(و) نجعله (رسولاً إلى بني إسرائيل) في الصبا أو بعد البلوغ فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت ، وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم: إني رسول الله إليكم (أني) أي بأني (قد جئتكم بآية) علامة على صدقي (من ربكم) هي (أني) وفي قراءة بالكسر استئنافا (أخلق) أصور (لكم من الطين كهيئة الطير) فالكاف اسم مفعول (فأنفخ فيه) الضمير للكاف (فيكون طيراً) وفي قراءة طائر (بإذن الله) بإرادته فخلق لهم الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا فكان يطير وهم ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى وليعلم أن الكمال لله (وأبرِّئ) أشفى (الأكمه) الذي ولد أعمى (والأبرص) وخُصا بالذكر لأنهما داءا إعياء وكان بعثه في زمن الطب فأبرأ في يوم خمسين ألفا بالدعاء بشرط الإيمان (وأحيي الموتى بإذن الله) كرره لنفي توهم الألوهية فيه فأحيا عازر صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر فعاشوا وولد لهم ، وسام بن نوح ومات في الحال (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون) تخبئون (في بيوتكم) مما لم أعاينه فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد (إن في ذلك) المذكور (لآية لكم إن كنتم مؤمنين)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "ورسولا"، ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فترك ذكر ونجعله لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا
وقوله : "أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل بأنه نبيي وبشيري ونذيري، وحجتي على صدقي في ذلك: "أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني : بعلامة من ربكم تحقق قولي ، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، أي : يحقق بها نبوتي، أني رسول منه إليكم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : "ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، ثم بين عن الآية ما هي ، فقال : "أني أخلق لكم".
فتأويل الكلام : ورسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
و "الطير" جمع طائر.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز: كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً ، على التوحيد.
وقرأه آخرون : "كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا"، على الجماع فيهما.
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إلي في ذلك قراءة من قرأ: "كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا"، على الجماع فيهما جميعاً، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله ، وأنه موافق لخط المصحف . واتباع خط المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به ، أعجب إلي من خلاف المصحف.
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا ابن إسحاق : أن عيسى صلوات الله عليه جلس يوماً مع غلمان من الكتاب ، فأخذ طيناً ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائراً؟ قالوا: وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم! بإذن ربي . ثم هيأه ، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائراً بإذن الله ، فخرج يطير بين كفيه . فخرج الغلمان بذلك من أمره ، فذكروه لمعلمهم ، فأفشوه في الناس ، وترعرع ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حمير لها، ثم خرجت به هاربة.
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم : أي الطير أشد خلقاً؟ فقيل له : الخفاش ، كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قوله : "أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، قال : أي الطير أشد خلقاً؟ قالوا: الخفاش ، إنما هو لحم . قال : ففعل.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل : وكيف قيل : "فأنفخ فيه"، وقد قيل : "أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"؟
قيل : لأن معنى الكلام : فانفخ في الطير. ولو كان ذلك : فانفخ فيها. كان صحيحاً جائزاً، كما قال في المائدة "فتنفخ فيها" [المائدة: 110]: يريد: فتنفخ في الهيئة. وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين فأنفخها، بغيرفي. وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول : رب ليلة قد بتها، وبت فيها، قال الشاعر:
ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند أسلاب
بمعنى: ولا قامت عليك ، وكما قال آخر:
إحدى بني عيذ الله استمر بها حلو العصارة حتى ينفخ الصور
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "وأبرئ"، وأشفي. يقال منه: أبرأ الله المريض، إذا شفاه منه ، فهو يبرئه إبراء، و برأ المريض فهو يبرأ برأ، وقد يقال أيضاً: برئ المريض فهو يبرأ، لغتان معروفتان.
واختلف أهل التأويل في معنى "الأكمه".
فقال بعضهم : هو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، فهو يتكمه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثاله.
وقال آخرون : هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كنا نحدث أن "الأكمه"، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين.
حدثني المثنى قال حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : "وأبرئ الأكمه والأبرص"، قال : كنا نحدث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى ، مغموم العينين.
حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الأكمه ، الذي يولد وهو أعمى.
وقال آخرون : بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "وأبرئ الأكمه"، هو الأعمى.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس: الأعمى.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وأبرئ الأكمه"، قال : الأكمه الأعمى.
