4 - (والذين يرمون المحصنات) العفيفات بالزنا (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) على زناهن برؤيتهم (فاجلدوهم) كل واحد منهم (ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة) في شيء (أبدا وأولئك هم الفاسقون) لإتيانهم كبيرة
يقول تعالى ذكره : والذين يشتمون العفائف من حرائر المسلمين ، فيرمونهن بالزنا ، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول ، يشهدون عليهن أنهن رأوهن يفعلن ذلك ، فاجلدوا الذين رموهن بذلك ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله ، وخرجوا من طاعته ، ففسقوا عنها .
وذكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب و إبراهيم بن سعيد ، قالا : ثنا ابن فضيل ، عن خصيف ، قال : قلت لسعيد بن جبير : الزنا أشد ، أو قذف المحصنة ؟ قال : لا ، بل الزنا ، قلت : إن الله يقول " والذين يرمون المحصنات " قال : إنما هذا في حديث عائشة خاصة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " ... الآية في نساء المسلمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وأولئك هم الفاسقون " قال : الكاذبون .
فيه ست وعشرون مسألة:
الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاماً لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر : لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنىً به، دالاً على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية: قوله تعالى: " والذين يرمون " يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذابة بالقول، كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني
ويسمى قذفاً، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء، أي رماها.
الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: " والمحصنات من النساء " [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج، كما قال تعالى: " والتي أحصنت فرجها " [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته، والله أعلم. وقرأ الجمهور " المحصنات " بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في ((النساء)) ذكر الإحصان ومراتبه والحمد لله.
الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ، لأنهما أصلا التكليف، إذا التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف، وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفاً من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ، إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفاً ورمياً موجباً للحد، فإن عرض ولم يصرح فقال مالك : هو قذف. وقال الشافعي و أبو حينفة : لا يكون قذفاً حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً كالتصريح والمعول على الفهم، وقد قال تعالى مخبراً عن شعيب: " إنك لأنت الحليم الرشيد " [هود: 87] أي السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في هود. وقال تعالى في أبي جهل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " [الدخان: 49]. وقال حكاية عن مريم: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " [مريم: 28]، فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى: " قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " [سبأ: 24]، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدىً، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة، ومثله كثير.
السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلاً من أهل الكتاب أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب و ابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحداً ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك خلافاً.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حراً يجلد أربعين، لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين. وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حراً ثمانين، وبه قال الأوزاعي . احتج الجمهور بقول الله تعالى: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " [النساء: 25] وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر في الزنى. قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه، لتباين مرتبتهما، ولقوله عليه السلام:
" من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " خرجه البخاري و مسلم . وفي بعض طرقه: " من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون " ذكره الدارقطني . قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير، حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك و الشافعي : من قذف من يحسبه عبداً فإذا هو حر فعليه الحد، وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر . قال مالك : ومن قذف أم الولد حد، وروي عن ابن عمر، وهو قياس قول الشافعي . وقال الحسن البصري: لا حد عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطىء بين الفخذين، فقال ابن القاسم: عليه الحد، لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه، لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنىً إجماعاً.
الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفاً عن مالك . وقال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور : ليس بقذف، لأنه ليس بزنىً إذ لا حد عليها، ويعزر. قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك غلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشراً ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاماً يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعاً مثل ذلك. قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ، لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادقةً رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضاً إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد، ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلاً بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلاً وادعى شبهة درىء عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضاً أن رجلاً لو قذف رجلاً بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده، لأنه لا يدري لعله يصدقه، ألا ترى أن علياً عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه، ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك، وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين، وسيأتي. قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله: ((غيرى نغرة)) فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها، يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت وتنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلاناً يتنغر على فلان، أي يغلي جوفه عليه غيظاً.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين، قاله مسروق . قاله ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد، لعموم قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن، لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص. والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى، رحمةً بعبادة وستراً لهم. وقد تقدم في سورة النساء.
الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله: أن يكون ذلك في مجلس واحد، فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد، وبه قال ابن الحسن. ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل، وهو قول عثمان البتي و أبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " وقوله: " فإذ لم يأتوا بالشهداء " ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا، فكان الحسن البصري و الشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود، وبه قال أحمد والنعمان و محمد بن الحسن . وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطاً عليه أو عبداً يجلدون جميعاً. وقال سفيان الثوري و أحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة و حماد وعكرمة وأبو هاشم و مالك و أحمد وأصحاب الرأي. وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل، وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الأدميين أو فيه شائبة منهما، الأول: قول أبي حنيفة . والثاني: قول مالك و الشافعي . والثالث: قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقاً لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيها الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقاً للآدمي فلا يقيمة الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: " بأربعة شهداء " قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير " بأربعة " (بالتنوين) " شهداء ". وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلاً. ويجوز أن يكون حالاً من نكرة أو تمييزاً، وفي الحال والتمييز نظر، إذا الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس : ويجوز أن يكون " شهداء " في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة، على ما تقدم في ((النساء)) في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد، على قول مالك . وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة، كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين: قوله تعالى: " فاجلدوهم " الجلد الضرب. والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف محراق لاعب
" ثمانين " نصب على المصدر. " جلدة " تمييز. " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
هذه الاية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة, هي الحرة البالغة العفيفة, فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً, وليس في هذا نزاع بين العلماء, فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد, ولهذا قال تعالى: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون" فأوجب على القاذف, إذا لم يقم البينة على صحة ما قال, ثلاثة أحكام: (أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة. (الثاني) أنه ترد شهادته أبداً. (الثالث) أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.
ثم قال تعالى: "إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" الاية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء. هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب, أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ أما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف, فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته, وارتفع عنه حكم الفسق, ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين, وجماعة من السلف أيضاً. وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط, فيرتفع الفسق بالتوبة, ويبقى مردود الشهادة أبداً, وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد بن جابر . وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان, فحينئذ تقبل شهادته, والله أعلم.
4- قوله: "والذين يرمون" استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر:
رماني بأمر كنت عنه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهن بالذكر لأن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى: "والمحصنات من النساء" فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى، وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال: "والتي أحصنت فرجها" فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب والمراد بالمحصنات هنا العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرد رأي بحت. قرأ الجمهور "والمحصنات" بفتح الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: إنه يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً أن العبد يجلد أربعين جلدة. وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة: يجلد ثمانين. قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال. ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن، ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد القذف. وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم. قرأ الجمهور "بأربعة شهداء" بإضافة أربعة إلى شهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة.
وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة، فقيل هو تمييز. ورد بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرر في علم النحو. وقيل إنه في محل نصب على الحال. ورد بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص. وقيل إن شهداء في محل جر نعتاً لأربعة، ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف. وقال النحاس: يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية: أي ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وقد قوى ابن جني هذه القراءة، ويدفع ذلك قوله سيبويه إن تنوين العدد وترك إضافة إنما يجوز في الشعر. ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال: "فاجلدوهم ثمانين جلدة" الجلد الضرب كما تقدم، والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما، ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقد تقدم بيان الجلد قريباً، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة منتصبة على التمييز، وجملة "ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" معطوفة على اجلدوا: أي فاجمعوا لهم بين الأمرين: الجلد، وترك قبول الشهادة، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها، ومعنى "أبداً": ما داموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال: "وأولئك هم الفاسقون" وهذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية، وجوز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال. ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة.
قوله عز وجل: 4- "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة"، أراد بالرمي القذف بالزنا، وكل من رمى محصناً أو محصنة بالزنا، فقال له: زنيت أو يا زاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة، إن كان حراً، وإن كان عبداً فيجلد أربعين، وإن كان المقذوف غير محصن، فعلى القاذف التعزير.
وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنى، حتى أن من زنى مرة في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف فلا حد عليه. فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف، لأن الحد الذي وجب عليه حد الفرية وقد ثبت صدقه.
وقوله: "والذين يرمون المحصنات"، أي: يقذفون بالزنا المحصنات، يعني المسلمات الحرائر العفائف "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" يشهدون على زناهن "فاجلدوهم ثمانين جلدة"، أي: اضربوهم ثمانين جلدة. "ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون".
4 -" والذين يرمون المحصنات " يقذفوهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإحصان ، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله : " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " والقذف بغيره مل يا فاعل ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن ، والإحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى ، وتخصيص " المحصنات " لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافاً لأبي حنيفة ، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده . " ولا تقبلوا لهم شهادةً " أي شهادة كانت لأنه مفتر ، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافاً لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جواباً للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة ، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده . " أبداً " ما لم يتب ، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره . " وأولئك هم الفاسقون " المحكوم بفسقهم .
4. And those who accuse honorable women but bring not four witnesses, scourge them (with) eighty stripes and never (afterward) accept their testimony. They indeed are evildoers.
4 - And those who launch a charge against chaste women, and produce not four witnesses (to support their allegations), flog them with eighty stripes; and reject their evidence ever after: for such men are wicked transgressors;