(وآمنوا بما أنزلت) من القرآن (مصدقا لما معكم) من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوة (ولا تكونوا أول كافر به) من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم (ولا تشتروا) تستبدلوا (بآياتي) التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم (ثمنا قليلا) عرضا يسيرا من الدنيا أي لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سلفتكم (وإياي فاتقون) خافون في ذلك دون غيري
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "آمنوا"، صدقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. ويعني بقوله "بما أنزلت"، ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله: "مصدقا لما معكم "، أن القرآن مصدق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظير الذي من ذلك في التوراة والإنجيل. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد تصديق منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة. وقوله: "مصدقا"، قطع من الهاء المتروكة في أنزلته من ذكر ما. ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:
حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم"، يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم"، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
القول في تأويل قوله تعالى: " ولا تكونوا أول كافر به ".
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قيل:"ولا تكونوا أول كافر به"، والخطاب فيه لجميع، وقوله: "كافر" واحد؟ وهل نجيز إن كان ذلك جائزًا أن يقول قائل: ولا تكونوا أول رجل قام؟
قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له أفعل وهو خبر لجميع، إذا كان اسمًا مشتقًا من فعل ويفعل، لأنه يؤدي عن المراد معه المحذوف من الكلام وهو من، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه من من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أول من يكفر به. فـ من بمعنى جميع، وهو غير متصرف تصرف الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسم المشتق من فعل ويفعل مقامه، جرى وهو موحد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه من من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: الجيش منهزم، والجند مقبل، فتوحد الفعل لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال: الجيش رجل، والجند غلام، حتى تقول: الجند غلمان والجيش رجال. لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من فعل ويفعل، لا يؤدي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
فوحد مرة على ما وصفت من نية من، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من فعل ويفعل مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء المخبر عنهم، ولو وحد حيث جمع، أو جمع حيث وحد، كان صوابًا جائزًا.
وأما تأويل ذلك، فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدقوا بما أنزلت على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدق كتابكم والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيي المبعوث بالحق، ولا تكونوا أول أمتكم كذب به وجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرهم به: جحودهم أنه من عند الله. والهاء التي في به من ذكر ما التي مع قوله "وآمنوا بما أنزلت". كما:
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، في قوله: "ولا تكونوا أول كافر به"، بالقرآن.
قال أبو جعفر: وروي عن أبي العالية في ذلك، ما:
حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ولا تكونوا أول كافر به"، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: "ولا تكونوا أول كافر به "، يعني: بكتابكم. ويتأول أن في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدل عليه التلاوة بعيدان. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ". ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسول مرسل، لا تنزيل منزل، والمنزل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أول من يكفر بالذي أمرهم بالايمان به في أول الآية. ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكر ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًا في قوله:"ولا تكونوا أول كافر به " وإن كان غير محال في الكلام أن يذكر مكني اسم لم يجر له ذكر ظاهر في الكلام.
وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في به على ما التي في قوله "لما معكم". لأن ذلك، وإن كان محتملاً ظاهر الكلام، فإنه بعيد مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالايمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهي عن الكفر به في آخرها هو القرآن. وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غير المنهي عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بعد معناه في التأويل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به "، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره:" ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا"، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم، علم مجانًا كما علمت مجانًا.
وقال آخرون بما:
حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا"، يقول: لا تأخذوا طمعًا قليلاً وتكتموا اسم الله، وذلك الثمن هو الطمع.
فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل. وبيعهم إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجر ممن بينوا له ذلك على ما بينوا له منه.
وإنما قلنا بمعنى ذلك ( لا تبيعوا)، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائع الآيات بالثمن، فكل واحد من الثمن والمثمن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية: بينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهي عن شراء الثمن القليل بآياته.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "وإياي فاتقون".
قال أبو جعفر: يقول: فاتقون في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العرض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيي أن احل بكم ما أحللت بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المثلات والنقمات.
قوله تعالى : "وآمنوا بما أنزلت" أي صدقوا ، يعني بالقرآن . "مصدقا" حال من الضمير في أنزلت ، التقدير بما أنزلته مصدقاً ، والعامل فيه أنزلت . ويجوز أن يكون حالاً من ما ، والعامل فيه آمنوا ، التقدير آمنوا بالقرآن مصدقاً . ويجوز أن تكون مصدرية ، التقدير : آمنوا بإنزال . "لما معكم" يعني من التوارة .
قوله تعالى : "ولا تكونوا أول كافر به" الضمير في به قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قاله أبو العالية : وقال ابن جريج : هو عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله : "بما أنزلت" وقيل : على التوارة ، إذ تضمنها قوله : لما معكم .
