إياك نعبد وإياك نستعين) أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيره ونطلب المعونة على العبادة وغيرها
قال أبو جعفر: وتأويل قوله "إياك نعبد": لك اللهم نخشع ونذل ونستكين، إقرارًا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك.
كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد "إياك نعبد"، إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك.
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع ونذل ونستكين، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونخاف وإن كان الرجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية، عند جميع العرب، أصلها الذلة، وأنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذللته السابلة: معبدًا. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
تباري عتاقاً ناجيات، وأتبعت وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد
يعني بالمور: الطريق. وبالمعبد: المذلل الموطوء. ومن ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد. ومنه سمي العبد عبدًا لذلته لمولاه. والشواهد على ذلك من أشعار العرب وكلامها أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله: "وإياك نستعين".
قال أبو جعفر: ومعنى قوله "وإياك نستعين ": وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك في أمورنا كلها لا أحدًا سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
كالذي حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عمارة،قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبدالله بن عباس: "وإياك نستعين "، قال: إياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها.
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته؟ أو جائز، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك معان؟ وذلك هو الطاعة. فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟
قيل: إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته، دون ما قد تقضى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. وجازت مسألة العبد ربه ذلك، لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه فضل منه جل ثناؤه وتفضل به عليه، ولطف منه لطف له فيه. وليس في تركه التففل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن محبته، ولا في بسطه فضله على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في محبته، ومسارعته إلى طاعته فساد في تدبير، ولا جور في حكم، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله في أمره عبده بمسألته عونه على طاعته.
وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا: "إياك نعبد وإياك نستعين "، بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة، أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدًا من عباده بأمر، أو يكلفه فرض عمل، إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه، ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا، لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف حقاً واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله ذلك عبده أو ترك مسألة ذلك. بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل: " إياك نعبد وإياك نستعين "، إنما يسأل ربه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا على تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك ، وتخطئتهم قول القائل: اللهم لا تجر علينا دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم. إذ كان تأويل قول القائل عندهم: اللهم إنا نستعينك اللهم لا تترك معونتنا التي ترككها جور منك.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "إياك نعبد وإياك نستعين "، فقدم الخبر عن العبادة، وأخرت مسألة المعونة عليها بعدها؟ وإنما تكون العبادة بالمعونة، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل، والعبادة بها.
قيل: لما كان معلومًا أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه، وكان محالاً أن يكون العبد عابدًا إلا وهو على العبادة معان، وأن يكون معاناً عليها إلا وهو لها فاعل كان سواء تقديم ما قدم منهماعلى صاحبه. كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها: قضيت حاجتي فأحسنت إلي ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك، أو قلت: أحسنت إلي فقضيت حاجتي ، فقدمت ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتك إلا وهو إليك محسن، ولا محسناً إليك إلا وهو لحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد.
قال أبو جعفر: وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القيس:
ولو ان ما أسعى لأدنى معيشة كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
يريد بذلك: كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرىء القيس بمعزل. من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال وبطلب الكثير، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير، فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وجودها، فيكون ذكر أحدهما دالاً على الآخر، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه، أن يكون موضوعاً في درجته ومرتباً في مرتبته.
فإن قال: فما وجه تكراره "إياك" مع قوله: "نستعين"، وقد تقدم ذلك قبل " نعبد " وهلا قيل: إياك نعبد ونستعين، إذ كان المخبر عنه أنه المعبود هو المخبر عنه أنه المستعان؟
قيل له: إن الكاف التي مع إيا هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل أعني بقوله نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل. وهي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل فكثرت بـ (إيا) متقدمة، إذ
كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلما كانت الكاف من (إئاك ! هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة
بالفعل إذا كانت بعد الفعل، ثم كان حطها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به، فيقال: اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك ، وكان ذلك أفصح في كلام العرب، من أن يقال: اطص إدا انعبدك ونستعين ونحمد!- كان كذلك، إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب إيا، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل. كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلة به، لان كان ترك إعادتها جائزا.