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله : "وأبرئ الأكمه"، قال : الأعمى .
وقال آخرون : هو الأعمش .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله : "وأبرئ الأكمه"، قال : الأعمش.
قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى الكمه ، العمى. يقال منه : كمهت عينه فهي تكمه كمهاً، وأكمهتها أنا إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل :
كمهت عينيه حتى ابيضتا فهو يلحى نفسه لما نزع
ومنه قول رؤبة :
هرجت فارتد ارتداد الأكمه في غائلات الحائر المتهته
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل ، احتجاجاً منه بهذه العبر والآيات عليهم في نبوته . وذلك أن : الكمه والبرص لا علاج لهما فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج . فكان ذلك من أدلته على صدق قيله : إنه لله رسول ، لأنه من المعجزات ، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوته .
فأما ما قال عكرمة من أن الكمه ، العمش ، وما قاله مجاهد: من أنه سوء البصر بالليل ، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها. ولو كان مما احتج به عيسى على بني إسرائيل في نبوته ، أنه يبرىء الأعمش ، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، لقدروا على معارضته بأن يقولوا: وما في هذا لك من الحجة، وفينا خلق ممن يعالج ذلك ، وليسوا لله أنبياء ولا رسلاً؟.
ففي ذلك دلالة على صحة ما قلنا، من أن "الأكمه"، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئاً لا ليلاً ولا نهاراً. وهو بما قال قتادة - من أنه المولود كذلك - أشبه ، لأن علاج مثل ذلك لا يدعيه أحد من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاج الأبرص.
قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له ، كما:
حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أن اطلعي به إلى الشام . ففعلت الذي أمرت به . فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه ، قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفاً، من أطاق أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .
وأما قوله : "وأنبئكم بما تأكلون"، فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلون ، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه ، "وما تدخرون"، يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبأونه ولا تأكلونه.
يعلمهم أن من حجته أيضاً على نبوته ، مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوته وصدقه في خبره أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله ، من أنبيائه ورسله ومن أحب من خلقه ، إنباءه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله ، عليه.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيراً فتصيب؟
قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ، أنهما ينبئان عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه . ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ، ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه ، من غير أصل تقدم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه ، أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيه . فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدعية علم ذلك ، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال : لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشراً أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب ، فيما يزعمون . فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئاً مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة؟ ما أذهب أعلمه شيئاً إلا وجدته أعلم به مني!!
حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان ، غلمان القرية التي كان فيها، فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن سعيد بن جبير في قوله: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال : كان عيسى ابن مريم ، إذ كان في الكتاب ، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون .
حدثنا القاسم قان ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال : إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب : يا فلان ، إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام ، فتطعمني منه ؟
قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل ، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال : بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه . عيسى ابن مريم يقوله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم ، غيباً علمه الله إياه .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال : ما تأكلون ، ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه.
حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون . ويقول للغلام : انطلق ، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء . فيقولون له : من أخبرك بهذا؟ فيقول : عيسى! ، فذلك قول الله عز وجل : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا: ليس هم ههنا، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير. قال عيسى : كذلك يكونون! ففتحوا عنهم ، فإذا هم خنازير. فذلك قوله : "على لسان داود وعيسى ابن مريم" [المائدة : 78] .
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد، عن الحسن في قوله : "وما تدخرون في بيوتكم"، قال : ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن يخلفه .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فكان القوم لما سألوا المائدة فكانت خوانا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به . فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئاً أنباهم به عيسى ابن مريم ، فقال : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون"، قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت : أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادخروا وخانوا، فذلك قوله : "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين" [المائدة : 115] .
قال ابن يحيى ، قال عبد الرزاق ، قال معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك .
وأصل يدخرون من الفعل ، يفتعلون من قول القائل : ذخرت الشيء بالذال فأنا أذخره . ثم قيل : يذخر ، كما قيل : يدكر من : ذكرت الشيء ، يراد به يذتخر . فلما اجتمعت الذال و التاء وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا دالا مشددة، صيروها عدلاً بين الذال و التاء . ومن العرب من يغلب الذال على التاء ، فيدغم التاء في الذال ، فيقول : وما تذخرون ، وهو مذخر لك ، وهو مذكر.
