(إذ قالت الملائكة) أي جبريل (يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) أي ولد (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) خاطبها بنسبته إليها تنبيها على أنها تلده بلا أب إذ عادة الرجال نسبتهم إلى آبائهم (وجيهاً) ذا جاه (في الدنيا) بالنبوة (والآخرة) بالشفاعة والدرجات العلا (ومن المقربين) عند الله
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "إذ قالت الملائكة"، وما كنت لديهم إذ يختصمون ، وما كنت لديهم أيضاً إذ قالت الملائكة : "يا مريم إن الله يبشرك".
والتبشير إخبار المرء بما يسره من خبر.
وقوله : "بكلمة منه"، يعني برسالة من الله وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : ألقى فلان إلي كلمةً سرني بها، بمعنى: أخبرني خبراً فرحت به ، كما قال جل ثناؤه : "وكلمته ألقاها إلى مريم" [النساء: 171]، يعني : بشرى الله مريم بعيسى، ألقاها إليها.
فتأويل الكلام : وما كنت ، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هي ولد لك اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
وقد قال قوم -وهو قول قتادة-: إن الكلمة التي قال الله عز وجل : "بكلمة منه"، هو قوله : كن.
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله : "بكلمة منه"، قال : قوله : كن .
فسماه الله عز وجل كلمته ، لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدر الله من شيء : هذا قدر الله وقضاؤه ، يعني به : هذا عن قدر الله وقضائه حدث ، وكما قال جل ثناؤه : "وكان أمر الله مفعولا" [النساء: 47 - الأحزاب: 37]، يعني به : ما أمر الله به ، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل.
وقال آخرون : بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكلمة هي عيسى.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله : "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه"، قال : عيسى هو الكلمة من الله.
قال أبو جعفر: وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي ، القول الأول . وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها: أن الله خالق منها ولداً من غير بعل ولا فحل ، ولذلك قال عز وجل : "اسمه المسيح"، فذكر، ولم يقل : اسمها فيؤنث ، و الكلمة مؤنثة، لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان ، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها كما تذكر كناية الذرية والدابة والألقاب، على ما قد بيناه قبل فيما مضى.
فتأوبل ذلك كما قلنا آنفاً، من أن معنى ذلك : إن الله يبشرك ببشرى، ثم بين عن البشرى أنها ولد اسمه المسيح.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال : "اسمه المسيح"، وقد قال : "بكلمة منه"، والكلمة، عنده هي عيسى، لأنه في المعنى كذلك ، كما قال جل ثناؤه: "أن تقول نفس يا حسرتى" [الزمر: 56]، ثم قال : "بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها" [الزمر: 59]، وكما يقال : ذو الثدية، لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثدييه ، فجعلها كأن اسمها ثدية، ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير.
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة : في أن الهاء من ذكر الكلمة، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله : "اسمه"، والكلمة، متقدمة قبله . فزعم أنه إنما قبل : "اسمه"، وقد قدمت الكلمة، ولم يقل : اسمها، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضع لتعريف المسمى به ، كـفلان وفلان ، وذلك ، مثل الذرية و الخليفة و الدابة، ولذلك جاز عنده أن يقال : ذرية طيبة وذرية طيباً، ولم يجز أن يقال : طلحة أقبلت - ومغيرة قامت.
وأنكر بعضهم اعتلال من اعتل في ذلك بـ ذي الثدية، وقالوا : إنما أدخلت الهاء في ذي الثدية، لأنه أريد بذلك القطعة من الثدي ، كما قيل : كنا في لحمة ونبيذة، يراد به القطعة منه . وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
وأما قوله "اسمه المسيح عيسى ابن مريم"، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمه مريم ، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوته إلى الله عز وجل ، وما قرفت أمه به المفترية عليها من اليهود، كما:
حدثني به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، أي : هكذا كان أمره ، لا ما يقولون فيه.
وأما "المسيح"، فإنه فعيل صرف من مفعول إلى فعيل ، وإنما هو ممسوح ، يعني : مسحه الله فطهره من الذنوب ، ولذلك قال إبراهيم : "المسيح" الصديق.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
وقال آخرون : مسح بالبركة.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال ، قال سعيد: إنما سمي "المسيح"، لأنه مسح بالبركة.
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "وجيها"، ذا وجه ومنزلة عالية عند الله ، وشرف وكرامة . ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس وجيه ، يقال منه : ما كان فلان وجيهاً، ولقد وجه وجاهةً، وإن له لوجهاً عند السلطان وجاهاً ووجاهةً، و الجاه مقلوب ، قلبت واوه من أوله إلى موضع العين منه، فقيل: جاه، وإنما هو وجه ، و فعل من الجاه : جاه يجوه . مسموع من العرب: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
وأما نصب الوجيه ، فعلى القطع من عيسى، لأن عيسى معرفة، و وجيه نكرة، وهو من نعته . ولو كان مخفوضاً على الرد على الكلمة كان جائزاً.