فإن قيل : كيف قال : كافر ولم يقل كافرين ، قيل : التقدير ولا تكونا أول فريق كافر به . وزعم الأخفش و الفراء أنه محمول على معنى الفعل ، لأن المعنى أول من كفر به . وحكى سيبويه : هو أظرف الفتيان وأجمله ، وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتىً وأجمله . وقال : "أول كافر به" وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش ، فإنما معناه من أهل الكتاب ، إذ هم منظور اليهم في مثل هذا ، لأنهم حجة مظنون بهم علم و أول عند سيبويه نصب على خبر كان . وهو مما لم ينطق منه بفعل ، وهو على أفعل ، عينه وفاؤه واو . وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين : العين والفاء ، وهذا مذهب البصرييين . وقال الكوفيون : هو من وأل إذا نجا ، فاصله أوأل ، ثم خففت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت فقيل أول ، كما تخفف همزة خطيئة . قال الجوهري : والجمع الأوائل والأوالي أيضاً على القلب . وقال قوم : أصله وول على فوعل ، فقلبت الواو الأولى همزة . وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع . وقيل : هو أفعل من آل يؤول ، فأصله أأول ، قلب فجاء أعفل مقلوباً من أفعل ، فسهل وأبدل وأدغم .
مسألة : لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب ، وهم الكوفيون ومن وافقهم ، لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولاً وآخراً ، وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحداً ، وهذا واضح .
قوله تعالى : "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "ولا تشتروا" معطوف على قوله : "ولا تكونوا" . نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمناً ، أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى . وكان الأخبار يفعلون ذلك فنهوا عنه ، قاله قوم من أهل التأويل ، منهم الحسن وغيره . وقيل : كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب ، فنهوا عن ذلك . وقيل : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك . وفي كتبهم : يابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً ، أي باطلاً بغير أجرة ، قاله أبو العالية . وقيل : المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمناً قليلاً ، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له ، فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمناً ، لأنهم جعلوه عوضاً ، فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمناً . وقد تقدم هذا المعنى . وقال الشاعر :
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به فما اصبت بترك الحج من ثمن
قلت : وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم . فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله ، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه ، أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجراً فقد دخل في مقتضى الآية . والله أعلم . وقد روى ابو داود عن ابي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها .
الثانية : وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ـ لهذه الآية وما كان في معناها ـ ، فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص ، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام . وقد قال تعالى : "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" . وروى ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم : معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين " .
"قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين ؟ قال : درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء" . و" روى عبادة بن الصامت قال : علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إلي رجل منهم قوساً ، فقلت : ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله ، فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها" . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك و الشافعي و أحمد و أبو ثور وأكثر العلماء ، لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس ـ حديث الرقية ـ :
"إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" . اخرجه البخاري ، وهو نص يرفع الخلاف ، فينبغي أن يعول عليه .
وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد ، لأنه في مقابلة النص ، ثم إن بينهما فرقاناً ، وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم ، فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن . قال ابن المنذر : و أبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحاً أو شعراً أو غناء معلوماً بأجر معلوم ، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة .
وأما لاجواب عن الآية ـ فالمراد بها بنو إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا ، فيه خلاف ، وهو لا يقول به .
جواب ثان : وهو ان تكون الآية فيمن تعين التعلم فأبى حتى يأخذ عليه أجراً . فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك ، وقد يتعين عليه إلا أن ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته . ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته ، وإلا فعلى المسلمين ، لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده عما يقيم به أهله ، فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق ، فقيل له في ذلك ، فقال: ومن أين أنفق على عيالي ! فردوه وفرضوا له كفايته . وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ، ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل . أما حديث ابن عباس فرواه سعد بن طريف عن عكرمة عنه ، وسعد متروك . وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن ابي جرهم عنه ، وأبو جرهم مجهول لا يعرف ، ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له ابو جرهم ، وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضاً ، وهو حديث لا اصل له . وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه ، والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير ، هذا منها ، قاله ابو عمر . ثم قال : وأما حديث القوس فمعروف عند اهل العلم ، لأنه روي عن عبادة من وجهين ، وروي عن ابي بن كعب من حدبث موسى بن علي عن ابيه عن أبي ، وهو منقطع . وليس في الباب حديث يجب العلم به من جهة النقل ، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل ، لأنه جائز أن يكون علمه الله ثم أخذ عليه أجراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي : قل : بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي : بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار" .
الثالثة : واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة ، فروى أشهب عن مالك أن سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس ، فال : أرجو ألا يكون به بأس ، وهو اشد كراهة له في الفريضة . وقال الشافعي واصحابه و أبو ثور : لا باس بذلك ولا بالصلاة خلفه . وقال الأوزاعي : لا صلاة له . وكرهه أبو حنيفة واصحابه ، على ما تقدم . قال ابن عبد البر : وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلها واحد .
قلت : ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في براءة إن شاء الله تعالى . وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو . وقال ابن حبيب : لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ، ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء . قال أبو الحسن اللخمي : ويلزم على قوله ان يجيز الإجارة على كتبه ويجيز بيع كتبه . وأما الغناء والنوح فممنوع علىكل حال .