واللغة التي بها القراءة، الأولى ، وذلك إدغام الذال في التاء ، وإبدالهما دالا مشددة . لا يجوز القراءة بغيرها، لتظاهر النقل من القرأة بها، وهي اللغة الجودى، كما قال زهير:
إن الكريم الذي يعطيك نائله عفواً، ويظلم أحياناً فيطلم
يروى بالظاء ، يريد : فيفتعل من ا لظلم ، ويروى بالطاء أيضا .
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله ، وفي إبرائي الأكمه والأبرص ، وإحيائي الموتى ، وإنبائي إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، ابتداء من غير حساب وتنجيم ، ولا كهانة وعرافة، لعبرة لكم ومتفكراً، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أني محق في قولي لكم : ،إني رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أفي فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، "إن كنتم مؤمنين"، يعني : إن كنتم مصدقين حجج الله وآياته ، مقرين بتوحيده ، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
" ورسولا " أي ونجعله رسول . أو يكلمهم رسول . وقيل : هو معطوف على قوله " وجيها " . وقال الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله " ورسولا " مقحمة والرسول حالا للهاء ، تقديره ويعلمه الكتاب رسولا . وفي حديث أبي ذر الطويل : وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام . " أني أخلق لكم " أي أصور وأقدر لكم " من الطين كهيئة الطير " قرأ الأعرج وأبو جعفر كهية بالتشديد . الباقون بالهمز . والطير يذكر ويؤنث . " فأنفخ فيه " أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا . وطائر وطير مثل تاجر وتجر . قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى . وقيل : لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير تخلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا ، وهي تحيض وتطهر وتلد . ويقال : إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . ويقال : إ ن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا : اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك ، فأخذا طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض ح وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله .
وقوله تعالى : " وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله " الأكمه : الذي يولد أعمى ، عن ابن عباس . وكذا قال أبو عبيدة قال : هو الذي يولد أعمى ، وأنشد لرؤبة :
فارتد ارتداد الأكمه
وقال ابن فارس : الكمه العمى يولد به الإنسان وقد يعرض . قال سويد :
كمهت عيناه حتى ابيضتا
مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل . عكرمة : هو الأعمش ولكنه في اللغة العمى ، يقال كمه يكنه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها . والبرص معروف وهو بياض يعتري الجلد ، والأبرص القمر ، وسام أبرص معروف ، ويجمع على الأبارص . وخص هذان بالذكر لأنهما عياءان . وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك " وأحيي الموتى بإذن الله " قيل أحيا أربع أنفس : العاذر وكان صديقا له ، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح ، فالله أعلم ، فأما العاذر فإنه كان قد توفي قبل ذلك بأيام فدعا الله فقال بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له وأما ابن العجوز فإنه مر به يحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله ، وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها ، فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تحيي من كان موته قريا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فقال لهم : دلوني على قبره فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه . فقال له عيسى كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ؟ فقال : يا روح الله ، إنك دعوتي فسمعت صوتا يقول : أجب روح الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هول ذلك شاب رأسي . فسأله عن النزع فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي ، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، فقال للقوم : صدقوه فإنه نبي ، فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا : هذا سحر . وروي من حديث أسمعيل بن عياش قال : حدثني محمد بن طلحة عن رجل : أن عيسى ابن مريم كان إذا أراد أن يحيى الموتى صلى ركعتين يقرا في الأولى " تبارك الذي بيده الملك " وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ حمد الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد ، ذكره اليهقي وقال : ليس إسناده بالقوي .
قوله تعالى : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " أي بالذي تأكلونه وما تدخرون ، وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد : فأخبرهم فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا ، فذلك قوله " وأنبئكم " الآية . وقرأ مجاهد والزهري والسختياني وما تذخرون بالذال المعجمة مخففا . وقال سعيد بن جبير وغيره : كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه قتادة : أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية .
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: أن الله يعلمه "الكتاب والحكمة", الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة, والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة, و"التوراة والإنجيل", فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران, والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا, وقوله: "ورسولاً إلى بني إسرائيل" أي يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل, قائلاً لهم " أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " وكذلك كان يفعل, يصور من الطين شكل طير, ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عز وجل, الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله " وأبرئ الأكمه " قيل: أنه الذي يبصر نهاراً ولا يبصر ليلاً, وقيل بالعكس. وقيل: الأعشى. وقيل الأعمش. وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه, لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي "والأبرص" معروف, "وأحيي الموتى بإذن الله" قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه, فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة, فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار, فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام, وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام, فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الايات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة, فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد, أو على مداواة الأكمه والأبرص, وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم, بعث في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء, فأتاهم بكتاب من الله عز وجل, لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله, أو بعشر سور من مثله, أو بسورة من مثله, لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً, وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبداً, وقوله: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" أي أخبركم بما أكل أحدكم الان, وما هو مدخر له في بيته لغد, "إن في ذلك" أي في ذلك كله " لآية لكم " أي على صدقي فيما جئتكم به " إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة " أي مقرراً لها ومثبتاً "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم" فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة, وهو الصحيح من القولين, ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئاً, وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ, فكشف لهم عن المغطى في ذلك, كما قال في الاية الأخرى "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" والله أعلم. ثم قال "وجئتكم بآية من ربكم" أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم " فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه " أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه "هذا صراط مستقيم".
قوله 49- "أني قد جئتكم" معمول لرسول لأن فيه معنى النطق كما مر، وقيل أصله بأني قد جئتكم فحذف الجار، وقيل منصوب بمضمر أي تقول أني قد جئتكم، وقيل معطوف على الأحوال السابقة. وقوله " بآية " في محل نصب على الحال : أي متلبسا بعلامة كائنة " من ربكم" . وقوله "أني أخلق" أي أصور وأقدر "لكم من الطين كهيئة الطير" وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى، وهي "أني قد جئتكم" أو بدل من آية أو خبر مبتدأ محذوف: أي هي أني، وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الأعرج وأبو جعفر كهيئة الطير بالتشديد، والكاف في قوله "كهيئة الطير" نعت مصدر محذوف: أي أخلق لكم خلقاً أو شيئاً مثل هيئة الطير. وقوله "فأنفخ فيه" أي في ذلك الخلق، أو ذلك الشيء فالضمير راجع إلى الكاف في قوله: كهيئة الطير، وقيل الضمير راجع إلى الطير: أي الواحد منه، وقيل إلى الطين، وقرئ: فيكون طائراً وطيراً، مثل تاجر وتجر، وقيل إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة. فإن له ثدياً وأسناناً وأذناً ويحيض ويطهر، وقيل إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه يطير بغير ريش، ويلد كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير، ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو يضحك كما يضحك الإنسان، وقيل إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل كان يطير ما دام الناس ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره وقوله "بإذن الله" فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام، قيل كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى، والخلق من الله عز وجل. قوله "وأبرئ الأكمه" الأكمه: الذي يولد أعمى، كذا قال أبو عبيدة. وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان وقد يعرض، يقال: كمه يكمه كمهاً: إذا عمي، وكمهت عينه: إذا أعميتها، وقيل الأكمه: الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وقيل: هو الممسوح العين. والبرص معروف وهو بياض يظهر في الجلد. وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ من أمراض عدة كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك. قوله "وأنبئكم بما تأكلون" أي أخبركم بالذي تأكلونه وبالذي تدخرونه.
49-" ورسولا" أي ونجعله رسولاً " إلى بني إسرائيل" قيل: كان رسولاً في حال الصبا، وقيل:إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني اسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام فلما بعث قال :"أني" قال الكسائي : إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه ، وقيل : معناه بأني "قد جئتكم بآية" علامة"من ربكم" تصدق قولي وإنما قال: بآية وقد أتى بآيات لأن الكل دل على شئ واحد وهو صدقة في الرسالة ، فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل ، قالوا :وما هي ، قال:"أني" قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأني "أخلق" أي أصور وأقدر "لكم من الطين كهيئة الطير" قرأ أبو جعفر كهيئة الطائر ها هنا وفي المائدة ، والهيئة الصورة المهيأة من قولهم : هيأت الشئ الذ ا قدرته وأصلحته " فأنفخ فيه " أي في الطير " فيكون طيراً بإذن الله" قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيراً كثيراً، وقرأ أهل المدينة ويعقوب فيكون طائراً على الواحد ها هنا . وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش، وإنما خص الخفاش لأنه أكمل الطير خلقاً لأن لها ثدياً وأسناناً وهي تحيض. قال وهب: كان يطير مادام الناس ينظرون اليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، وليعلم أن الكمال لله عز وجل" وأبرئ الأكمه والأبرص " أي أشفيهما واصححهما ، واختلفوا في الكمة ، قال ابن عباس و قتادة هو الذي ولد أعمى ، وقال الحسن و السدي : هو الأعمى . وقال عكرمة : هو الأعمش . وقال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل " والأبرص" الذي به وضح ، وانما خص هذين لأنهما داءان عياءان ، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك . قال وهب: ربما اجتمع عند عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى عليه السلام وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.
