48 - (و) اذكر (إذ زين لهم الشيطان) إبليس (أعمالهم) بأن شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر (وقال) لهم (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) من كنانة وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك سيد تلك الناحية (فلما تراءت) التقت (الفئتان) المسلمة والكافرة ورأى الملائكة وكان يده في يد الحارث بن هشام (نكص) رجع (على عقبيه) هارباً (وقال) لما قالوا له أتخذلنا على هذه الحال (إني بريء منكم) من جواركم (إني أرى ما لا ترون) من الملائكة (إني أخاف الله) أن يهلكني (والله شديد العقاب)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم "، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك لهم، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ". فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: " إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب "، وذلك حين رأى الملائكة.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني الشاعر، ثم المدلجي، فجاء على فرس، فقال للمشركين: " لا غالب لكم اليوم من الناس "! فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة، وهؤلاء كنانة قد أتوكم!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحق ، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني كعب - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك] بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: ((أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه))! فخرجوا سراعاً.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحق في قوله: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم "، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، يقول الله: " فلما تراءت الفئتان "، ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم، " نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون "، وصدق عدو الله، إنه رأى ما لا يرون، وقال: " إني أخاف الله والله شديد العقاب "، فأوردهم ثم أسلمهم. قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص: ((الحارث بن هشام)) أو: ((عمير بن وهب الجمحي))، فذكر أحدهما، فقال: ((أين، أي سراق))!، ومثل عدو الله فذهب.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم "، إلى قوله: " شديد العقاب "، قال: ذكر لنا أنه جبريل تنزل معه الملائكة، فزعم عدو الله أنه لا يدي له بالملائكة، وقال: " إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله "، وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم، وتبرأ منهم عند ذلك.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم "، الآية، قال: لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أن أحداً لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه - قال: رجع مدبراً - وقال: " إني أرى ما لا ترون "، الآية.
حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون قال، حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يوماً هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدحر، ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يارسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال:أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة ".
حدثنا محمدبن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن الحسن في قوله: " إني أرى ما لا ترون "، قال: رأى جبريل معتجراً ببرد، يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام، ما ركب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قال الحسن ، وتلا هذه الآية: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " الآية، قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لا يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين آبائكم، ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا نكص على عقبيه - يقول: رجع مدبراً - وقال: " إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون "، يعني الملائكة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا: إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر، ولا غالب لكم اليوم من الناس.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: " وإن الله لسميع عليم "، في هذه الأحوال، وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون، لحربكم وقتالكم وحسن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا، " وإني جار لكم "، من كنانة أن يأتيكم من ورائكم فمعيذكم، أجيركم وأمنعكم منهم، فلا تخافوهم، واجعلوا حدكم وبأسكم على محمد وأصحابه، " فلما تراءت الفئتان "، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض، " نكص على عقبيه "، يقول: رجع القهقرى على قفاه هارباً.
يقال منه: ((نكص ينكص وينكص نكوصاً))، ومنه قول زهير:
هم يضربون حبيك البيض إذا لحقوا لا ينكصون، إذا ما استلحموا وحموا
وقال للمشركين: " إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون "، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مدداً للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم، إني أخاف عقاب الله، وكذب عدو الله " والله شديد العقاب ".
روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلاً منهم. فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه وقال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده. وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم. وعن ابن عباس قال:
أمد الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً". فقال جبريل: خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون. ذكره البيهقي وغيره. وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ما رأى الشيطان نفسه يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة". ومعنى نكص: رجع بلغة سليم، عن مؤرخ وغيره. وقال الشاعر:
ليس النكوص على الأدبار مكرمةً إن المكارم إقدام على الأسل
وقال آخر:
وما ينفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم
وليس ههنا قهقرى بل هو فرار، كما قال:
إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط. "إني أخاف الله" قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه. وقيل: كذب إبليس في قوله: "إني أخاف الله" ولكن علم أنه لا قوة له. ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة.
