37 - (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) موجبات الحدود من عطف البعض على الكل (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) يتجاوزون
يقول تعالى ذكره : وما عند الله للذين آمنوا " والذين يجتنبون كبائر الإثم " ، وكبائر فواحش الإثم ، قد بينا اختلاف أهل التأويل فيها وبينا الصواب من القول عندنا فيها في سورة النساء ، فأغنى ذلك عن إعادتها ها هنا . " والفواحش " قيل : أنها الزنى .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " والفواحش " قال : الفواحش : الزنى .
واختلفت القراء في قراءة قوله : " كبائر الإثم " فقرأته عامة قراء المدينة على الإجماع كذلك في النجم ، وقرأته عامة قراء الكوفة < كبير الإثم > على التوحيد فيهما جميعاً . وكأن من قرأ ذلك كذلك عنى بكبير الإثم : الشرك ، كما كان الفراء يقول : كأني أستحب لمن قرأ كبائر الإثم أن يخفض الفواحش ، لتكون الكبائر مضافة إلى مجموع إذا كانت جمعاً ، وقال : ما سمعت أحداً من القراء خفض الفواحش .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منها علماء من القراء على تقارب معنييهما ، فأيتهما قرأ القاريء فمصيب .
وقوله : " إذا ما غضبوا هم يغفرون " يقول تعالى ذكره : وإذا ما غضبوا على من اجترم إليه جرمه ، هم يغفرون لمن أجرم ذنبه ، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه .
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " والذين يجتنبون " الذين في موضع جر معطوف على قوله " خير وأبقى للذين آمنوا " [ الشورى : 36 ] ، أي وهو للذين يجتنبون " كبائر الإثم " وقد مضى القول في الكبائر في (( النساء )) وقرأ حمزة و الكسائي (( كبير الإثم )) والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة ، كقوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " [ إبراهيم : 34 ] ، وكما جاء في الحديث : " منعت العراق درهمها وقفيزها "، الباقون بالجمع هنا وفي (( النجم )) ، " والفواحش " قال السدي : يعني الزنى ، وقال ابن عباس ، قال : كبير الإثم الشرك ، وقال قوم : كبائر الإثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها ، والفواحش داخلة في الكبائر ، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرح ، والزنى بالنسبة إلى المراودة ، وقيل : الفواحش والكبائر بمعنى واحد ، فكرر لتعدد اللفظ ، أي يجتنبون المعاصي لأنها كبائر وفواحش ، وقال مقاتل : الفواحش موجبات الحدود .
الثانية : قوله تعالى : " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " أي يتجاوزون ويحلمون عمن ظلمهم ، قيل : نزلت في عمر حين شتم بمكة ، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله كله وحين شتم فحلم ، وعن علي رضي الله عنه قال : اجتمع لأبي بكر مال مرة ، فتصدق به كله في سبيل الخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت " فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " إلى قوله " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " [ الشورى : 37 ] ، وقال ابن عباس : شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئاً ، فنزلت الآية ، وهذه من محاسن الأخلاق ، يشفقون على ظالمهم ويصفحون لمن جهل عليهم ، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه ، لقوله تعالى في آل عمران : " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " [ آل عمران : 134 ] ، وهو أن يتناولك الرجل فتكظم غيظك عنه ، وأنشد بعضهم :
إني عفوت لظالمي ظلمي ووهبت ذاك له على علمي
ما زال يظلمني وأرحمه حتى بكيت له من الظلم
يقول تعالى محقراً لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى: "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة "وما عند الله خير وأبقى" أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى: "للذين آمنوا" أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا "وعلى ربهم يتوكلون" أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم قال تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة: "ما له تربت جبينه" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا.
وقوله عز وجل: "والذين استجابوا لربهم" أي اتبغوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره "وأقاموا الصلاة" وهي أعظم العبادات لله عز جل "وأمرهم شورى بينهم" أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى: "وشاورهم في الأمر" الاية ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم "ومما رزقناهم ينفقون" وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله عز وجل: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم من عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غوث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتاً فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره و أمر هذا الرجل وعفا عنه وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليه السلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية ـ وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة ـ التي سمت الذراع يوم خيبر ـ فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ذلك ؟" قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك وإن لم تكن نبياً استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به, والأحاديث والاثار في هذا كثيرة جداً, والله سبحانه وتعالى أعلم.
37- "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" الموصول في محل جر معطوف على الذين آمنوا أو بدلاً منه أو في محل نصب بإضمار: أعني والأول: أولى، والمعنى: أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون. والمراد بكبائر الإثم: الكبائر من الذنوب، وقد قدمنا تحقيقها في سورة النساء. قرأ الجمهور "كبائر" بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي "كبير" بالإفراد وهو يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام. والفواحش هي من الكبائر ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها، وذلك كالقتل والزنا ونحو ذلك. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. وقال السدي: هي الزنا "وإذا ما غضبوا هم يغفرون" أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحملون على من ظلمهم، وخص الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة، فلا يغفر عند سورة الغصب إلا من شرح الله صدره وخصه بمزية الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران "والكاظمين الغيظ" قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفاً يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم، وصنفاً ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم.
37. " والذين يجتنبون كبائر الإثم "، قرأ حمزة و الكسائي : ((كبير الإثم)) على الواحد هاهنا، وفي سورة النجم، وقرأ الآخرون: ((كبائر)) بالجمع، وقد ذكرنا معنى الكبائر في سورة النساء " والفواحش "، قال السدي : يعني الزنا. وقال مجاهد و مقاتل : ما يوجب الحد. " وإذا ما غضبوا هم يغفرون "، يحلمون ويكظمون الغيظ ويتجاوزون.
37-" والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " " والذين " بما بعده عطف على " للذين آمنوا " أو مدح منصوب أو مرفوع ،وبناء " يغفرون " على ضميرهم خبراً للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال النصب ،وقرأ حمزة و الكسائي كبير الإثم .
37. And those who shun the worst of sins and indecencies and, when they are wroth, forgive,
37 - Those who avoid the greater crimes and shameful deeds, and, when they are angry even then forgive;