37 - (ربنا إني أسكنت من ذريتي) أي بعضها وهو إسماعيل مع أمه هاجر (بواد غير ذي زرع) هو مكة (عند بيتك المحرم) الذي كان قبل الطوفان (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة) قلوبا (من الناس تهوي) تميل وتحن (إليهم) قال ابن عباس لو قال أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وقد فعل بنقل الطائف إليه
وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجر ـ فيما ذكر ـ مكة .
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم و الحسن بن محمد قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، قال : نبئت عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : إن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم إسماعيل ، وإن أول ما أحدث نساء العرب جر الذيول لمن أم إسماعيل ، قال : لما فرت من سارة ، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت : إلى أي شيء تكلنا ؟ إلى طعام تكلنا ؟ إلى شراب تكلنا .؟ فجعل لا يرد عليها شيئاً ، فقالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا . قال : فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنيه كداء ، اقبل على الوادي فدعا ، فقال : "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" ، قال : ومع الإنسانة شنة فيها ماء ،فنفد الماء فعطشت وانقطع لبنها ، فعطش الصبي ، فنظرت أي الجبال أدنى من الأرض ، فصعدت بالصفا ، فتسمعت هل تسمع صوتاً ، أو ترى أنيساً ؟ فلم تسمع فانحدرت ، فلما أتت على الوادي سعت وما تريد السعي ، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي ، فنطرت أي الجبال أدنى من الأرض ، فصعدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتاً ، أو ترى أنيساً ، فسمعت صوتاً ، فقالت كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه ، حتى استقينت ، فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني ، فقد هلكت وهلك من معي ، فجاء الملك فجاء بها حتى انتهى ربها إلى موضع زمزم ، فضرب بقدمه ففارت عيناً ، فعجلت الإنسانة فجعلت في شنتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا" . وقال لها الملك : لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد ، فإنما هي عين لشرب ضيفان الله ، وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء ، فيبنيان لله بيتاً هذا موضعه ، قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام ، فرأوا الطير على الجبل ، فقالوا : إن هذا الطير لعائف على ماء ، فهل علمتم بهذا الوادي ما ماء ؟ فقالوا : لا ، فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة ، فأتوها فطلبوا إليها أن ينزلوا معها ، فأذنت لهم ، قال : وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت ، فماتت ، وتزوج إسماعيل امرأة منهم ، فجاء إبراهيم ، فسأل عن منزل إسماعيل حتى دل عليه ، فلم يجده ، ووجد امرأة له فظة غليظة ، فقال لها : إذا جاء زوجك فقولي له : جاء ههنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك: إني لا أرضى لك عتبة بابك فحولها ، وانطلق ، فلما جاء إسماعيل أخبرته ، فقال : ذاك أبي وأنت عنبة بابي ، فطلقها وتزوج امرأة أخرى منهم ، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل ، فلم يجده ،ووجد امرأة له سهلة طليقة ، فقال لها : أين أنطلق زوجك ؟ فقالت : انطلق إلى الصيد ، قال :فما طعامكم ؟ قالت : اللحم والماء ، قال : اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم ،اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم ثلاثاً ، وقال لها : إذا جاء زوجك فأخبريه ، قولي : جاء ههنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك : قد رضيت لك عتبة بابك ، فأثبتها ، فلما جاء إسماعيل أخبرته . قال : ثم جاء الثالثة ، فرفعا القواعد من البيت .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثني يحيى بن عباد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء نبي الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة في موضع زمزم ، فلما مضى نادته هاجر : يا إبراهيم إنما أسألك ثلاث مرات : من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضرع ولا زرع ، ولا أنيس ، ولا زاد ولا ماء ؟ قال : ربي أمرني ، قالت : فإنه لن يضيعنا قال : فلما قفا إبراهيم قال : "ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن" ، يعني من الحزن "وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء" ، فلما ظمىء إسماعيل جعل يدحض الأرض بعقبه ، فذهبت هاجر حتى علت الصفا ، والوادي يومئذ لاخ ، يعني عميق ، فصعدت الصفا ، فأشرفت لتنظر هل ترى شيئاً ؟ فلم تر شيئاً ، فانحدرت فلبغت الوادي ، فسعت فيه حتى خرجت منه ، فأتت المروة ، فصعدت فاستشرفت هل تر شيئاً ، فلم تر شيئاً ، ففعلت ذلك سبع مرات ،ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل ، وهو يدحض الأرض بقعبه ، وقد نبعت العين وهي زمزم ، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء ، فكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها ، وأفرغته في سقائها ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يرحمها الله لو تركتها لكانت عينا سائحة تجري إلى يوم القيامة" . قال : وكانت جرهم يومئذ بواد قريب من مكة ، قال : ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء ، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي ، قالوا : ما لزمته إلا وفيه ماء ، فجاءوا إلى هاجر ، فقالوا : إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك ، قالت : نعم ، فكانوا معها حتى شب إسماعيل ، وماتت هارج فتزوج إسماعيل امرأة منهم ، قال : فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ، فال لامرأته : أين صاحبك ؟قالت : ليس ههنا ذهب يتصيد ، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد ثم يرجع ، فقال إبراهيم : هل عندك ضيافة ، هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت : ليس عندي ، وما عندي أحد ، فقال إبراهيم : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه ، وذهب إبراهيم ، وجاء إسماعيل ، فوجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : جاءني شيخ كذا وكذا ، كالمستخفة بشأنه ، قال : فما قال لك ؟ قالت : قال لي :اقرئي زوجك السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوجها أخرى ، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينزل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت ذهب يصيد ، وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فانزل يرحمك الله ، قال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم ، قال : هل عندك خبز او بر أو تمر أو شعير ؟ قالت : لا ، فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله براً وشعيراً وتمراً ، فقالت له : انزل حتى أغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شق رأسه الأيمن ، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شقه الأيسر ، فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام ، وقولي له : قد استقامت عتبة بابك ، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبه ريحاً، فقال لي كذا وكذا ، وقلت له كذا وكذا ، وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدمه على المقام ، قال : وما قال لك ؟ قالت : قال لي : إذا حاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك ، قال : ذاك إبراهيم . فلبث ما شاء الله أن يلبث ، وأمره الله ببناء البيت ، فبناه هو وإسماعيل ، فلما بنياه قيل : أذن في الناس بالحج ، فجعل لا يمر بقوم إلا قال : أيها الناس إنه قد بني لكم بيت فحجوه ، فجعل لا يسمعه أحد ، صخرة ولا شجرة ولا شيء ، إلا قال : لبيك اللهم لبيك . قال : وكان بين قوله : "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" ، وبين قوله : "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق" كذا وكذا عاماً ، لم يحفظ عطاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" ، وإنه بيت طهره الله من السوء ، وجعله قبلة ، وجعله حرمه ، اختاره نبي الله إبراهيم لولده .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة "غير ذي زرع" قال : مكة لم يكن بها زرع يومئذ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ،قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، قال القاسم في حديثه : قال : أخبرني عمرو بن كثير قال أبو جعفر : فغيرته أنا فجعلته : قال : أخبرني ابن كثير ، وأسقطت عمراً ، لأني لا أعرف إنساناً يقال له عمرو بن كثير حدث عنه ابن جريج ، وقد حدث به معمر عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، وأخشى أن يكون حديث ابن جريج أيضاً عن كثير ابن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلاً ، فقال سعيد بن جبير للقوم : سلوني قبل ألا تسألوني ،فسأله القوم فأكثروا ، وكان فيما سئل عنه أن قيل له : أحق ما سمعنا في المقام ؟ فقال سعيد : ماذا سمعتم ؟ قالوا : سمعنا أن إبراهيم رسول الله حين جاء من الشام ، كان حلف لامرأته أن لا ينزل مكة حتى يرجع ، فقرب له المقام ، فنزل عليه ، فقال سعيد : ليس كذاك حدثنا ابن عباس ، ولكنه حدثنا حين كان بين أم إسماعيل وسارة ما كان أقبل بإسماعيل ، ثم ذكر مثل حديث أيوب غير أنه زاد في حديثه ، قال : قال قبلأأبو القاسم صلى الله عليه وسلم : ولذلك طاف الناس بين الصفا والمروة ، ثم حدث وقال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : طلبوا النزول معها وقد أحبت أم إسماعيل الأنس ، فنزلوا وبعثوا إلى أهلهم فقدموا ، وطعامهم الصيد ، يخرجون من الحرم ويخرج إسماعيل معهم يتصيد ، فلما بلغ أنكحوه ، وقد توفيت أمه قبل ذلك ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما دعا لهما أن تبارك لهم في اللحم والماء ، قال لها هل من حب أو غيره من الطعام ؟ قالت : لا ، ولو وجد يومئذ لها حباً لدعا لها بالبركة فيه" . قال ابن عباس : ثم لبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فوجد إسماعيل قاعداً تحت دوحة إلى ناحية البئر يبري نبلاً له ، فسلم عليه ونزل إليه ، فقعد معه وقال : يا إسماعيل : إن الله قد أمرني بأمر ، قال إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك ، قال إبراهيم : أمرني أن أبني له بيتاً ، قال إسماعيل : ابن ، قال ابن عباس : فأشار له إبراهيم إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركيها . قال : فقاما يحفران عن القواعد يرفعانها ويقولان ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء ، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ إبراهيم يبني ، فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله ، قرب إليه إسماعيل هذا الحجر ، فجعل يقوم عليه ويبني ،ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى ، يقول ابن عباس : فذلك مقام إبراهيم وقيامه عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع" ، قال : أسكن إسماعيل وأمه مكة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : "إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع" قال : حين وضع إسماعيل .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : ربنا إني أسكنت بعض ولدي بواد غير ذي زرع ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم هنالك يومئذ ماء ، لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرمته على جميع خلقك أن يستحلوه .
وكان تحريمه إياه فيما ذكر كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في خطبته : إن هذا البيت أول من وليه أناس من طسم ، فعصوا ربهم واستحلوا حرمته ، واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله ، ثم وليهم أناس من جرهم فعصوا ربهم واستحلوا حرمته واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله ، ثم وليتموه ، معاشر قريش ، فلا تعصوا ربه ، ولا تستحلوا حرمته ، ولا تستخفوا بحقه ، فوالله لصلاة فيه أحب إلي من مئة صلاة بغيره ، واعلموا أن المعاصي فيه على نحو من ذلك . وقال "إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع" ، ولم يأت بما وقع عليه الفعل ، وذلك أن حظ الكلام أن يقال : إني أسكنت من ذريتي جماعة ، أو رجلاً ، أو قوماً ، وذلك غير جائز مع من لدلالتها على المراد من الكلام ، والعرب تفعل ذلك معها كثيراً ، فتقول : قتلنا من بني فلان ، وطعمنا من الكلأ ، وشربنا من الماء ، ومنه قول الله تعالى ( أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) .
فإن قال قائل : وكيف قال إبراهيم حين أسكن ابنه مكة "إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" ، وقد رويت في الأخبار التي ذكرتها أن إبراهيم بنى البيت بعد ذلك بمدة ؟ قيل :قد قيل في ذلك أقوال قد ذكرتها في سورة البقرة ، منها أن معناه : عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حين رفعته أيام الطوفان . ومنها عند بيتك المحرم الذي قد مضى في سابق علمك أنه يحدث في هذا البلد . وقوله : "المحرم" ، على ما قاله قتادة معناه : المحرم من استحلال حرمات الله فيه ، والاستخفاف بحقه . وقوله "ربنا ليقيموا الصلاة" ، يقول : فعلت ذلك يا ربنا كي تودى فرائضك من الصلاة التي أوجبتها عليهم في بيتك المحرم . وقوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، يخبر بذلك تعالى ذكره عن خليله إبراهيم أنه سأله في دعائه أن يجعل قلوب بعض خلقه تنزع إلى مساكن ذريته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم ، وذلك منه دعاء لهم بأن يرزقهم حج بيته الحرام .
كما حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : "أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، ولو قال : أفئدة الناس تهوي إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : أفئدة من الناس تهوي إليهم ، فهم المسلمون .