الرابعة : روى الدارمي أبو محمد في مسنده اخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال حدثنا علي بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال : مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة ـ وهو يريد مكة ـ فأقام بها أياماً ، فقال : هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا له : ابو حازم ، فأرسل إليه ، فلما دخل عليه قال له : يا ابا حازم ما هذا الجفاء ؟ قال أبو حازم : يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني ؟ قال : أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني ! قال : يا امير المؤمنين أعيذك بالله إن تقول ما لم يكن ، ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك ! قال : فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب الزهري فقال : أصاب الشيخ واخطأت . قال سليمان : يا أبا حازم ، ما لنا نكره الموت ؟ قال : لأنكم أخربتم الآخرىة وعمرتم الدنيا فكرهتم ان تنتلقوا من العمران إلى الخراب ، قال : اصبت يا أبا حازم ، فكيف القدوم غداً على الله تعالى ؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه . فبكى سليمان وقال : ليت شعري !ما لنا عند الله .؟ قال : اعرض عملك على كتاب الله . قال : واي مكان أجده ؟ قال : "إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم" . قال سليمان : فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟ قال أبو حازم : رحمة الله قريب من المحسنين . قال له سليمان : يا أبا حازم ، فأي عباد الله أكرم ؟ قال : أولو المروءة والنهى . قال له سلمان : فأي الأعمال أفضل ؟ قال أبو حازم : أداء الفرائض مع اجتناب المحارم . قال سليمان : فأي الدعاء أسمع ؟ قال : دعاء المحسن إليه للمحسن . فقال : أي الصدقة افضل ؟ قال : للسائل البائس ، وجهد المقل ، ليس فيها من ولا أذى . قال : فأي القول أعدل ؟ قال : قول الحق عند من تخافه أو ترجوه . قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال : رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها . قال : فأي المؤمنين أحمق ؟ قال : رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم ، فباع آخرته بدنيا غيره . قال له سليمان : اصبت ، فما تقول فيما نحن فيه ؟ قال : يا امير المؤمنين ، أو تعفيني قال له سليمان : لا . ولكن نصيحة تلقيها إلي ، قال يا امير المؤمنين : إن آباءك قهروا الناس بالسيف ، وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم ، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة ، فقد ارتحلوا عنها ، فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم ! . فقال له رجل من جلساته : بئس ما قلت يا ابا حازم ! قال أبو حازم : كذبت ، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه . قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح ؟ قال : تدعون التصلف وتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية . قال له سليمان . فكيف لنا بالمأخذ به ؟ قال أبو حازم : تأخذه من حله وتضعه في أهله . قال له سليمان : هل لك يا ابا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك ؟ قال : أعوذ بالله ! قال له سليمان : ولم ذاك ؟ قال : أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات . قال له سليمان : ارفع الينا حوائجك . قال : تنجيني من النار وتدخلني الجنة . قال له سليمان : ليس ذاك إلي ! قال له أبو حازم : فمالي إليك حاجة غيرها . قال فادع إلي . قال أبو حازم : اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة ، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى . قال له سليمان : قط ! قال ابو حازم : قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله ، وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر . قال له سليمان : أوصني ، قال : سأوصيك وأوجز : عظم ربك ، ونزهه أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك . فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار ، وكتب إليه أن انفقها ولك عندي مثلها كثير . قال : فردها عليه وكتب إليه : يا أمير المؤمنين ، أعيذك بالله ان يكون سؤالك إياي هزلاً أو ردي عليك بذلاً ، وما ارضاها لك ، فكيف أرضاها لنفسي ! إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ، ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسألهما ، فقالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء ، وأبونا شيخ كبير ، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير . وذلك أنه كان جائعاً خائفاً لا يأمن ، فسأل ربه ولم يسأل الناس . فلم يفطن الرعاء ، وفطنت الجاريتان . فلما رجعتا إلى ابيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله . فقال ابوهما وهو شعيب عليه السلام : هذا رجل جائع . فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه . فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت : "إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" فشق على موسى حين ذكرت "أجر ما سقيت لنا" ولم يجد بداً من أن يتبعها ، لأنه كان بين الجبال جائعاً مستوحشاً . فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها ـ وكانت ذات عجز ـ وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى ، فلما عيل صبره ناداها : يا أمة الله كوني خلفي ، وأريني السمت بقولك . فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ ، فقال له شعيب : اجلس يا شاب فتعش ، فقال له موسى عليه السلام : أعوذ بالله ! فقال له شعيب : لم ! أما أنت جائع ؟ قال : بلى ، ولكني أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً . فقال له شعيب : لا يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي : نقري الضيف ونطعم الطعام ، فجلس موسى فأكل . فإن كانت هذه المائة دينار عوضاً لما حدثت فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه ، وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء ، فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة .
قلت : هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء . انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضاً ، ولا على وصيته بدلاً ، ولا على نصيحته صفداً ، بل بين الحق وصدع ، ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان" . وفي التنزيل : "يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" .
قوله تعالى : "وإياي فاتقون" قد تقدم معنى التقوى . وقرىء فاتقوني بالياء ، وقد تقدم . وقال سهل بن عبد الله : قوله : "وإياي فاتقون" قال : وضع علمي السابق فيكم . "وإياي فارهبون" قال : موضع المكر والاستدراج ، لقول الله تعالى : "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" ، وقوله : "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" . فما استثنى نبياً ولا صديقاً .
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم اطلب العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً" فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: "حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون، وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب، قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم "يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" يعني في زمانهم، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الاصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" الاية وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو العالية "وأوفوا بعهدي" قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم ؟ قال: أرض عنكم وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس، وقوله تعالى "وإياي فارهبون" أي فاخشون، قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى "وإياي فارهبون" أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم" يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم" يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقوله: "ولا تكونوا أول كافر به" قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك، قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله "بما أنزلت" وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله "أول كافر به" فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير ، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم، وقوله تعالى: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبدالرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن، يعني البصري عن قوله تعالى، ثمناً قليلاً قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها قال: ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها، وقال السدي: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علم مجاناً علمت مجاناً، وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود، وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر ، على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم. وقوله "وإياي فاتقون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومعنى قول "وإياي فاتقون" أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وسقطت الياء من قوله: "فارهبون" لأنهارأس آية 41- "ومصدقاً" حال من "ما" في قوله: "ما أنزلت" أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي أنزلته. وقوله: "أول كافر به" إنما جاء به مفرداً، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج. وقال الأخفش والفراء: إنه محمول على معنى الفعل، لأن المعنى أول من كفر. وقد يكون من باب قولهم هو أظرف الفتيان وأجمله كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع، وإنما قال "أول" مع أنه قد تقدمهم إلى الكفر به كفار قريش، لأن المراد أول كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في "به" عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أي لا تكونوا أول كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، مبشراً به في الكتب المنزلة عليكم. وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة، وقيل: إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: "بما أنزلت" وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: "لما معكم" وقوله: "ولا تشتروا بآياتي" أي بأوامري ونواهي "ثمناً قليلاً" أي عيشاً نزراً ورئاسة لا خطر لها. جعل ما اعتاضوهثمناً، وأوقع الاشتراء عليه وإن كان الثمن هو المشتري به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال: أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم. وقد قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: "اشتروا الضلالة بالهدى"، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر:
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
وهذه الآية وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل ونهياً لهم فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علمه الله وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً. وقوله: "وإياي فاتقون" الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: "وإياي فارهبون" وقد تقدم قريباً.
41. " وآمنوا بما أنزلت " يعني القرآن " مصدقاً لما معكم " أي موافقاً لما معكم يعني: التوراة، في التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم " ولا تكونوا أول كافر به " أي بالقرآن يريد من أهل الكتاب، لأن قريشاً كفرت قبل اليهود بمكة، معناه: ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك فتبوؤا بآثامكم وآثامهم " ثمناً قليلاً " أي عرضاً يسيراً من الدنيا وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل عام شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة " وإياي فاتقون " فاخشوني.
41-" وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم " إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود ، وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها ، أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش ، وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها ، مراعى فيها صلاح من خوطب بها ، حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " ، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به ، بل يوجبه ولذلك عرض بقوله :
" ولا تكونوا أول كافر به " بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به ، ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه . و " أول كافر به " وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير : أول فريق أو فوج ، أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به ، كقولك كسانا حلة فإن قيل كيف نهرا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب ؟ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل أو لا تكونوا أول كافر به . من أهل الكتاب ، أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه ، أو مثل من كفر من مشركي مكة . و " أول " : أفعل لا فعل له ، وقيل : أصله أو أل من وأل ، فأبدلت همزته واواً تخفيفاً غير قياسي أو أأول من آل فقلبت همزته واواً وأدغمت .
" ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً " ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا ، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان . قيل : كان لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم ، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها عليه . وقيل : كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه .
" وإياي فاتقون " بالإيمان واتباع الحق والأعراض عن الدنيا . ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية ، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى ، ولأن الخطاب بها عم العالم المقلد . أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم ، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه .
41. And believe in that which I reveal, confirming that which ye possess already (of the Scripture), and be not first to disbelieve therein, and part not with My revelations for a trifling price, and keep your duty unto Me.
41 - And believe in what i reveal, confirming the revelation which is with you, and be not the first to reject faith therein, nor sell my signs for a small price; and fear me, and me alone.