(قالوا سبحانك) تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك (لا علم لنا إلا ما علمتنا) إياه (إنك أنت) تأكيد للكاف (العليم الحكيم) الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبريهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئاً إلا ما علمه تعالى ذكره.
وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن ادكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.
وذلك: أن الله جل ثناؤه احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا خاصًا، ولم يكن مدركاً علمه إلا بالانجباء والاخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده. ودل فيها على أن كل مخبر خبرًا عما قد كان أو عما هو كائن مما لم يكن، ولم يأته به خبر، ولم يوضع له على صحته برهان، فمتقول ما يستوجب به من ربه العقوبة. ألا ترى أن الله جل ذكره رد على ملائكته قيلهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال: "إني أعلم ما لا تعلمون "، وعرفهم أن قيل ذلك لم يكن جائزاً لهم، بما عرفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ". فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز، والتبري إليه أن يعلموا إلا ما علمهم بقولهم: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا". فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة، على كذب مقالة كل من ادعى شيئاً من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والعافة والمنجمة. وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم، وأياديه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم الى طاعته، مستعطفهم بذلك إلى الرشاد، ومستعتبهم به إلى النجاة. وحذرهم بالإصرار والتمادي في البغي والضلال حلول العقاب بهم، نظير ما أحل بعدوه إبليس، إذ تمادى في الغي والخسار.
قال: وأما تأويل قوله: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فهو كما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " قالوا سبحانك " تنزيهًا لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، تبريًا منهم من علم الغيبب، "إلا ما علمتنا" كما علمت آدم.
وسبحان مصدر لا تصرف له. ومعناه: نسبحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننزهك تنزيهًا، ونبرئك من أن نعلم شيئًا غيرما علمتنا.
القول في تأويل قوله: " إنك أنت العليم الحكيم ".
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم: "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: "إنك أنت العليم "، يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان من سواك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي،عن ابن عباس: "العليم " الذي قد كمل في علمه، و "الحكيم" الذي قد كمل في حكمه.
وقد قيل: إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أن العليم بمعنى العالم، و الخبير بمعنى الخابر.
قوله تعالى : "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" .
قوله تعالى : "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "سبحانك" أي تنزيهاً لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك . وهذا جوابهم عن قوله : أنبئوني فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا . و ما في ما علمتنا بمعنى الذي ، أي إلا الذي علمتنا ، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا .
الثانية : الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم : الله أعلم ولا أدري ، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء ، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون . وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي البقاع شر ؟ قال : لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل جبريل ، فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق" . وقال الصديق للجدة : ارجعي حتى أسأل الناس .وكان علي يقول : وابردها على الكبد ، ثلاث مرات . قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول : الله أعلم . وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال : لا علم لي بها ، فلما أدبر الرجل . قال ابن عمر : نعم ما قال ابن عمر ، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به ! ذكره الدارمي في مسنده . وفي صحيح مسلم عن ابن عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال : كنت جالساً عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد ، فقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد أنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج ، أو علم ولا مخرج ؟ فقال له القاسم : وعم ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدىً : ابن أبي بكر وعمر . قال يقول له القاسم : اقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة . فسكت فما أجابه . وقال مالك بن أنس : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساه من بعده لا أدري حتى يكون اصلاً في أيديهم ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال : لا أدري . وذكر الهيثم بن جميل قال : شهدت مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري .
قلت : ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين ، وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم . قال ابن عبد البر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه ، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم . روى يونس بن عبد الأعلى قال سمعت ابن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول : ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف .
قلت : هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام ! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية ، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن ، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى . اين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال ، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت : ما ذلك لك ! قال : ولم ؟ قالت لأن الله عز وجل يقول : "وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ! وروى وكيع عن ابي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : سأل رجل علياً رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل : ليس كذلك يا أمير المؤمنين ، ولكن كذا وكذا ، فقال علي : أصبت واخطأت ، وفوق كل ذي علم عليم . وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال : لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد ، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس ، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد ، فقرأت عليه في يوماً حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
"أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار" فقال : إنما هو مجتابي الثمار ، فقلت إنما هو مجتابي النمار ، هكذت قرأته عل كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق ، فقال لي : بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا ! أو نحو هذا . ثم قال لي :قم بنا إلى ذلك الشيخ ـ لشيخ كان في المسجد ـ فإن له بمثل هذا علماً ، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال : إنما هو مجتابي النمار ، كم قلت وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة ، جيوبهم أمامهم . والنمار جمع نمرة . فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه : رغم أنفي للحق ، رغم أنفي للحق . وانصرف . وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن :
إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت
ولم أعد علمي إلى غيره وكان إذ ما تناهى سكت
الثانية : قوله تعالى : "سبحانك" سبحان منصوب على المصدر عند الخليل و سيبويه ، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا . وقال الكسائي : هو منصوب على أنه نداء مضاف . و "العليم" فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى . و "الحكيم" معناه الحاكم ، وبينهما مزيد المبالغة . وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم ، قاله ابن الأنباري . وقال قوم : الحكيم المانع من الفساد ، ومنه سميت حكمة اللجام ، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد . قال جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم من الفساد . وقال زهير :
القائد الخيل منكوباً دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا
القد : الجلد . والأبق : القنب . والعرب تقول : أحكم اليتيم عن كذا وكذا ، يريدون منعه . والسورة المحكمة : الممنوعة من التغيير وكل التبديل ، وأن يلحق بها ما يخرج عنها ، ويزاد عليها ما ليس منها ، والحكمة من هذا ، لأنها تمنع صاحبها من الجهل . ويقال : أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد . فهو محكم وحكيم على التكثير .
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال: علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً والدواب فقيل: هذا الحمار ، هذا الجمل، هذا الفرس، وقال الضحاك عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم الصحفة والقدر ، قال نعم حتى الفسوة والفسية، وقال مجاهد "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء ، كذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء، وقال الربيع في رواية عن أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته كلهم، واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال "ثم عرضهم" وهذا عبارة عما يعقل وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير" وقد قرأ عبد الله بن مسعود ثم عرضهن، وقرأ أبي بن كعب ثم عرضها أي المسميات. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ، ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاية في كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي. ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه فيقول لست هناكم، فيقول ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيقول لست هناكم. فيذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا، وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي عن قتادة به، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة، ووجه إيراده ههنا، والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات، ولهذا قال "ثم عرضهم على الملائكة" يعني المسميات كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "وعلم آدم الأسماء كلها" ثم عرض الخلق على الملائكة، وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء, وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة, وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: "إن كنتم صادقين" إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, وقال الضحاك عن ابن عباس "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة, وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك. إن كنتم صادقين في قيلكم إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله، قال تنزيه الله نفسه عن السوء، ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناه، فما سبحان الله ؟ فقال لي علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال، قال: وحدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله، قال: اسم يعظم الله به، ويحاشى به من السوء.
قوله تعالى: "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب، وقال مجاهد في قول الله "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم" قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء، وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان " أن لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " وقيل في قوله تعالى: "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" غير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الاية، فهذا الذي أبدوا "وما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك الثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم، وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم، فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: "وأعلم ما تبدون" وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات" ذكر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم، قال وكذلك قوله "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون".
فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز والقصور 32- "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" وسبحان: منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه وقال الكسائي: هو منصوب على أنه منادى مضاف وهذا ضعيف جداً. والعليم: للمبالغة والدلالة على كثرة المعلومات. والحكيم صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له. ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا واعترفوا بالقصور.
32. " قالوا سبحانك " تنزيهاً لك " لا علم لنا إلا ما علمتنا " معناه فإنك أجل من أن نحيط بشئ من علمك إلا ما علمتنا " إنك أنت العليم" بخلقك " الحكيم " في أمرك والحكيم له ومعنيان: أحدهما الحاكم وهو القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كي لا لا يتطرق إليه الفساد وأصل الحكمة في اللغة: المنع فهي تمنع صاحبها من الباطل ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها من الاعوجاج فلما ظهر عجزهم.
32-" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " اعتراف بالعجز والقصور ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً ، وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقة ، وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم ، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه . وسبحان : مصدر كغفران ولا يكاد يستعمل إلا مضافاً منصوباً بإضمار فعله ، كمعاذ الله . وقد أجري علماً للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قوله : سبحان من علقمة الفاخر . وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال ، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه السلام : " سبحانك تبت إليك " وقال يونس : " سبحانك إني كنت من الظالمين " .
" إنك أنت العليم " الذي لا يخفى عليه خافية : " الحكيم " المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة وأنت فصل ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت ، وإن لم يجز : مررت بأنت ، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، ولذلك جاز : يا هذا الرجل ، ولم يجز : يا الرجل ، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن .
32. They said: Be glorified! We have no knowledge saving that which Thou hast taught us. Lo! Thou, only Thou, art the Knower, the Wise.
32 - They said: Glory to thee: of knowledge We have none, save what it is thou who art perfect in knowledge and wisdom.