حدثنا محمد بن بشار ، قال :حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، قال : لو كانت أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولكنه أفئدة من الناس .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، قال : لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم ، لازدحمت عليهم فارس والروم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي ،يعني ابن الجعد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ،عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت عكرمة عن هذه الآية : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" فقال: قلوبهم تهوي إلى البيت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عكرمة و عطاء و طاوس : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا سعيد ، عن الحكم ، قال : سألت عطاء و طاوس و عكرمة ، عن قوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" قالوا : الحج .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة وعلي بن الجعد ، قالا : أخبرنا سعيد ، عن الحكم ، عن عطاء و طاوس و عكرمة في قوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، قال : هواهم إلى مكة أن يحجوا .
حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت طاوساً و عكرمة و عطاء بن أبي رباح ، عن قوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" فقالوا : اجعل هواهم الحج .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو كان إبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجة اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال "أفئدة من الناس تهوي إليهم" .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، قال : تنزع إليهم .
حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : إنما دعا لهم أن يهووا السكنى بمكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" ، قال : إن إبراهيم خليل الرحمن ، سأل الله أن يجعل أناساً من الناس يهوون سكنى أو سكن مكة .
وقوله : "وارزقهم من الثمرات" ، يقول تعالى ذكره : وارزقهم من ثمرات النبات والأشجار ما رزقت سكان الأرياف والقرى التي هي ذوات المياه والأنهار ، وإن كنت أسكنتهم وادياً غير ذي زرع ولا ماء ، فرزقهم جل ثناؤه ذلك .
كما حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم "وارزق أهله من الثمرات" ، نقل الله الطائف من فلسطين .
وقوله : "لعلهم يشكرون" ، يقول : ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم .
فيه ست مسائل:
الأولى: روى البخاري عن ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم أسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاه فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: ( رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) حتى بلغ ( يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف "، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معيناً قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله "، وذكر الحديث بطوله.
مسألة: لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة أتكالاً على العزيز الرحيم، واقتداءً بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث: " الله أمرك بهذا؟ قال: نعم ". وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفاً من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولى دعا بضمن هذه الآية.
الثانية: لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء.
وفي الصحيح .
أن أبا ذر رضي الله عنه أجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، وذكر الحديث.
وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تشتفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل ". وروي أيضاً عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي : وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذباً، ولا يشربه مجرباً، فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجلعت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبد الله بن عمرو: إن في زمزم عيناً في الجنة من قبل الركن.
الثالثة: قوله تعالى: " ومن ذريتي " ( من) في قوله تعالى: ( من ذريتي) كان قديماً على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة). وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل: محرم على الجبابرة، وإن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في ( المائدة).
الخامسة: قوله تعالى: " ربنا ليقيموا الصلاة " خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد الله عند العباد، قال صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد ". الحديث. واللام في ( ليقيموا الصلاة) لام كي، هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ ( ـأسكنت) ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة.
السادسة: تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها، لأن معنى ( ربنا ليقيموا الصلاة) أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ". قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة. قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة. وذكر عبد الله بن أحمد وقال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة.
قلت: - وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع الاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير، رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر، وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم، وروى عن شعبة و الثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبد الله بن عمرو، عن عبد الكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيما سواه ". وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي ، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ". قال أبو عمر: وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصبيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك ، ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها؟ قال: بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك، فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.
قوله تعالى: " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:
وإن فؤاداً قادني بصبابة إليك على طتول المدى لصبور
وقيل: جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفوداً من الناء تهوي إليهم، أي تنزع، يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية إذا عدت عدواً شديداً كأنها في هواء بئر، وقوله: " تهوي إليهم " مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: ( من الناس) فهم المسلمون، فقوله: ( تهوي إليهم) أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد ( تهوي إليهم) أي تهواهم وتجلهم. " وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: " فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زتوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ". قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وذكر الحديث. وقال ابن عباس: قول إبراهيم " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتاً محرماً، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله: وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كدا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبرهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فألفى) ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس) فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، الحديث.