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله, وكثرة ذكره, ناهياً لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم, بطراً أي دفعاً للحق, "ورئاء الناس" وهو المفاخرة والتكبر عليهم, كما قال أبو جهل: لما قيل له: إن العير قد نجا فارجعوا, فقال: لا والله لا نرجع, حتى نرد ماء بدر, وننحر الجزر, ونشرب الخمر, وتعزف علينا القيان, وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبداً, فانعكس ذلك عليه أجمع, لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام, وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء, صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي, ولهذا قال: "والله بما يعملون محيط" أي عالم بما جاءوا به وله, ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس" قالوا: هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وقال محمد بن كعب: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر, خرجوا بالقيان والدفوف, فأنزل الله " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " وقوله تعالى: "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" الاية, حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له وما هموا به, وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس, ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر, فقال: إني جار لكم, وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, سيد بني مدلج كبير تلك الناحية, وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه: "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الاية: لما كان يوم بدر, سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين, وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم, وإني جار لكم, فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة, "نكص على عقبيه" قال: رجع مدبراً, وقال: "إني أرى ما لا ترون" الاية, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته, في صورة رجل من بني مدلج, في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين, وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس, فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين, انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته, فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله, والله شديد العقاب, وذلك حين رأى الملائكة, وقال محمد بن إسحاق: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فلما حضر القتال ورأى الملائكة, نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم, فتشبث به الحارث بن هشام, فنخر في وجهه فخر صعقاً, فقيل له: ويلك يا سراقة على هذه الحال, تخذلنا وتبرأ منا, فقال: إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله, والله شديد العقاب .
وقال محمد بن عمر الواقدي: أخبرني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس, عن ابن عباس, قال: لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة, ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس, وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس, وإسرافيل في جند آخر ألف, وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس, فلما أبصر عدو الله الملائكة, نكص على عقبيه, وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون, فتشبث به الحارث بن هشام, وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه, فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث, وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه, وقال يا رب موعدك الذي وعدتني. وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع, قريب من هذا السياق وأبسط منه, ذكرناه في السيرة, وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير, قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب, فكاد ذلك أن يثنيهم, فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي, وكان من أشراف بني كنانة, فقال أنا جارلكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه, فخرجوا سراعاً, قال محمد بن إسحاق: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه, حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان, كان الذي رآه حين نكص, الحارث بن هشام أو عمير بن وهب, فقال أين سراقة ؟ أين وميل عدو الله فذهب, قال فأوردهم ثم أسلمهم, قال ونظر عدوا الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين, فنكص على عقبيه, وقال إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, وصدق عدو الله, وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب, وهكذا روي عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم الله, وقال قتادة: وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة, فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة, فقال إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله وكذب عدو الله. والله ما به مخافة الله, ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة, وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له, حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم, وتبرأ منهم عند ذلك, قلت: يعني بعادته لمن أطاعه, قوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" وقوله تعالى: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم, عن بعض بني ساعدة, قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما كف بصره, يقول: لو كنت معكم الان ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة, لا أشك ولا أتمارى, فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس, وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا, وتثبيتهم, أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل, يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم فكروا عليهم, فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه, وقال إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, وهو في صورة سراقة, وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه, ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم, فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى, لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال, فلا تقتلوهم وخذوهم أخذاً, وهذا من أبي جهل لعنه الله, كقول فرعون للسحرة لما أسلموا: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها" وكقوله: "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وهو من باب البهت والافتراء, ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.
وقال مالك بن أنس: عن إبراهيم بن أبي علية, عن طلحة بن عبيد الله بن كريز, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأى إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة, وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر" قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر ؟ قال: "أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة" وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في هذه الاية: لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين, وقلل المشركين في أعين المسلمين, فقال المشركون: غر هؤلاء دينهم, وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم, فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك, فقال الله: "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" وقال قتادة: رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله, وذكر لنا, أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً. وقال ابن جريج في قوله "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" هم قوم كانوا من المنافقين بمكة, قالوه يوم بدر, وقال عامر الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين, قالوا: غر هؤلاء دينهم. وقال مجاهد في قوله عز وجل: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " قال فئة من قريش, قيس بن الوليد بن المغيرة, وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة, والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب, وعلي بن أمية بن خلف, والعاص بن منبه بن الحجاج, خرجوا مع قريش من مكة, وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم, فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم, وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن الحسن في هذه الاية قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر, فسموا منافقين, قال معمر: وقال بعضهم: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين, قالوا غر هؤلاء دينهم, وقوله "ومن يتوكل على الله" أي يعتمد على جنابه "فإن الله عزيز" أي لا يضام من التجأ إليه, فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان "حكيم" في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها, فينصر من يستحق النصر, ويخذل من هو أهل لذلك .
