31 - (وجعلني مباركا أين ما كنت) أي نفاعا للناس إخبار ما كتب له (وأوصاني بالصلاة والزكاة) أمرني بهما (ما دمت حيا)
وقوله "وجعلني مباركا" اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه: وجعلني نفاعاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، قال : ثنا العلاء، عن عائشة امرأة ليث ، عن ليث، عن مجاهد "وجعلني مباركا" قال: نفاعاً.
وقال آخرون: كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي، قال : سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم، قال : لقي عالم عالماً لما هو فوقه في العلم ، فقال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من علمي؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله "وجعلني مباركا أين ما كنت" وقيل : ما بركته؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان.
وقال آخرون: معنى ذلك : جعلني معلم الخير.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال : ثنا سفيان في قوله "وجعلني مباركا أين ما كنت" قال: معلماً للخير.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قوله "وجعلني مباركا أين ما كنت" قال: معلماً للخير حيثما كنت.
وقوله "وأوصاني بالصلاة والزكاة" يقول : وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة ، يعني المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها علي. وفي الزكاة معنيان: أحدهما : زكاة الأموال أن يؤديها. والآخر: تطهير الجسد من دنس الذنوب ، فيكون معناه : وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي.
وقوله "ما دمت حيا" يقول: ما كنت حياً في الدنيا موجوداً، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع: تطهير البدن من الذنوب ، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدخر شيئاً لغد، فتجب عليه زكاة المال ، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكل ما فضل عن قوته ، فيكون ذلك وجهاً صحيحاً.
" وجعلني مباركا " أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلماً له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. " وأوصاني بالصلاة والزكاة " أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداءهما، على القول الأخير الصحيح. " ما دمت حيا " في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي.
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر, فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها, فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه, فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله, فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً, و"قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا", أي أمراً عظيماً, قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن أبي زياد , حدثنا سيار , حدثنا جعفر بن سليمان , حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها, قال: وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئاً, فلقوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها ؟ قال: لا ولكني رأيت الليلة من بقري مالم أره منها قط, قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد : وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً فتوجهوا حيث قال لهم, فاستقبلتهم مريم, فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أمراً عظيماً "يا أخت هارون" أي يا شبيهة هارون في العبادة "ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً" أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة, فكيف صدر هذا منك ؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي : قيل لها: "يا أخت هارون" أي أخي موسى, وكانت من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم, وللمضري يا أخا مضر, وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون, فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة, وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون.
ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير , وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين الهجستاني , حدثنا ابن أبي مريم , حدثنا المفضل بن فضالة , حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: "يا أخت هارون" قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه, وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى "فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون" وهذا القول خطأ محض, فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل, فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً, وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما, ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني وبينه نبي" ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي , لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد, ولكان قبل سليمان وداود, فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله" وذكر القصة إلى أن قال: "وقتل داود جالوت" الاية, والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه, قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل, فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة, بل هي باسم هذه, وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم, كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس , سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون "يا أخت هارون" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم" انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس , وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعباً قال إن قوله: "يا أخت هارون" ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا بشر , حدثنا يزيد , حدثنا سعيد عن قتادة قوله: "يا أخت هارون" الاية, قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد, ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به, وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به, وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر, قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل. وقوله: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً" أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية, وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة, فأحالت الكلام عليه, وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه, فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم "كيف نكلم من كان في المهد صبياً" قال ميمون بن مهران : "فأشارت إليه" قالت كلموه, فقالوا: على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبياً, وقال السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها "قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً" أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره, كيف يتكلم ؟ قال: "إني عبد الله", أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد, وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: "آتاني الكتاب وجعلني نبياً" تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة, قال نوف البكالي : لما قالو لأمه ما قالوا, كان يرتضع ثديه, فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني : رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول: "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" الاية, وقال عكرمة : "آتاني الكتاب" أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن المصفى , حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبد العزيز بن زياد , عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عيسى بن مريم قد درس التوارة وأحكمها وهو في بطن أمه, فذلك قوله: "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.
وقوله: " وجعلني مباركا أين ما كنت " قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري : وجعلني معلماً للخير. وفي رواية عن مجاهد : نفاعاً. وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار , حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي , سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالماً هو فوقه في العلم, فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده, وقد أجمع الفقهاء على قول الله: " وجعلني مباركا أين ما كنت " وقيل: ما بركته ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقوله: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً" كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً" قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت, ماأبينها لأهل القدر.
وقوله: "وبراً بوالدتي" أي وأمرني ببر والدتي, ذكره بعد طاعة الله ربه, لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين, كما قال تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقال "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير". وقوله: "ولم يجعلني جباراً شقياً" أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي, فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري : الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً, ثم قرأ: "وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً" قال: ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً, ثم قرأ: "وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً".
قال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن, فقالت: طوبى للبطن الذي حملك, وطوبى للثدي الذي أرضعت به, فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه, ولم يكن جباراً شقياً. وقوله: " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " إثبات منه لعبوديته لله عز وجل, وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق, ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد, صلوات الله وسلامه عليه.
31- "وجعلني مباركاً أين ما كنت" أي حيثما كنت، والبركة أصلها من بروك البعير، والمعنى: جعلني ثابتاً في دين الله، وقيل البركة هي الزيادة والعلو، فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائداً عالياً منجحاً، وقيل معنى المبارك النفاع للعباد، وقيل المعلم للخير، وقيل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر "وأوصاني بالصلاة" أي أمرني بها "والزكاة" زكاة المال، أو تطهير النفس "ما دمت حياً" أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم.
31 - " وجعلني مباركا أين ما كنت " ، أي نفاعاً حيث ما توجهت . وقال مجاهد : معلماً للخير .وقال عطاء :أدعو إلى الله وإلى توحيده وعبادته . وقيل : مباركاً على من تبعني
" وأوصاني بالصلاة والزكاة " ، أي : أمرني بهما .
فإن قيل : لم يكن لعيسى مال . فكيف يؤمر بالزكاة ؟
قيل : معناه بالزكاة لو كان لي مال وقيل : بالاستكثار من الخير .
" ما دمت حياً " .
31ـ " وجعلني مباركاً" نفاعاً معلماً للخير، والتعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق في قضائه، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع وقيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً . " أين ما كنت " حيث كنت. " وأوصاني " وأمرني. " بالصلاة والزكاة " زكاة المال إن ملكته أو تطهير النفس عن الرذائل. "ما دمت حيا" .
31. And hath made me blessed wheresoever I may be, and hath enjoined upon me prayer and alms giving so long as I remain alive,
31 - And He hath made me blessed wheresoever I be, And hath enjoined on me prayer and Charity as long As I live;