, وقد قلت ما قلت, حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه, قالت: فواثبني, فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني, قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً, ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه, فذكرت له مالقيت منه وجعلت أشكو إليه ماألقى من سوء خلقه, قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ياخويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه".
قالت: فو الله ما برحت حتى نزل في قرآن, فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي: "يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً ـ ثم قرأ علي " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "مريه فليعتق رقبة" قالت: فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق, قال "فليصم شهرين متتابعين" قالت: فقلت والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال "فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر" قالت: فقلت والله يا رسول الله ما ذاك عنده, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإنا سنعينه بعرق من تمر" قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر قال "قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً" قالت: ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن يسار به, وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة, وقد تصغر فيقال خويلة, ولا منافاة بين هذه الأقوال فالأمر فيها قريب والله أعلم. هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة, فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت سبب النزول ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة, من العتق أو الصيام أو الإطعام, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر الأنصاري قال: كنت امرأً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري, فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع, فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها, فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت: انطلقوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري, فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا, أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها, ولكن اذهب أنت, فاصنع ما بدا لك.
قال: فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي "أنت بذاك" فقلت: أنا بذاك فقال "أنت بذاك" فقلت أنا بذاك قال "أنت بذاك" قلت نعم, ها أنا ذا فأمض في حكم الله عز وجل فإني صابر له قال "أعتق رقبة" قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها, قال "فصم شهرين متتابعين" قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال "فتصدق" فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء, قال "اذهب إلى صاحب صدقة بني رزيق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً من تمر ستين مسكيناً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي, ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي فدفعوها إلي, وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه واختصره الترمذي وحسنه, وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة, كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.
قال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس: أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت, وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله , إن أوساً ظاهر مني, وإنا إن افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته, وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في ذلك شيء, فأنزل الله تعالى: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتقدر على رقبة تعتقها" قال: لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها. قال: فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عنه ثم راجع أهله, رواه ابن جرير ولهذا ذهب ابن عباس والأكثرون إلى ما قلناه والله أعلم. فقوله تعالى: "الذين يظاهرون منكم من نسائهم" أصل الظهار مشتق من الظهر, وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياساً على الظهر, وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم, هكذا قال غير واحد من السلف.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس, وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة, فظاهر منها فأسقط في يديه, وقال ما أراك إلا قد حرمت علي وقالت له مثل ذلك, قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فقال: "يا خويلة" ما أمرنا في أمرك بشيء, فأنزل الله على رسوله فقال: "يا خويلة أبشري" قالت: خيراً ـ فقرأ عليها " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " قالت: وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري قال "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره قال: "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً" قالت: من أين ما هي إلا أكلة إلي مثلها, قال: فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعاً والوسق ستون صاعاً فقال: ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك وهذا إسناد قوي وسياق غريب, وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي, حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال: كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الأنصار, وكان ضرير البصر فقيراً سيء الخلق, وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال: أنت علي كظهر أمي, وكان لها منه عيل أو عيلان فنازعته يوماً في شيء فقال: أنت علي كظهر أمي, فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة, وعائشة تغسل شق رأسه فقدمت عليه ومعها عيلها, فقالت: يا رسول الله إن زوجي ضرير البصر فقير لا شيء له سيء الخلق, وإني نازعته في شيء, فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق, ولي منه عيل أو عيلان فقال: "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه".
فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي, قالت: ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الاخر, فدارت معها فقالت: يا رسول الله زوجي ضرير البصر فقير سيء الخلق وإن لي منه عيل أو عيلان وإني نازعته في شيء فغضب وقال: أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق, قالت: فرفع إلي رأسه وقال: "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي قال: ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تغير, فقالت لها: وراءك فتنحت, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله, فلما انقطع الوحي قال: يا عائشة أين المرأة فدعتها, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبي فأتيني بزوجك" فانطلقت تسعى, فجاءت به فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقير سيء الخلق.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أستعيذ بالله السميع العليم " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها" قال لا, قال: "أفلا تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟" قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد يعشو بصري. قال: "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ؟" قال: لا, إلا أن تعينني. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أطعم ستين مسكيناً" قال: وحول الله الطلاق فجعله ظهاراً, ورواه ابن جرير عن ابن المثنى عن عبد الأعلى عن داود سمعت أبا العالية فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق, وقال سعيد بن جبير: كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية, فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة, رواه ابن أبي حاتم بنحوه, وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الاية بقوله منكم فالخطاب للمؤمنين, وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, واستدل الجمهور عليه بقوله: "من نسائهم" على أن الأمة لا ظهار منها ولا تدخل في هذا الخطاب .
وقوله تعالى: "ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم" أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك, لا تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته, ولهذا قال تعالى: "وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً" أي كلاماً فاحشاً باطلاً "وإن الله لعفو غفور" أي عما كان منكم في حال الجاهلية, وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان, ولم يقصد إليه المتكلم, كما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته يا أختي, فقال: "أختك هي ؟" فهذا إنكار, ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك .
وقوله تعالى: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا" اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى: "ثم يعودون لما قالوا" فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره, وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام, وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق, وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة, وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع والإمساك, وعنه أنه الجماع, وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية, فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة, وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء عن سعيد بن جبير "ثم يعودون لما قالوا" يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "من قبل أن يتماسا" والمس النكاح, وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان, وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر. وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله, إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله" قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل", وقال الترمذي: حسن غريب صحيح, ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلاً, قال النسائي: وهو أولى بالصواب.