قوله تعالى :"وأحيي الموتى بإذن الله" قال ابن عباس رضي الله عنهما : قد أحيا أربعة انفس، عاز وابن العجوز ، وابنة العاشر ، وسام بن نوح ، فأما عازر فكان صديقاً له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام :أن أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة ايام ، فقال لأخته : انطلقي بنا الى قبره ، فإنطلقت معهم الى قبره ، فدعا الله تعالى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له .
وأما ابن العجوز مر به ميتاً على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره ، ونزل على أعناق الرجال، ولبس ثيابه ، وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له .
وأما ابنة العاشر كان (أبوها) رجلاً يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس ، فدعا الله عز وجل (باسمه العظم) فاحياها (الله تعالى) وبقيت(بعد ذلك زمناً) وولد لها . وأما سام بن نوح عليه السلام ، فإن عيسى عليه السلام جاء الى قبره فدعا بإسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة ، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكن دعوتك بإسم الله الأعظم ، ثم قال له : مت قال: بشرط ان يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل.
قوله تعالى "وأنبئكم" وأخبركم " بما تأكلون " مما لم أعاينه"وما تدخرون" ترفعونه" في بيوتكم" حتى تأكلوه وقيل : كان يخبر/ الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء.
وقال السدي : كان عيسى عليه السلام في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام : انطلق فقد أكل اهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبي الى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشئ فيقولون من اخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لاتلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا هاهنا ، فقال : فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير ، قال عيسى ، كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ففشى ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو اسرائيل فلما خاف عليه امه حملته على (حمير) لها، وخرجت (هاوية منهم) الى اهل مصر، وقال قتادة : إنما هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى ، وأمروا ان لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا و خبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير.
قوله تعالى : "إن في ذلك" الذي ذكرت " لآية لكم إن كنتم مؤمنين".
49" ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم " منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره: ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمناً معنى النطق فكأنه قال: وناطقاً بأني قد جئتكم، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم. " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " نصب بدل من أني قد جئتكم ، أو جر بدل من آية، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى: أقدر لكم وأصور الأشياء مثل صورة الطير، وقرأ نافع " إني " بالكسر "فأنفخ فيه" الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل. "فيكون طيراً بإذن الله" فيصير حياً طياراً بأمر الله، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع هنا وفي المائدة " طائر " بالألف والهمزة. " وأبرئ الأكمه والأبرص " الأكمة الذي ولد أعمى أو الممسوح العين. روي: أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء. "وأحيي الموتى بإذن الله" كرر بإذن الله دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية. "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها. "إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدقين للحق غير معاندين.
49. And will make him a messenger unto the children of Israel, (saying): Lo! I come unto you with a sign from your Lord. Lo! I fashion for you out of clay the likeness of a bird, and I breathe into it and it is a bird, by Allah's leave. I heal him who was born blind, and the leper, and I raise the dead, by Allah's leave. And I announce unto you what ye eat and what ye store up in your houses. Lo! herein verily is a portent for you, if ye are believers.
49 - And (appoint him) an apostle to the children of Israel, (with this message): i have come to you, with a sign from your lord, in that i make for you out of clay, as it were, the figure of a bird, and breathe into it, and it becomes a bird by God's leave: and i heal those born blind, and the lepers, and i quicken the dead, by God's leave; and i declare to you what ye eat, and what ye store in your houses. surely therein is a sign for you if ye did believe;