45 - (واستعينوا) اطلبوا المعونة على أموركم (بالصبر) الحبس للنفس على ما تكره (والصلاة) أفردها بالذكر تعظيما لشأنها وفي الحديث"كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة" وقيل الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة فأمروا بالصبر وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة ، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر (وإنها) أي الصلاة (لكبيرة) ثقيلة (إلا على الخاشعين) الساكنين إلى الطاعة
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واستعينوا بالصبر"، استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري، وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا، الى ما تكرهونه من التسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه والصلاة.
وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم بعض معاني الصبر. وتأويل من تأول ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على كل ما كرهته نفوسهم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابها، وكفها عن هواها، ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر لكفه نفسه عن الجزع. وقيل لشهر رمضان شهر الصبر، لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارًا، وصبره إياهم عن ذلك، حبسه لهم وكفه إياهم عنه، كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. ولذلك قيل:قتل فلان فلانًا صبرًا، يعني به: حبسه عليه حتى قتله، فالمقتول مصبور والقاتل صابر.
وأما الصلاة، فقد ذكرنا معناها فيما مضى.
فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة، فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله وترك معاصيه، والتعري عن الرياسة وترك الدنيا؟
قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر نعيمها، المسلية النفوس عن زينتها وغرورها، المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها، ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها، كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
حدثني بذلك إسمعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني، عن ابن جريج، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة".
وحدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا خلف بن الوليد الأزدي قال، حدثنا يحيي بن زكريا، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال، قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى".
وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه رأى أبا هريرة منبطحًا على بطنه فقال له:اشكنب درد. قال: نعم. قال: قم فصل، فإن في الصلاة شفاء".
فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل، أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، كما أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: "فاصبر" يا محمد "على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى" (طه: 130). فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:
حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ".
وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "واستعينوا بالصبر والصلاة"، قال يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله.
وقال ابن جريج بما:
حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة"، قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة" الآية، قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وإنها"، وإن الصلاة. فـ الهاء والألف في "وإنها" عائدتان على الصلاة. وقد قال بعضهم: إن قوله: "وإنها" بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر، فتجعل الهاء والألف كناية عنه. وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام، إلى باطن لا دلالة على صحته.
ويعنى بقوله: "لكبيرة"، لشديدة ثقيلة، كما:
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا ابن يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، قال: إنها لثقيلة.
ويعني بقوله: "إلا على الخاشعين"، إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده. كما:
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "إلا على الخاشعين"، يعني: المصدقين بما أنزل الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "إلا على الخاشعين"، قال: يعني الخائفين.
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد: "إلا على الخاشعين"، قال: المؤمنين حقًا.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله، وقرأ قول الله: "خاشعين من الذل" (الشورى: 45)، قال: قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له.
وأصل الخشوع : التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.
فمعنى الآية: واستعينوا، أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكنين لطاعته، المتذللين من مخافته.
قوله تعالى : "استعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" .
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "استعينوا بالصبر والصلاة" الصبر : الحبس في اللغة . وقتل فلان صبراً ، أي امسك وحبس حتى أتلف . وصبرت نفسي على الشيء : حبستها .
والمصبورة التي نهى عنها . في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المجثمة . وقال عنترة :
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
الثانية : أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال : "واصبروا" يقال : فلان صابر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة ، هذا أصح ما قيل . قال النحاس : ولا يقال لمن صبر على المعصية : صابر ، إنما يقال : صابر على كذا . فإذا قلت : صابر مطلقاً فهو على ماذكرنا ، قال الله تعالى : "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" .
الثالثة : قوله تعالى : "والصلاة" خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكره . وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، ومنه ما روي ان عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال : عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله . ثم تنحى عن الطريق وصلى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : "استعينوا بالصبر والصلاة" . فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية . وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : "إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله" ، لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء . وقول ثالث ، قال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة . والله أعلم .
الرابعة : الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعه من تطاولها ، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين . قال يحيى بن اليمان : الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله ، والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك . وقال الشعبي : قال علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . قال الطبري : وصدق علي رضي الله عنه ، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح ، فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق . فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به .
الخامسة : وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحداً فقال : "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" . وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال : "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة" الآية . وجعل أجر الصابرين بغير حساب ، ومدح أهل فقال : "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" . وقال : "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور" . وقد قيل : إن المراد بالصابرين في قوله : "إنما يوفى الصابرون" أي الصائمون ، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"الصيام لي وأنا أجزي به" فلم يذكر ثواباً مقدراً كما لم يذكره في الصبر . والله أعلم .
السادسة : من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به ، كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى أنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم" . أخرجه البخاري . قال علماؤنا : وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ، ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حيدث أبي موسى ، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم ، قاله ابن فورك وغيره . وجاء في أسمائه : الصبور للمبالغة في الحلم عمن عصاه .
