34 - (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) بفتح الياء وكسرها في هذه السورة بين فيها ما ذكر أو بينة (ومثلا) خبرا عجيبا وهو خبر عائشة (من الذين خلوا من قبلكم) أي من جنس أمثالهم أي أخبارهم العجيبة كخبر يوسف ومريم (وموعظة للمتقين) في قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون الخ ولولا إذ سمعتموه الخ يعظكم الله أن تعودوا الخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها
يقول تعالى ذكره : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس دلالات وعلامات مبينات . يقول : مفصلات الحق من الباطل ، وموضحات ذلك .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين مبينات بفتح الياء : بمعنى مفصلات ، وأن الله فصلن وبينهن لعباده ، فهن مفصلات مبينات . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " مبينات " بكسر الياء بمعنى أن الآيات هن تبين الحق والصواب للناس ، وتهديهم إلى الحق .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أنهما قراءتان معروفتان ، وقد قرا بكل واحدة منهما علماء من القراء ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن الله إذ فصلها وبينها صارت مبينة بنفسها الحق ، لمن التمسه من قبلها ، وإذا بينت ذلك لمن التمسه من قبلها ، فيبين الله ذلك فيها ، فبأي القراءتين قرأ القارئ ، فمصيب في قراءته الصواب .
وقوله " ومثلا من الذين خلوا من قبلكم " من الأمم ، وموعظة لمن اتقى الله ، فخاف عقابه وخشي عذابه .
ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.
اشتملت هذه الايات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم" إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام "يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء", أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود , وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تزوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة". وفي رواية: "حتى بالسقط", الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمود بن خالد الأزرق , حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" رواه ابن جرير , وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه . وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث "تزوجوا فقراء يغنكم الله" فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الان, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" الحديث, وهذه الاية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم " أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً "والله غفور رحيم" قال عكرمة في قوله "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح : إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري , وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر.
وقال البخاري : وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن بكر , حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر : لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي , وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه". وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاية.
وقوله تعالى: "إن علمتم فيهم خيراً" قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل , عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال "إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس", وقوله تعالى: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان , واختاره ابن جرير , وقال إبراهيم النخعي في قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة , وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة حق على الله عونهم" فذكر منهم المكاتب يريد الأداء, والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر : أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية , فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال عكرمة : فكان أول نجم أدي في الإسلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي , وقال محمد بن سيرين في قوله: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى , أخبرنا إبراهيم بن موسى , أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج , أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربع الكتابة" وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الاية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول , فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم.
ذكر الاثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول , يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الاية " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي , حدثنا علي بن سعيد , حدثنا الأعمش , حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبي ابن سلول , جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع , فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار . وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك : لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء".
وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبدالله بن أبي . يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الاسلام نزلت " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".
وقال السدي : أنزلت هذه الاية الكريمة في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان : بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" يعني الزنا.
وقوله تعالى: "إن أردن تحصناً" هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية "مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث" وقوله تعالى: "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر . وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة .
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاية "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله , حدثني ابن لهيعة , حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: "ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات" يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات "ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم" أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم "للمتقين" أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
34-والصفة الثالثة كونه "موعظة"ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من النواهي. وأما غيز المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والاعتبار بقصص الذين خلوا،
وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " وأنكحوا الأيامى " الآية قال: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنكحوا النساء، فإنهن يأتينكم بالمال". وأخرجه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله" وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه. وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت " والذين يبتغون الكتاب " الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبته. قال ابن كثير إن إسناده صحيح. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلا على الناس". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس "إن علمتم فيهم خيراً" قال: المال. وأخرج ابن مردويه عن علي مثله. وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية قال: أمانة ووفاء.وأخرج عنه أيضاً قال: إن علمت مكاتبك يقضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول: يطعمني من أوساخ الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: "وآتوهم من مال الله" الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقال علي بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة في الآية قال: حث الناس عليه أن يعطوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ومسلم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً،وكانت كارهة، فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " هكذا كان يقرأها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي: يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "ولا تكرهوا فتياتكم" الآية. وأخرج البزار وابن مردويه عن أنس نحو حديث جابر الأول. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن فنزلت الآية. وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن.
قوله عز وجل: 34- "ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات"، من الحلال والحرام، "ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم"، أي: شبهاً من حالكم بحالهم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين، "وموعظة للمتقين"، للمؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر.
34 -" ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات " يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود ، وقرأ ابن عامر و حفص و والكسائي بالكسر في هذا وفي (( الطلاق )) لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين ، أو لأنها بينت الأحكام والحدود . " ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم " أو ومثلاً من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم ، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم . " وموعظةً للمتقين " يعني ما وعظ به في تلك الآيات ، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها ، وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته .
34. And verily We have sent down for you revelations that make plain, and the example of those who passed away before you. An admonition unto those who ward off (evil).
34 - We have already sent down to you verses making things clear, an illustration from (the story of) people who passed away before you, and an admonition for those who fear (God).