وبما قلنا - من أن تأويل ذلك : وجيهاً في الدنيا والآخرة عند الله - قال ، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "وجيها"، قال : وجيهاً في الدنيا والآخرة عند الله.
وأما قوله : "ومن المقربين"، فإنه يعني أنه ممن يقربه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه ،كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ومن المقربين"، يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة.
حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "ومن المقربين"، يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
دليل على نبوتها كما تقدم . و إذ متعلقة بـ يختصمون ويجوز أن تكون متعلقة بقوله : وما كنت لديهم . بكلمة منه وقرأ أبو السمال بكلمة منه ، وقد تقدم . اسمه المسيح ولم يقل اسمها لأن معنى كلمة معنى ولد . والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق ، قاله إبراهيم النخعي . وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك . وقال ابن قارس : والمسيح العرق نوالمسيح الصديق ، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه . والمسح الجماع ، يقال مسحها ، والأمسح : المكان الأملس . والمسحاء المراة الرسحاء التي لا است لها ,. وبفلان مسحة من جمال . والمسائح قسي جياد ، واحدتها مسيحة . قال :
لها مسائح زور في مراكضها لين وليس بها وهن ولا رقق
واختلف في المسيح ابن مريم مماذا أخذ ، فقيل : لأنه مسح الأرض ، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن . وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء ح فكأنه سمي مسيحا لذلك ، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل . وقيل : ممسوح بدهن البركة ن كانت الأنبياء تمسح به ، طيب الرائحة ، فإذا مسح به علم أنهنبي . وقيل : لنه كان ممسوح الأخمصين .وقيل ك لآن الجمال مسحه ، أي أصابه وظهر عليه . وقيل : إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب . وقال أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ ، يقال : مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا ، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا . وقال ابن الأعرابي : المسيح الصديق ، والمسيخ الأعور ، وبه سمي الدجال . وقال أبو عبيد : المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كماعرب موشى يموسى . وأما الدجال فسمي مسحا لأنه ممسوح إحدى العينين . وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين . وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة . وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف ، والأول اشهر وعليه الأكثر . سمي به لأنه يسيح في الأرض اي يطوقها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، فالدجال يمسح الأرض محنة ، وابن مريم يمسحها منحة . وعلى انه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول . وقتال الشاعر :
إن المسيح يقتل المسيخا
في صحيح مسلم عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة الحديث . ووقع في حديث عبدالله بن عمرو : إلا الكعبة وبيت المقدس ذكره ابو جعفر الطبري وزاد أبو جعفر الطحاوي : ومسجد الطور رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم :
وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس . وذكر الحديث . وفي صحيح مسلم :
فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله الحديث بطوله . وقد قيل : إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به . فعلى هذا يكون عيسى بدلا منالمسيح من البدل الذي هو هو . وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ، لان فيه ألف تأنيث .ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه . وجيها أي شريفا ذا جاء وقدر ، وانتصب على الحال ، قاله الأخفش . ومن المقربين عند الله تعالى وهو معطوف على وجيها أي ومقربا ، قاله الأخفش . وجمع وجيه وجهاء ووجهاء .
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك, أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس, واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين, قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري , عن سعيد بن المسيب , في قوله تعالى: " إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش, أحناء على ولد في صغره, ورعاة على زوج في ذات يده, ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط" ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم , فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد , كلاهما عن عبد الرزاق به, وقال هشام بن عروة , عن أبيه , عن عبد الله بن جعفر , عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :خير نسائها مريم بنت عمران, وخير نسائها خديجة بنت خويلد " أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله, وقال الترمذي : حدثنا أبو بكر بن زنجويه , حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر , عن قتادة , عن أنس , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد, وآسية امرأة فرعون " تفرد به الترمذي وصححه, قال عبد الله بن أبي جعفر الرازي , عن أبيه , قال: كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك , " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال :خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران, وآسية امرأة فرعون, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت رسول الله " رواه ابن مردويه , وروى ابن مردويه من طريق شعبة , عن معاوية بن قرة , عن أبيه , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران, وآسية امرأة فرعون, وخديجة بنت خويلد, وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . وقال ابن جرير : حدثني المثنى , حدثنا آدم العسقلاني , حدثنا شعبة , حدثنا عمرو بن مرة , سمعت مرة الهمداني , يحدث عن أبي موسى الأشعري , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران, وآسية امرأة فرعون " . وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به, ولفظ البخاري "كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون, ومريم بنت عمران, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه السلام في كتابنا البداية والنهاية , ولله الحمد والمنة. ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل, لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها, ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة, حيث خلق منها ولداً من غير أب, فقال تعالى: " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " أما القنوت فهو الطاعة في خشوع, كما قال تعالى: "بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون". وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى , أخبرنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث , أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم , عن أبي سعيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال " كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " . ورواه ابن جرير من طريق ابن لهيعة عن دراج به, وفيه نكارة. وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركود في الصلاة, يعني امتثالاً لقول الله تعالى: "يا مريم اقنتي لربك" قال الحسن : يعني اعبدي لربك, "واسجدي واركعي مع الراكعين" أي كوني منهم وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة, حتى نزل الماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي , وفيه مقال: حدثنا علي بن بحر بن بري , حدثنا الوليد بن مسلم , عن الأوزاعي , عن يحيى بن أبي كثير , في قوله "يا مريم اقنتي لربك واسجدي" قال: سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها. وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز , حدثنا ضمرة عن ابن شوذب , قال: كانت مريم عليها السلام, تغتسل في كل ليلة. ثم قال تعالى لرسوله بعد ما أطلعه على جلية الأمر "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك" أي نقصه عليك "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون" أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عنهم معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها, وذلك لرغبتهم في الأجر. قال ابن جرير : حدثنا القاسم , حدثنا الحسين , حدثني حجاج عن ابن جريج , عن القاسم بن أبي بزة , أنه أخبره عن عكرمة , و أبي بكر عن عكرمة , قال: ثم خرجت بها, يعني أم مريم بمريم تحملها, في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام, قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة, فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة, فإني حررتها, وهي أنثى, ولا يدخل الكنيسة حائض, وأنا لا أردها إلى بيتي, فقالوا: هذه ابنة إمامنا, وكان عمران يؤمهم في الصلاة, وصاحب قرباننا, فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي, فقالوا: لا تطيب أنفسنا, هي ابنة إمامنا, فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة, فقرعهم زكريا فكفلها وقد ذكر عكرمة أيضاً و السدي وقتادة والريبع بن أنس وغير واحد, دخل حديث بعضهم في بعض, أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن, واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها, فألقوا أقلامهم, فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء, وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيهم, صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
قوله 45- "إذ قالت" بدل من قوله وإذ قالت المذكور قبله وما بينهما اعتراض، وقيل بدل من "إذ يختصمون" وقيل منصوب بفعل مقدر، وقيل بقوله "يختصمون" وقيل بقوله "وما كنت لديهم".
والمسيح اختلف فيه مماذا أخذ؟ فقيل من المسح: لأنه مسح الأرض: أي ذهب فيها فلم يستكن بكن، وقيل إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل لأنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل لأن الجمال مسحه، وقيل لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال فعيل بمعنى مفعول. وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة. وقال ابن الأعرابي المسيح الصديق. وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرب كما عرب موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس. وقوله "عيسى" عطف بيان أو بدل وهو اسم أعجمي، وقيل هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه. قال في الكشاف: هو معرب من أيشوع انتهى. والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أي فنسب إلى أمه. والوجيه ذو الوجاهة: وهي القوة والمنعة، ووجاهته في الدنيا النبوة، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة، وهو منتصب على الحال من كلمة، وإن كانت نكرة فهي موصوفة، وكذلك قوله "ومن المقربين" في محل نصب على الحال. قال الأخفش: هو معطوف على وجيهاً.
45-قوله تعالى:" إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم " إنما قال: إسمه رد الكناية إلى عيسى ، واختلفوا في أنه لم يسمي مسيحاً ، منهم من قال: هو فعيل بمعنى المفعول يعني أنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب ، وقيل : لأنه مسح بالبركة، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، وقيل: لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له ، وسمى الدجال مسيحاً لأنه كان ممسوح إحدى العينين ، وقال بعضهم هو فعيل بمعنى الفاعل ، مثل عليم وعالم . قال ابن عباس رضي الله عنهما سمي مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ، وقيل : سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان ، وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة. وقال ابراهيم النخعي: المسيح الصديق ويكون المسيح بمعنى الذاب وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد "وجيهاً" أي شريفاً رفيعاً ذا جاه وقدر" في الدنيا والآخرة ومن المقربين" عند الله
45"إذ قالت الملائكة" بدل من "إذ قالت" الأولى وما بينهما اعتراض، أو من "إذ يختصمون" على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته في سنة كذا. " يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم " المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحاً معناه: المبارك، وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنهما مسح من بالبركة أو بما طهره من الذنوب، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبريل، من العيس وهو بياض يعلوه حمرة، تكلف لا طائل تحته، وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها، ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة، فإن الإسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنيب إلى الأم إلا إذا فقد الأب. "وجيهاً في الدنيا والآخرة" حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى، والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة "ومن المقربين" من الله، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة.
45. (And remember) when the angels said: O Mary! Allah giveth thee glad tidings of a word from Him, whose name is the Messiah, Jesus, son of Mary, illustrious in the world and the Hereafter, and one of those brought near (unto Allah).
45 - Behold the angels said: O Mary God giveth thee glad tidings of a word from him: his name will be Christ Jesus, the son of Mary, held in honor in this world and the hereafter and of (the company of) those nearest to God;