السابعة : قوله تعالى : "وإنها لكبيرة" اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله : وإنها فقيل : على الصلاة وحدها خاصة ، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم . والصبر هنا : الصوم . فالصلاة فيها سجن النفوس ، والصوم إنما فيه منع الشهوة ، فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كما منع جميع الشهوات . فالصائم إنما فيه منع شهوة النساء والطعام والشراب ، ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشيء والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق ، فيتسلى بتلك الأشياء عما منع . والمصلي يمتنع من جميع ذلك ، فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات . وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد ، فلذلك قال : "وإنها لكبيرة" . وقيل : عليهما ، ولكنه كنى على الأغلب وهو الصلاة ، كقوله : "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" ، وقوله : "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها" . فرد الكتابة إلى الفضة ، لأنها الأغلب والأعم ، وإلى التجارة ، لأنها الأفضل والأهم . وقيل : إن الصبر لما كان داخلاً في الصلاة أعاد عليها ، كما قال : "والله ورسوله أحق أن يرضوه" : ولم يقل : يرضوهما ، لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ، ومنه قول الشاعر :
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان جنونا
ولم يقل يعاصيا ، رد إلى الشباب لأن الشعر داخل فيه . وقيل : رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصاراً ، قال الله تعالى : "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" : ولم يقل آيتين ، ومنه قول الشاعر :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقال آخر :
لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معه
أراد : لغريبان ، لا فلاح معهما . وقيل : على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة . وقيل : على المصدر ، وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله :استعينوا . وقيل : على إجابة محمد عليه السلام ، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه . وقيل : على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها . "لكبيرة" معناه ثقيلة شاقة ، خبر إن . ويجوز في غير القرآن : وإنه لكبيرة . "إلا على الخاشعين" فإنها خفيفة عليهم . قال أرباب المعاني : إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى .
الثامنة : قوله تعالى : "على الخاشعين" الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع . والخشوع : هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع . وقال قتادة : الخشوع في القلب ، وهو الخوف وغض البصر في الصلاة . قال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه ، كخشوع الدار بعد الإقواء . هذا هو الأصل . قال النابغة :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومكان خاشع : لا يهتدى له . وخشعت الأصوات أي سكنت . وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقاً لزجاً وخشع ببصره إذا غضه . والخشعة : قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث :
"كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد" . وبلدة خاشعة : مغبرة لا منزل بها . قال سفيان الثوري : سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري ، أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع ! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع ، فقال : أعيمش ! تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع !ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك . ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال : يا هذا ! ارفع رأسك ، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب . وقال علي بن أبي طالب : الخشوع في القلب ، وأن تلين كفيك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك . وسيأتي هذا المعنى مجوداً عند قوله تعالى : "قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون" . فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً عل نفاق . قال سهل بن عبد الله : لا يكون خاشعاً حتى تخشع كل شعرة على جسده ، لقول الله تبارك وتعالى : "تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم" .
قلت : هذا هو الخشوع المحمود ، لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه ، فتراه مطرقاً متأدباً متذللاً . وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك ، وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كمايفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال ، وذلك خدع من الشيطان ، وتسويل من نفس الإنسان . روى الحسن أن رجلاً تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن ، فلكزه عمر ، أو قال لكمه . وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم اسمع ،وإذا مشى اسرع ، وإذا ضرب أوجع ، وكان ناسكاً صدقاً ، وخاشعاً حقاً . وروى ابن ابي نجيح عن مجاهد قال : الخاشعون هم المؤمنون حقاً .
يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والاخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الاية: استعينوا على طلب الاخرة بالصبر على الفرائض والصلاة، فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد، قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "الصوم نصف الصبر" وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي، ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر ، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير ، قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: والصلاة، فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: "اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" الاية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة: قال حذيفة، يعني ابن اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد ومعناه أيوجعك بطنك ؟ قال: نعم، قال: "قم فصل، فإن الصلاة شفاء" قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر ، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: إنها لكبيرة عائد إلى الصلاة، نص عليه المجاهد، واختاره ابن جرير ، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون" وقال تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: "وإنها لكبيرة". أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين وقال الضحاك: وإنها لكبيرة، قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه" وقال ابن جرير: معنى الاية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الاية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون" هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات، فأما قوله "يظنون أنهم ملاقوا ربهم" قال ابن جرير ، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً، والشك ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيباً مرجماً
يعني ويجعل اليقين غيباً مرجماً، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا، وحدثني المثنى: حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم، وهذا سند صحيح، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم" قال: الظن ههنا يقين، قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم" علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله " إني ظننت أني ملاق حسابيه " يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (قلت) وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة "ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله اليوم أنساك كما نسيتني" وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى "نسوا الله فنسيهم" إن شاء الله تعالى.
