39 - (والذين كذبوا بآياتنا) القرآن (صم) عن سماعها سماع قبول (وبكم) عن النطق بالحق (في الظلمات) الكفر (من يشأ الله) إضلاله (يضلله ومن يشأ) هدايته (يجعله على صراط) طريق (مستقيم) دين الإسلام
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته ، "صم"، عن سماع الحق ،"بكم"، عن القيل به ، "في الظلمات"، يعني : في ظلمة الكفر حائراً فيها، يقول : هو مرتطم في ظلمات الكفر، لا يبصر آيات الله فيعتبر بها، ويعلم أن الذي خلقه وأنشاه فدبره وأحكم تدبيره ، وقدره أحسن تقدير، وأعطاه القوة، وصحح له آلة جسمه ، لم يخلقه عبثاً، ولم يتركه سدىً، ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه ، دون معصيته وما يسخطه . فهو لحيرته في ظلمات الكفر، وتردده في غمراتها ، غافل عما الله قد أثبت له في أم الكتاب ، وما هو به فاعل يوم يحشر إليه جمع سائر الأمم . ثم أخبر تعالى ذكره أنه المضل من يشاء إضلاله من خلقه عن الإيمان إلى الكفر، والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحب هدايته ، فموفقه بفضله وطوله للإيمان به ، وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه ، وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أم الكتاب السعادة، ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء، وأن بيده الخير كله ، وإليه الفضل كله ، له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "صم وبكم"، هذا مثل الكافر، أصم أبكم ، لا يبصر هدىً، ولا ينتفع به ، صم عن الحق في الظلمات ، لا يستطيع منها خروجاً، متسكع فيها.
قوله تعالى :" والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم" ابتداء وخبر ، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم ، فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون وقد تقدم في البقرة " في الظلمات " أي ظلمات الكفر، وقال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى صم وبكم في الآخرة فيكون حقيقة دون مجاز اللغة " من يشإ الله يضلله " دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ألا ترى أنه قال : " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله، وفيه إبطال لمذهب القدرية. والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه .
يقول تعالى مخبراً عن المشركين, أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه, أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون, ومما يتعنتون كقولهم "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً" الايات "قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي هو تعالى قادر على ذلك, ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك, لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا, لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة, كما قال تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " وقال تعالى: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين". وقوله "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة, وقال السدي "إلا أمم أمثالكم" أي خلق أمثالكم.
وقوله "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أي الجميع علمهم عند الله, ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره, سواء كان برياً أو بحرياً, كقوله "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها, وحاصر لحركاتها وسكناتها, وقال تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم" وقد قال الحافظ أبو يعلى, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد, حدثني محمد بن عيسى بن كيسان, حدثنا محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها, فسأل عنه فلم يخبر بشيء, فاغتم لذلك, فأرسل راكباً إلى كذا, وآخر إلى الشام, وآخر إلى العراق, يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا ؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد, فألقاها بين يديه, فلما رآها كبر ثلاثاً, ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله عز وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه". وقوله "ثم إلى ربهم يحشرون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله "ثم إلى ربهم يحشرون" قال: حشرها الموت, وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل, عن سعيد عن مسروق, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: موت البهائم حشرها, وكذا رواه العوفي عنه, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك مثله: (والقول الثاني) إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة, لقوله "وإذا الوحوش حشرت" وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سليمان, عن منذر الثوري, عن أشياخ لهم, عن أبي ذر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان, فقال "يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟" قال: لا, قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" ورواه عبد الرزاق, عن معمر, عن الأعمش, عمن ذكره, عن أبي ذر, قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ انتطحت عنزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون فيم انتطحتا ؟" قالوا: لا ندري, قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" رواه ابن جرير, ثم رواه من طريق منذر الثوري, عن أبي ذر, فذكره, وزاد: قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء, إلا ذكر لنا منه علماً, وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثني عباس بن محمد, وأبو يحيى البزار, قالا: حدثنا حجاج بن نصير, حدثنا شعبة, عن العوام بن مراجم من بني قيس بن ثعلبة, عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة, في قوله "إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون" قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة, البهائم والدواب والطير وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ, أن يأخذ للجماء من القرناء, ثم يقول كوني تراباً, فلذلك يقول الكافر "يا ليتني كنت تراباً" وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور.
وقوله "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات" أي مثلهم في جهلهم, وقلة علمهم, وعدم فهمهم. كمثل أصم, وهو الذي لا يسمع, أبكم وهو الذي لا يتكلم, وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر, فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق, أو يخرج مما هو فيه, كقوله "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون" وكما قال تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " ولهذا قال " من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء .
قوله: 39- "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم" أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق لعدم قبولهم لما ينبغي قبوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة. وقال أبو علي: يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة. قوله: "في الظلمات" أي في ظلمات الكفر والجهل والحيرة لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم. والمعنى: كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات وضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال وقد تقدم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة، ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "إلا أمم أمثالكم" قال: أصنافاً مصنفة تعرف بأسمائها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: قال: خلق أمثالكم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال: الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "ما فرطنا في الكتاب من شيء" يعني ما تركنا شيئاً إلا وقد كتبناه في أم الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ثم إلى ربهم يحشرون" قال: موت البهائم حشرها، وفي لفظ قال: يعني بالحشر الموت. وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: "ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة، ثم يقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: "يا ليتني كنت تراباً" وإن شئتم فاقرأوا "وما من دابة في الأرض" الآية". وأخرج ابن جرير عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟ قلت: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما". قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً. وأخرجه أيضاً أحمد، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
39- قوله عز وجل: " والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم "، لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به، " في الظلمات " ، في ضلالات الكفر، " من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم "، وهو الإسلام .
39 " والذين كذبوا بآياتنا صم " لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم . " وبكم " لا ينطقون بالحق . " في الظلمات " خير ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر ، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد ، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في الخبر " من يشإ الله يضلله " من يشأ الله إضلاله يضلله ، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة . " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه .
39. Those who deny our revelations are deaf and dumb in darkness. Whom Allah will He sendeth astray, and whom He will He placeth on a straight path.
39 - Those who reject our signs are deaf and dumb, in the midst of darkness profound: whom God willeth, he leaveth to wander: whom he willeth, he placeth on the way that is straight.