وقوله تعالى: "فتحرير رقبة" أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا, فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان, فحمل الشافعي رحمه الله ما أطلق ههنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب وهو عتق الرقبة, واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" وقد رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن يسار عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس, قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يقل الله تعالى من قبل أن يتماسا" قال: أعجبتني, قال: "أمسك حتى تكفر" ثم قال البزار: لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا, وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم, وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة .
وقوله تعالى: "ذلكم توعظون به" أي تزجرون به "والله بما تعملون خبير" أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم, وقوله تعالى: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً" قد تقدمت الأحاديث الامرة بهذا على الترتيب كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان "ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله" أي شرعنا هذا لهذا. وقوله تعالى: "وتلك حدود الله" أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى: "وللكافرين عذاب أليم" أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة, لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء كلا ليس الأمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والاخرة .
3- " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا" لما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه، والمعنى: والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور، ثم يعودون لما قالوا: أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي كما في قوله: "أن تعودوا لمثله" أي إلى مثله. قال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال: "وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا" وقال: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" وقال: "بأن ربك أوحى لها" وقال: "وأوحي إلى نوح" وقال الفراء: اللام بمعنى [عن]، والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. قال الأخفش أيضاً: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى: والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع "فتحرير رقبة" لما قالوا: أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا. فالجار في قوله: "لما قالوا" متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال: الأول أنه العزم على الوطء وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك. وقيل هو الوطء نفسه وبه قال الحسن، وروي أيضاً عن مالك. وقيل هو أن ممسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق وبه قال الشافعي. وقيل هو الكفارة، والمعنى: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة. وقيل هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر. وروي عن بكير بن الأشج وأبي العالية والفراء. والمعنى: ثم يعودون إلى قول ما قالوا. والموصول مبتدأ وخبره "فتحرير رقبة" على تقدير فعليهم تحرير رقبة كما تقدم، أو فالواجب عليهم إعتاق رقبة، يقال حررته: أي جعلته حراً، والظاهر أنها تجزئ أي رقبة كانت، وقيل يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني قال مالك والشافعي، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب "من قبل أن يتماسا" المراد بالتماس هنا الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر، وقيل إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قول الشافعي، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ وخبره "توعظون به" أي تؤمرون به، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة. قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به: أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار " والله بما تعملون خبير " لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.
3- "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة". ثم حكم الظهار: أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفر، والكفارة تجب بالعود بعد الظهار. لقوله تعالى: "ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة".
واختلف أهل العلم في العود فقال أهل الظاهر: هو إعادة لفظ الظهار، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى: "ثم يعودون لما قالوا" أي إلى ما قالوا [أي أعادوه مرة أخرى]، فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه.
وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد من العود هو: العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار، وهو قول مجاهد والثوري.
وقال قوم: المراد من العود الوطء،/ وهو قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري، وقالوا: لا كفارة عليه ما لم يطأها.
وقال قوم: هو العزم على الوطء، وهو قول مالك وأصحاب الرأي.
وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زماناً يمكنه أن يفارقها، فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة.
وفسر ابن عباس العود بالندم، فقال: يندمون فيرجعون إلى الألفة ومعناه هذا.
قال الفراء: يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي نقض ما قال، يعني: رجع عما قال.
وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة، حتى قال: لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها، فإن راجعها صار عائداً ولزمته الكفارة.
قوله: "فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا" والمراد بـ التماس: المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء، قبله، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام: "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً" ولم يقل: من قبل أن يتماسا.
وعند الآخرين: الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام.
واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير، كالقبلة والتلذذ: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء، وهو قول الحسن، وسفيان الثوري، وأظهر قولي الشافعي، كما أن الحيض يحرم الوطء، دون سائر الاستمتاعات.
وذهب بعضهم إلى أنه يحرم، لأن اسم التماس يتناول الكل، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى، والكفارة في ذمته. ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى.
وقال بعض أهل العلم: إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان.
وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن أفطر يوماً متعمداً أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكيناً.
وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين.
"ذلكم توعظون به"، تؤمرون به، "والله بما تعملون خبير".
3-" والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " أي إلى قولهم بالتدارك ومنه المثل : عاد الغيث على ما أفسد ، وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زماناً يمكنه مفارقتها فيه ، إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه وهو أقل ما ينقض به . وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة . وعند مالك بالعزم على الجماع ، وعند الحسن بالجماع . أو بالظهار في الإسلام على أن قوله " يظاهرون " بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية ، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظاً وهو قول الظاهرية ، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بإمساكها ، أو استباحة استمتاعها أو وطئها . " فتحرير رقبة " أي فعليهم أو فالواجب اعتقاق رقبة والفاء للسببية ، ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار ، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياساً على كفارة القتل . " من قبل أن يتماسا" أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه ، أو أن يجامعها وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير . " ذلكم " أي ذلكم الحكم بالكفارة . " توعظون به " لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع منه . " والله بما تعملون خبير " لا تخفى عليه خافية .
3. Those who put away their wives (by saying they are as their mothers) and afterward would go back on that which they have said; (the penalty) in that case (is) the freeing of a slave before they touch one another. Unto this ye are exhorted; and Allah is informed of what ye do.
3 - But those who divorce their wives by Zihar, then wish to go back on the words they uttered, (it is ordained that such a one) should free a slave before they touch each other: this are ye admonished to perform: and God is well acquainted with (all) that ye do.