(أتأمرون الناس بالبر) بالإيمان بمحمد (وتنسون أنفسكم) تتركونها فلا تأمرونها به (وأنتم تتلون الكتاب) التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل (أفلا تعقلون) سوءَ فعلِكم فترجعون ، فجملة النسيان محل الاستفهام الإنكاري
قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر أخرج الواحدي والثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين أثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل فإن أمره حق وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برًا، فروي عن ابن عباس ما:
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"، أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: "أتأمرون الناس بالبر"، يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم.
وقال اخرون بما:
حدثني به موسى بن هرون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"، قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وهم يعصونه.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"، قال: كان بنو اسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيرهم الله.
وحدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الحجاج، قال: قال ابن جريج: "أتأمرون الناس بالبر"، أهل الكتاب والمنافقون، كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك. فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال آخرون بما:
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هؤلاء اليهود، كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال الله لهم:"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
وحدثني علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا مخلد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، في قول الله:"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب"، قال قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.
قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله، متقارب المعنى. لأنهم وإن اختلفوا في صفة البر الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضًا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.
فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذًا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحًا لهم قبيح ما أتوا به.
ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع، نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه "نسوا الله فنسيهم" (التوبة: 67) بمعنى: تركوا طاعة الله، فتركهم الله من ثوابه.
القول في تأويل قوله تعالى: "وأنتم تتلون الكتاب".
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"تتلون"، تدرسون وتقرأون. كما:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، "وأنتم تتلون الكتاب"، يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بـ الكتاب ،التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى: "أفلا تعقلون".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "أفلا تعقلون "، أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها، وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه؟ كما:
حدثنا به محمد بن العلاء قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "أفلا تعقلون"، يقول: أفلا تفهمون؟ ينهاهم عن هذا الخلق القبيح.
قال أبو جعفر: هذا يدل على صحة ما قلنا، من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا كما ذكر قبل.
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "أتأمرون الناس بالبر" هذا استفهام معناه التوبيخ ، والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود . قال ابن عباس : كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين : أثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل ـ يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم ـ فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه . وعن ابن عباس أيضاً : كان الأحبار يأمرون مقلديهم واتباعهم باتباع التوراة ، وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جريج : كان الأحبار يحضون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون . والمعنى متقارب . وقال بعض أهل الإشارات : المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها ! .
الثانية : في شدة عذاب من هذه صفته ، روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاهم بمقاريض من نار ، فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" . وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم ؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا" .
قلت : وهذا الحديث وإن كان فيه لبن ، ـ لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الإمام أحمد يستضعفه ، وكذلك ابن معين . يرويه عن ابي غالب عن ابي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ، وأبو غالب هو ـ فيما حكى يحيى بن معين ـ حزور القرشي مولى خالد بن عبد الله بن أسيد . وقيل : مولى باهلة . وقيل : مولى عبد الرحمن الحضرمي . كان يختلف إلى الشام في تجارته . قال يحيى بن معين : هو صالح الحديث ـ فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه" .
القصب ( بضم القاف ) : المعنى ، وجمعه أقصاب . والأقتاب : الأمعاء ، واحدها قتب . ومعنى فتندلق : فتخرج بسرعة . وروينا فتنفلق .
قلت : فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالماً بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه ، وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ، ومستخف بأحكامه ، وهو ممن لا ينتفع بعلمه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" . أخرجه ابن ماجة في سننه .
الثالثة : اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ،ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها ، وبخهم به توبيخاً يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال : "أتأمرون الناس بالبر" الاية . وقال منصور الفقيه فأحسن :
إن قوما يأمرونا بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك سطع
وقال ابو الأسود الدؤلي :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم
وقال أبو عمرو بن مطر : حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير ، فسكت حتى طال سكوته ، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس : ترى أن تقول في سكوتك شيئاً ؟ فأنشأ يقول :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض
قال : فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج .
الرابعة : قال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات ، قوله تعالى : "أتأمرون الناس بالبر" الآية ، وقوله : "لم تقولون ما لا تفعلون" ، وقوله : "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" . وقال سلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على من ترى يناله الأبيض والأسود
وقال الحسن لمطرف بن عبدالله : عظ أصحابك ، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله ! وأينا يفعل ما يقول ! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا ، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر . وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر بمعروف ولا نهى عن منكر . قال مالك : وصدق ، من ذا الذي ليس فيه شيء ! .
