46 - (أفلم يسيروا) أي كفار مكة (في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) ما نزل بالمكذبين قبلهم (أو آذان يسمعون بها) إخبارهم بالإهلاك وخراب الديار فيعتبروا (فإنها) أي القصة (لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) تأكيد
يقول تعالى ذكره : أفلم يسيروا هؤلاء المكذبون بآيات الله ، والجاحدون قدرته في البلاد ، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذبي رسل الله الذين خلوا من قبلهم ، كعاد وثمود ، وقوم لوط وشعيب وأوطانهم ومساكنهم ، فيتفكروا فيها،ويعتبروا بها ، ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها ، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره ، وكذب رسله ، فينيبوا من عتوهم وكفرهم ، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك ، واعتبروا به ، وأنابوا إلى الحق " قلوب يعقلون بها " حجج الله على خلقه وقدرته على ما بينا ، أو آذان يسمعون بها : يقول : أو آذان تصغي لسماع الحق فتعي ذلك ، وتميز بينه وبين الباطل . وقوله : " فإنها لا تعمى الأبصار " يقول : فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها ، بل يبصرون دلك بأبصارهم ، ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته . والهاء في قوله : " فإنها لا تعمى " هاء عماد ، ، كقول القائل : إنه عبد الله قائم . وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله فإنه لا تعمى الأبصار وقيل : " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " والقلوب لا تكون إلا في الصدور ، توكيدا للكلام ، كما قيل : " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " آل عمران : 167.
قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الأرض " يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وروي عن أبي حنيفة ، وما أراها عنه صحيحة. " فإنها لا تعمى الأبصار " قال الفراء : الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة، أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. " لا تعمى الأبصار " أي أبصار العيون ثابتة لهم. " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة : البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد : لكن عين أربع أعين، يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئاً. وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس و مقاتل :: لما نزل " ومن كان في هذه أعمى " [الإسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ". أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: " وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى " أي مع ما جاء به من الايات البينات والدلائل الواضحات "فأمليت للكافرين" أي أنظرتهم وأخرتهم, "ثم أخذتهم فكيف كان نكير" أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى, وبين إهلاك الله له أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" ثم قال تعالى: "فكأين من قرية أهلكناها" أي كم من قرية أهلكتها "وهي ظالمة" أي مكذبة لرسلها "فهي خاوية على عروشها" قال الضحاك : سقوفها, أي قد خربت وتعطلت حواضرها "وبئر معطلة" أي لا يستقى منها, ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والإزدحام عليها "وقصر مشيد" قال عكرمة يعني المبيض بالجص, وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون: هو المنيف المرتفع. وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين, وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها, فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة".
وقوله: "أفلم يسيروا في الأرض" أي بأبدانهم وبفكرهم أيضاً, وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا هارون بن عبد الله , حدثنا سيار , حدثنا جعفر , حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا, ثم سح في الأرض, ثم اطلب الاثار والعبر, حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ, ونوره بالتفكر, وموته بالزهد, وقوه باليقين, وذلله بالموت, وقرره بالفناء, وبصره فجائع الدنيا, وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام, واعرض عليه أخبار الماضين, وذكره ما أصاب من كان قبله, وسيره في ديارهم وآثارهم, وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا, أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال "فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها" أي فيعتبرون بها "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" أي ليس العمى عمى البصر, وإنما العمى عمى البصرة, وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر, وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى, وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني , وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقدنادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـ أعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها فراقها الثاويان البدو والحضر
ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارها بهذه الآثار قائلاً 46- "أفلم يسيروا في الأرض" حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون " ومعنى "فتكون لهم قلوب يعقلون بها" أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه.
وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره "أو آذان يسمعون بها" أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة "فإنها لا تعمى الأبصار" قال الفراء: الهاء عماد يجوز أن يقال: فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة: أي فإن الأبصار لا تعمي، أو فإن القصة لا تعمي الأبصار: أي أبصار العيون " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله: "عشرة كاملة"، و"يقولون بأفواههم"، و"يطير بجناحيه".
46. " أفلم يسيروا في الأرض "، يعني: كفار مكة، فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية، " فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها "، يعني: ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها، " فإنها "، الهاء عماد، " لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "، ذكر ((التي في الصدور)) تأكيداً كقوله: " يطير بجناحيه " (الأنعام:38) معناه أن العمى الضار هو عمى القلب، فأما عمى البصر فليس بضار في أمر الدين، قال قتادة : البصر الظاهر: بلغة ومتعة، وبصر القلب: هو البصر النافع.
46ـ " أفلم يسيروا في الأرض " حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك . " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال . " أو آذان يسمعون بها " ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم . " فإنها " الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار . وفي " تعمى " راجع إليه والظاهر أقيم مقامه . " لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر " الصدور " للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر . قيل لما نزل " ومن كان في هذه أعمى " قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت " فإنها لا تعمى الأبصار " .
46. Have they not travelled in the land, and have they hearts wherewith to feel and ears wherewith to hear? For indeed it is not the eyes that grow blind, but it is the hearts, which are within the bosoms, that grow blind.
46 - Do they not travel through the land, so that their hearts (and minds) may thus learn wisdom and their ears may thus learn to hear? Truly it is not their eyes that are blind, but their hearts which are In their breasts.