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها, وذلك قبل بناء البيت, وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى الله عز وجل, ولهذا قال: " عند بيتك المحرم ". وقوله: "ربنا ليقيموا الصلاة" قال ابن جرير: هو متعلق بقوله " المحرم " أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم, ولكن قال: "من الناس" فاختص به المسلمون وقوله: "وارزقهم من الثمرات" أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك, وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثماراً يأكلونها, وقد استجاب الله ذلك كما قال: " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا " وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
ثم قال 37- "ربنا إني أسكنت من ذريتي" قال الفراء: من للتبعيض: أي بعض ذريتي. وقال ابن الأنباري: إنها زائدة: أي أسكنت ذريتي، والأول أولى، لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده "بواد غير ذي زرع" أي لا زرع فيه، وهو وادي مكة "عند بيتك المحرم" أي الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره، وقيل إنه محرم على الجبابرة، وقيل محرم من أن تنتهك حرمته، أو يستخف به. وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة، ثم قال: "ربنا ليقيموا الصلاة" اللام متعلقة بأسكنت: أي أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه، متوجهين إليه، متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعل تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم" الأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، عبر به عن جميع البدن، لأنه أشرف عضو فيه. وقيل هو جمع وفد والأصل أوفدة فقدمت الفاء، وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: وجعل وفوداً من الناس تهوي إليهم، و "من" في "من الناس" للتبعيض، وقيل زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه، وقيل "من" للابتداء كقولك: القلب مني سقيم، يريد قلبي، ومعنى تهوي إليهم: تنزع إليهم، يقال هوى نحوه: إذا مال، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية: إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى: تجيء إليهم أو تسرع إليهم، والمعنى متقارب " وارزقهم من الثمرات " أي أرزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه، أو تجلب إليه "لعلهم يشكرون" نعمك التي أنعمت بها عليهم.
قوله عز وجل: "ربنا إني أسكنت من ذريتي"، أدخل "من" للتبعيض، ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ولدا، "بواد غير ذي زرع"، وهو مكة، لأن مكة واد بين جبلين، "عند بيتك المحرم"، سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن أيوب السختياني وكثير بن أبي كثير بن المطلب بن أبي وداعه -يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام، وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندها جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا/ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه، فقال: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع"، حتى بلغ يشكرون.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلبط أو قال يتلوى، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما ".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه -تريد نفسها- ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم" أو قال: "لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا".
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان موضع البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه من ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا:نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ... ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة.
قوله تعالى: "ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس"، الأفئدة: جمع الفؤاد " تهوي إليهم "، تشتاق وتحن إليهم.
قال السدي: ومعناه أمل قلوبهم إلى هذا الموضع.
قال مجاهدك لو قال أفئدة الناس لنراحمتكم فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: "أفئدة من الناس" وهم المسلمون.
"وارزقهم من الثمرات"، ما رزقت سكان القرى ذوات الماء، "لعلهم يشكرون".
37."ربنا إني أسكنت من ذريتي "أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ."بواد غير ذي زرع"يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت."عند بيتك المحرم"الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظماً ممنعاً يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقاً أي اتق منه . ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه .روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيوراً فقالوا لا طير إلا على الماء فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا اشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت "ربنا ليقيموا الصلاة "اللام لام كي وهي متعلقة بـ"أسكنت"أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كمل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم .وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها. وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها."فاجعل أفئدة من الناس"أي أفئدة من افئدة الناس، و"من "للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى، أو بالابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس. وقرأ هشام أفيدة بخلف عنه بياء بعد الهمزة ,وقرئ آفدة وهو يحتمل أن يكون مقلوب أفئدة كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم وأفدة بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين بين ويجوز أن يكون من أفد"تهوي إليهم"تسرع إليهم شوقاً ووداداً وقرئ تهوى على البناء للمفعول أهوى إليه غيره وتهوى من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع. "وارزقهم من الثمرات"مع سكناهم وادياً لا نبات فيه."لعلهم يشكرون"بتلك النعمة، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.
37. Our Lord! Lo! I have settled some of my posterity in an uncultivable valley near unto Thy holy House, our Lord! that they may establish proper worship; so incline some hearts of men that they may yearn toward them, and provide Thou them with fruits in order that they may be thankful.
37 - O our Lord I have made some of my offspring to dwell in a valley without cultivation, by thy Sacred house; in order, O our Lord, that they may establish regular prayer: so fill the hearts to some among men with love towards them, and feed them with fruits: so that they may give thanks.