قوله: 48- "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم" الظرف متعلق بمحذوف: أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم، والتزيين: التحسين، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" أي مجير لكم من كل عدو أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا: الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، وقيل المعنى: إنه ألقى في روعهم هذه المقالة، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون "فلما تراءت الفئتان" أي فئة المسلمين والمشركين "نكص على عقبيه" أي رجع القهقرى، ومنه قول الشاعر:
ليس النكوص على الأعقاب مكرمة إن المكارم إقدام على الأمل
وقول الآخر:
وما نفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم
وقيل: معنى نكص هاهنا: بطل كيده وذهب ما خيله "وقال إني بريء منكم" أي تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله: "إني أرى ما لا ترون" يعني الملائكة، ثم علل بعلة أخرى فقال: "إني أخاف الله" قيل: خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة، وقيل: إن دعوى الخوف كذب منه، ولكنه رأى أنه لا قوة له ولا للمشركين فاعتل بذلك، وجملة "والله شديد العقاب" يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه.
48 - قوله تعالى : " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " ، وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته ، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، " وقال " ، لهم " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " ، أي : مجير لكم من كنانة ، " فلما تراءت الفئتان " ، أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء علم أنه لا طاقة له بهم ، " نكص على عقبيه " ، قال الضحاك : ولى مدبراً . وقال النضر بن شميل : رجع القهقري على قفاه هارباً . قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك آخذاً بيد الحارث بن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفراراً من غير قتال ؟ فجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : بلغني أنكم تقولون : إني هزمت الناس ، فوالله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم ! فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا ؟ فحلف لهم . فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان .
قال الحسن في قوله : " وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون " ،قال : رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اللجام يقود الفرس ، ما ركب .
وقال قتادة : كان إبليس يقول : إني أرى ما لا ترون وصدق . وقال " إني أخاف الله " ، وكذب والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه ، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم .
وقال عطاء : إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك .
وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه .
وقيل : معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره .
" والله شديد العقاب " . قيل : معناه إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب . وقيل : انقطع الكلام عند قوله أخاف الله ثم يقول الله : والله شديد العقاب .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن إبراهيم بن أبي عليه ، عن طلحة بين عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ،وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما كان من يوم بدر . فقيل : وما رأى يوم بدر ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة " . هذا حديث مرسل .
48. "وإذ زين لهم الشيطان" مقدر باذكر ."أعمالهم " في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم . "وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" مقالة نفسانية والمعنى . أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إيان فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أحدى الفئتين وأفضل الدينين ، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لا تنصب كقولك :لا ضارباً زيداً عندنا. "فلما تراءت الفئتان"أي تلاقى الفريقان ."نكص على عقبيه" رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم ."وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله"أي تبرأ منهم وخاف عليهم و أيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ، وقيل : لما أجمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله :"إني أخاف الله"إني أخافه أن يصيبني مكروهاً من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعودإذ رأى فيه ما لم يرقبله، والأول ما قالهالحسن واختاره ابن بحر .
"والله شديد العقاب" يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفاً .
48. And when Satan made their deeds seem fair to them and said: No one of mankind can conquer you this day, for I am your protector. But when the armies came in sight of one another, he took Sight, saying: Lo! I am guiltless of you. Lo! I see that which ye see not. Lo! I fear Allah. And Allah is severe in punishment.
48 - Remember Satan made their (sinful) acts seem alluring to them, and said: no one among men can overcome you this day, while I am near to you: but when the two forces came in sight of each other, he turned on his heels, and said: Lo I am clear of you; lo I see what ye see not; Lo I fear God; for God is strict in punishment.