الخامسة : قوله تعالى : "بالبر" البر هنا الطاعة والعمل الصالح . والبر : الصدق . والبر : ولد الثعلب . والبر: سوق الغنم ، ومنه قولهم : لا يعرف هراً من بر أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها . فهو مشترك ، وقال الشاعر :
لا هم رب إن بكرا دونكا يبرك الناس ويفجرونكا
أراد بقوله يبرك الناس : أي يطيعونك . ويقال : إن البر الفؤاد في قوله :
أكون مكان البر منه ودونه وأجعل ما لي دونه وأوامره
والبر ( بضم الباء ) معروف ، و ( بفتحها ) الإجلال والتعظيم ، ومنه ولد بر و بار ، أي يعظم والديه ويكرمهما .
السادسة : قوله تعالى : "وتنسون أنفسكم" أي تتركون . والنسيان ( بكسر النون ) يكون بمعنى الترك ، وهو المراد هنا ، وفي قوله تعالى : "نسوا الله فنسيهم" ، وقوله : "فلما نسوا ما ذكروا به" ، وقوله "ولا تنسوا الفضل بينكم" . ويكون خلاف الذكر والحفظ ، ومنه الحديث :
"نسي آدم فنسيت ذريته" . وسيأتي . يقال : رجل نسيان ( بفتح النون ) كثير النسيان لشيء . وقد نسيت الشيء نسياناً ، ولا تقل نسياناً ( بالتحريك ) ، لأن النسيان إنما هو تثنية نسا العرق . وأنفس : جمع نفس ، جمع قلة . والنفس : الروح ، يقال : خرجت نفسه ، قال أبو خراش :
نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي بجفن سيف ومئزر . ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى : "الله يتوفى الأنفس حين موتها" يريد الأرواح ، في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي . وذلك بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب .
"أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك" وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم :
"إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا" . رواهما مالك ، وهو أولى ما يقال به . والنفس أيضاً الدم ، يقال : سالت نفسه ، قال الشاعر :
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
وقال إبراهيم النخعي : ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه . والنفس أيضاً الجسد ، قال الشاعر :
نبئت أن بني سحيم أدخلوا ابياتهم تامور نفس المنذر
والتامور أيضاً : الدم :
السابعة : قوله تعالى : "وأنتم تتلون الكتاب" توبيخ عظيم لمن فهم . و "تتلون" . تقرأون . الكتاب : التوارة . وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم . وأصل التلاوة الاتباع ، ولذلك استعمل في القراءة ، لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه ، يقال : تلوته إذا تبعته تلواً ، وتلوت القرآن تلاوة . وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته . والتلية والتلاوة ( بضم التاء ) : البقية ، يقال : تليت لي من حقي تلاوة وتلية ، أي بقيت . وأتليت : ابقيت . وتتليت حقي إذا تتبعته حتى استوفيه . قال أبو زيد : تلى الرجل إذا كان بآخر رمق .
الثامنة : قوله تعالى : "أفلا تعقلون" أي افلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم . والعقل : المنع ، ومنه عقال البعير ، لأنه يمنع عن الحركة . ومنه العقل للدية ، لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني . ومنه اعتقال البطن واللسان . ومنه يقال للمحصن : معقل . والعقل . تفيض الجهل . والعقل : ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشى به الهوادج ، قال علقمة :
عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه كأنه من دم الأجواف مدموم
المدموم ( بالدال المهملة ) : الأحمر ، وهو المراد هنا .والمدموم : الممتلىء شحماً من البعير وغيره . ويقال : هما ضربان من البرود . قال ابن فارس : والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولاً ، وما كان نقشه مستديراً فهو الرقم . وقال الزجاج : العاقل من عمل بما أوجب الله عليه ، فمن لم يعمل فهو جاهل .
التاسعة : اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم ، لأنه لو كان معدوماً لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض ، وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه ، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى ، على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها ، إن شاء الله تعالى .
وثد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ، ثم منهم صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت ، يفصل به بين حقائق المعلومات . ومنهم من قال : إنه جوهر بسيط ، أي غير مركب . ثم اختلفوا في محله ، فقالت طائفة منهم : محله الدماغ ، لأن الدماغ محل الحس . وقالت طائفة أخرى : محله القلب ، لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس . وهذا القول في العقل بأنه جوهر ، فاسد ، من حيث إن الجواهر متماثلة ، فلو كان جوهر عقلاً لكان كل جوهر عقلاً . وقيل : إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني . وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي ، والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذاً ومشتهياً . وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين : العقل هو العلم ، بدليل أنه لا يقال : عقلت وما علمت ، أو علمت وما عقلت . وقال القاضي أبو بكر : العقل علوم ضروية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، وهو اختيار ابي المعالي في الإرشاد ، واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم . واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه . وحكى في البرهان عن المحاسبي أنه قال : العقل غريزة . وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا : العقل آلة التمييز . وحكي عن ابي العباس القلانسي أنه قال : العقل قوة التمييز . وحكى عن المحاسبي أنه قال : العقل أنوار وبصائر . ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال : والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد ، فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز . وكذلك قول من قال : إنه قوة ، فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة ، والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعاً في العبارات ، وكذلك المحاسبي . والعقل ليس بصورة ولا نور ،ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر . وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى .
يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل، وكذلك قال السدي وقال ابن جريج: "أتأمرون الناس بالبر" أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة، وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: "وتنسون أنفسكم" أي تتركون أنفسكم "وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي، وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الاية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم، وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن حدثنا مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني. عن أبي قلابة في قول الله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب" قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الاخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الاية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ (قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري، قالا: حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قال: قلت من هؤلاء ؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به، ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار ، قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالكن قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم، فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون. حديث آخر ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد: حدثنا الأعمش عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالوا: وما سمعته يقول ؟ قال: سمعته يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" رواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال أحمد. حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة مالا يعافي العلماء" وقد ورد في بعض الاثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أناساً من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل" ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغت ذلك ؟ قال: أرجو ، قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال: وما هن ؟ قال: قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" أحكمت هذه قال: لا، قال: فالحرف الثاني ؟ قال: قوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " أحكمت هذه ؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث ؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح" أحكمت هذه الاية ؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك، رواه ابن مردويه في تفسيره، وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه" إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي: إن لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " وقوله إخباراً عن شعيب: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
والهمزة في قوله: 44- "أتأمرون الناس بالبر" للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله: "وتنسون أنفسكم" مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم كما قال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك يسطع
والبر: الطاعة والعمل الصالح، والبر: سعة الخير والمعروف، والبر: الصدق، والبر: ولد الثعلب، والبر: سوق الغنم، ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر:
لا هم رب أن يكونوا دونكا يبرك الناس ويفجرونكا
أي يطيعونك ويعصونك. والنسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ: أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة. والنفس: الروح، ومنه قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" يريد الأرواح. وقال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه
والنفس أيضاً الدم. ومنه قولهم: سالت نفسه، قال الشاعر:
تسيل على حد السيوف نفوسنا وليس على غير الظبات تسيل
والنفس الجسد، ومنه:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا أبياتهم تأمور نفس المنذر
والتأمور البدن. وقوله: "وأنتم تتلون الكتاب" جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد بوبيخ وأبلغ تبكيت. أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أصل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرأونها من التوراة. والتلاوة: القراءة، وهي المراد هنا وأصلها الاتباع، يقال تلوته: إذا اتبعته، وسمي القارئ تالياً والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه. وقوله: "أفلا تعقلون" استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، وهو أشد من الأول وأشد، وأشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أولاً أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعري:
وإنما حمل التوراة قارئها كسب الفوائد لا حب التلاوات
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال: إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم. والعقل في أصل اللغة: المنع، ومنه عقال البعير، لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني. والعقل نقيض الجهل، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة: أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية، ويصح أن يكون معنى الآية: أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم.
44. " أتأمرون الناس بالبر " أي بالطاعة، نزلت في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم: اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق. وقيل: هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة، ثم خالفوا وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم " وتنسون أنفسكم " أي تتركون أنفسكم فلا تتبعونه " وأنتم تتلون الكتاب " تقرؤون التوراة فيها نعته وصفته " أفلا تعقلون " أنه حق فتتبعونه؟.
والعقل مأخوذ من عقال الدابة، وهو ما يشد به ركبة البعير فيمنعه من الشرود، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة أنا الحسين بن الفضل البجلي أنا عفان أنا حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ".
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال أسامة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه (أي تنقطع أمعاؤه) في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " وقال شعبة عن الأعمش (( فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه )).
44-" أتأمرون الناس بالبر " تقرير مع توبيخ وتعجيب . والبر : التوسع في الخير ، من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ، ولذلك قيل ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى ، وبر في مراعاة الأقارب ، وبر في معاملة الأجانب .
" وتنسون أنفسكم " وتتركونها من البر كالمنسييات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون سراً من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه .
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون " وأنتم تتلون الكتاب " تبكيت كقوله : " وأنتم تعلمون " أي تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل .
" أفلا تعقلون " قبح صنيعكم فيصدكم عنه ، أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته . والعقل في الأصل الحبس ، سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ، ويعقله على ما يحسن ، ثم القوة التي بها النفس ، تدرك هذا الإدراك . والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه ، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل ، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر .
44. Enjoin ye righteousness upon mankind while ye yourselves forget (to practise it)? And ye are readers of the Scripture! Have ye then no sense?
44 - Do you enjoin right conduct on the people, and forget (to practise it) yourselves, and yet ye study the scripture? will you not understand?