وقوله: 45- "واستعينوا بالصبر" الصبر في اللغة: الحبس، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. ومنه قول عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والمراد هنا: استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات وقيل: الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة. واستدل هذا القائل بقوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة. واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله: "وإنها لكبيرة" فقيل: إنه راجع إلى الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر والصلاة فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما. كما قال تعالى: "والله ورسوله أحق أن يرضوه" إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان جنوناً
ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه، وقيل: إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقاً، وقيل: إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها، لكن لما كانت آكد وأعم تكليفاً وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" كذا قيل، وقيل: إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض، والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً، وقيل: إن المراد بالصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناءً به عن الآخر، ومنه قوله تعالى: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" أي ابن مريم آية وأمه آية. ومنه قول الشاعر:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعة والصبح والمساء لا فلاح معه
وقيل: رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة، وقيل: رجع إلى المصدر المفهوم من قوله: "واستعينوا" وهو الاستعانة، وقيل: رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل. والكبيرة التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة، ومنه "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه". والخاشع: هو المتواضع، والخشوع: التواضع. قال في الكشاف والخشوع: الإخبات والتطامن، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة وأما الخضوع: فاللين والنقياد، ومنه خضعت بقولها: إذا لينته انتهى. وقال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى، ومكان خاشع: لا يهتدى إليه، وخشعت الأصوات: أي سكنت، وخشع ببصره: إذا غضه، والخشعة: قطعة من الأرض رخوة. وقال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطئ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. انتهى. وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته: إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع، واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حر السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: "إني ظننت أني ملاق حسابيه" وقوله: " فظنوا أنهم مواقعوها " ومنه قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم بالفارسي المسود
وقيل: إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي، والأول أولى. وأصل الظن: الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية. ومعنى قوله: "ملاقوا ربهم" ملاقوا جزاءه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً. وفي هذا مع ما بعده من قوله: "وأنهم إليه راجعون" إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "واركعوا" قال: صلوا. وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن مقاتل في قوله: "واركعوا مع الراكعين" قال: أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد يقول: كونوا منهم ومعهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر" الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه. وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "أتأمرون الناس بالبر" قال: بالدخول في دين محمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي؟ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن أبي الدرداء في الآية قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون". وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند الخطيب وابن النجار، وعن الوليد بن عقبة مرفوعاً عند الطبراني والخطيب بسند ضعيف وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفاً، ومعناها جميعاً: أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: بما دخلتم النار وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نفعل. وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه نحوه. وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن قانع في معجمه والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: "ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات". وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله، وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أوبلغت ذلك؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال: فالحرف الثاني، قال: قوله تعالى : " لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " أحكمت هذه الآية ؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب "ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال: إنهما معونتان من الله فاستعينوا بهما. وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وأبو الشيخ في الثواب والديلمي في مسند الفردوس عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصبر ثلاثة: فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية". وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه والجزاء للصابرين، ولم نذكرها هنا لأنها ليست بخاصة بهذه الآية، بل هي واردة في مطلق الصبر، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطرا صالحاً، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك والترغيب فيه الكثير الطيب. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا: يعني الأنبياء، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة". وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو حديث حذيفة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أنه كان في مسير له، فنعي إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع فقال: فعلنا كما أمرنا الله فقال: "واستعينوا بالصبر والصلاة". وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي لما نعي إليه أخوه قثم. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وإنها لكبيرة" قال: لثقيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا على الخاشعين" قال: المؤمنين حقاً. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "إلا على الخاشعين" قال المؤمنين حقاً.
45. " واستعينوا " على ما يستقبلكم من أنواع البلاء وقيل: على طلب الآخرة " بالصبر والصلاة " أراد حبس النفس عن المعاصي. وقيل: أراد: الصبر على أداء الفرائض، وقال مجاهد : الصبر الصوم، ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر، وذلك لأن الصوم يزهده في الدنيا، والصلاة ترغبه في الآخرة، وقيل: الواو بمعنى على، أي: واستعينوا بالصبر على الصلاة، كما قال الله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " (132-طه) " وإنها " ولم يقل وانهما رداً للكناية إلى كل واحد منهما أي وإن كل خصلة منها. كما قال: " كلتا الجنتين آتت أكلها " (33-الكهف) أي كل واحدة منهما. وقيل: معناه " واستعينوا بالصبر " وإنه لكبير وبالصلاة وإنها لكبيرة، فحذف أحدهما اختصاراً، وقال المؤرج : رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم كقوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " (34-التوبة) رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم. وقيل: رد الكناية إلى الصلاة لأن الصبر داخل فيها. كما قال الله تعالى: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (62-التوبة) ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله تعالى.
وقال الحسين بن الفضل : رد الكناية إلى الاستعانة " لكبيرة " أي: لثقيلة " إلا على الخاشعين " يعني: المؤمنين، وقال الحسن : الخائفين وقيل: المطيعين وقال مقاتل بن حيان : المتواضعين، وأصل الخشوع السكون قال الله تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن " (108-طه) فالخاشع ساكن إلى طاعة الله تعالى.
45-" واستعينوا بالصبر والصلاة " متصل بما قبله ، كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك ، والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلاً على الله ، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة ، وتصفية النفس . والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها ، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ، من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النية بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الحق ، وقراءة القرآن ، والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المأرب وجبر المصائب ، روي أنه عليه الصلاة والسلام " كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " ويجوز أن يراد بها الدعاء .
" وإنها " : أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها ، لعظم شأنها واستجماعها ضروباً من الصبر . أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها .
" لكبيرة " لثقيلة شاقة كقوله تعالى : " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " .
" إلا على الخاشعين " أي المخبتين ، والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة . والخضوع اللين والانقياد ، ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب .
45. Seek help in patience and prayer; and truly it is hard save for the humble-minded,
45 - Nay, seek (God's) help with patient perseverance and prayer: it is indeed hard, except to those who bring a lowly spirit,