وقد ظن بعفر من لم ينعم النظر أن إعادة إياك مع نستعين ، بعد تقدمها في قوله (إياك
نعبد،، بمعنى قول عدي بن زيد العبادي:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وكقول أعشى همدان:
بين الأشج وبين قيس باذخ بخ بخ لوالده وللمولود
وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ إئاك أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفا
من العلة، وليس ذلك حكم بين ، لأنها لا تكون- إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرا إذا أعيدت، إذ كانت لا تنفرد بالواحد. وأنها لو أفردت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أن قائلا لو قال: لم!الشمس قد فصلت بين النهار، لكان من الكلام خلفا، لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه بين .
ولو قال القائل: اللهم إياك نعبد، لكان ذلك كلاما تاما. فكان معلوما بذلك أن حاجة كل
كلمة- كانت نظيرة إياك نعبد- إلى إياك كحاجة نعبد إليها، وأن الصواب أن تكون معها
9 إياك ، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ، وبينا حكم مخالفة ذلك حكم بين ، فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله.
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : "إياك نعبد" رجع من الغيبة الى الخطاب على التلوين ، لأن من أول السورة الى ها هنا خبراً عن الله تعالى وثناءً عليه ، كقوله : "وسقاهم ربهم شرابا طهورا" . ثم قال : "إن هذا كان لكم جزاء" . وعكسه : "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" على ما يأتي . و "نعبد" معناه نطيع ، والعبادة الطاعة والتذلل . وطريق معبد إذا كان مذللاً للسالكين ، قاله الهروي . ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعباده الله تعالى ، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك . "وإياك نستعين" أي نطلب العون والتأييد والتوفيق .
قال السلمي في حقائقه : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول : سمعت أبا حفص الفرغاني يقول : من قرأ بـ "إياك نعبد وإياك نستعين" فقد برىء من الخبر والقدر .
الرابعة والعشرون : إن قيل : لم قدم المفعول على الفعل ؟ قيل له : قدم اهتماماً ، وشأن العرب تقديم الأهم . يذكر أن أعرابياً سب آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له الساب : إياك أعني : فقال له الآخر : وعنك اعرض ، فقدما الأهم . وايضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ، فلا يجوز نعبدك ونستعينك ، ولا نعبد إياك ونستعين إياك ، فيقدم الفعل على كناية المفعول ،وإنما يتبع لفظ القرآن . وقال العجاج :
إياك ادعو فتقبل ملقي واغفر خطاياي وكثر ورقي
ويروى : وثمر . وأما قول الشاعر :
إليك حتى بلغت إياكا
فشاذ لا يقاس عليه . والورق بكسر الراء من الدراهم ، وبفتحها المال . وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونسعتين غيرك .
الخامسة والعشرون : الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من إياك في الموضعين . وقرأ عمرو بن فائد : إياك بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها . وهذه قراءة مرغوب عنها ، فإن المعنى يصير : شمسك نعبد أو ضوءك ، وإياة الشمس ( بكسر الهمزة ) : ضوءها ، وقد تفتح . وقال :
سقته إياه الشمس إلا لثاته أسف فلم تكدم عليه بإثمد
فإن أسقطت الهاء مددت . ويقال : الإياه للشمس كالهالة للقمر ، وهي الدارة حولها. وقرأ الفضل الرقاشي :
إياك ( بفتح الهمزة ) وهي لغة مشهورة . وقرأ أبو السوار الغنوي : هياك في الموضعين ، وهي لغة ، قال :
فيهاك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره
السادسة والعشرون : "وإياك نستعين" .
عطف جملة على جملة . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : نستعين بكسر النون ، وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ، ليدل على أنه من استعان ، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل . وأصل نستعين نستعون ، قلبت حركة الواو الى العين فصارت ياء ، والمصدر استعانة ، والأصل استعوان ، قلبت حركة الواو الى العين فانقلبت ألفاً ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة ، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ، ولزمت الهاء عوضاً .
قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من إياك وقرأ عمرو ابن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة لأن إيا ضوء الشمس ، وقرأ بعضهم أياك بفتح الهمزة وتشديد الياء ، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال الشاعر :
فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره
ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم ، والعبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف . وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة ، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين ، وهذا كما قال بعض السلف الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة "إياك نعبد وإياك نستعين" فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: "فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون" ، "قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا" ، "رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا" وكذلك هذه الاية الكريمة "إياك نعبد وإياك نستعين" وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب وهو مناسبة لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال "إياك نعبد وإياك نستعين" وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد "الحمد لله رب العالمين" قال الله حمدني عبدي ، وإذا قال "الرحمن الرحيم" قال الله أثنى علي عبدي ، فإذا قال "مالك يوم الدين" قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال "إياك نعبد وإياك نستعين" قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال "اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما "إياك نعبد" يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا لا غيرك "وإياك نستعين" على طاعتك وعلى أمورنا كلها وقال قتادة "إياك نعبد وإياك نستعين" يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم وإنما قدم "إياك نعبد" على "وإياك نستعين" لأن العبادة له هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم والله أعلم . فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى : "إياك نعبد وإياك نستعين" فإن كانت للجمع فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بخير ، ومنهم قال يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد له قيل إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل "إياك نعبد وإياك نستعين" وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله عز وجل وفقرهم إليه . ومنهم من قال إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال : "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" "وأنه لما قام عبد الله يدعوه" ، "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً" فسماه عبداً عند إنزاله عليه وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول : " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وقد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ، قال ولأن الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مصالح أمته ، وهذا القول خطأ والتوجيه أيضاً ضعيف لا حاصل له ولم يتعرض له الرازي بتضعيف ولا رد ، وقال بعض الصوفية العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب ، قالوا وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده ، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى وهذا أيضاً عندهم ضعيف ، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال ، قالوا ولهذا يقول المصلي : أصلي لله، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا : كون العبادة لله عز وجل لا ينافي أن يطلب معها ثواباً ولا أن يدفع عذاباً كما قال ذلك الأعرابي : أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم "حولها ندندن" .
5- "إياك نعبد وإياك نستعين" قراءة السبعة وغيرهم بتشديد الياء، وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة، وقرأ أبو السوار الغنوي هياك في الموضعين وهي لغة مشهورة. والضمير المنفصل هو إيا وما يلحقه من الكاف والهاء والياء هي حروف لبيان الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص، وقيل: للاهتمام، والصواب أنه لهما ولا تزاحم بين المقتضيات. والمعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل. قال ابن كثير: وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً له كما تقرر في علم المعاني. والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد، وقيل: إن المقام لما كان عظيماً لم يستقل به الواحد استقصاراً لنفسه واستصغاراً لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس، وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب، وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إياك نعبد": يعني نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك، وإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وحكى ابن كثير عن قتادة أنه قال في "إياك نعبد وإياك نستعين": يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم. وفي صحيح مسلم من حديث المعلى بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد "الحمد لله رب العالمين" قال: حمدني عبدي، وإذا قال "الرحمن الرحيم" قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: "مالك يوم الدين" قال: مجدني عبدي، فإذا قال: "إياك نعبد وإياك نستعين" قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وأخرج أبو القاسم البغوي والباوردي معاً في معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي العدو فسمعته يقول: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، قال: فلقد رأيت الرجال تصرع فتضر بها الملائكة من بين يديها ومن خلفها".
5. قوله: " إياك نعبد " (( إياً )) كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر ويستعمل مقدماً على الفعل فيقال: إياك أعني، وإياك أسأل ولا يستعمل مؤخراً إلا منفصلاً. فيقال: ما عنيت إلا إياك.
قوله: " نعبد " أي نوحدك ونطيعك خاضعين، والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده يقال: طريق معبد أي مذلل.
" وإياك نستعين " نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا فإن قيل: لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة والاستعانة تكون قبل العبادة؟ فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل. ونحن بحمد الله نجعل التوفيق (والاستعانة) مع الفعل، فلا فرق بين التقديم والتأخير ويقال: الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها.
5- " إياك نعبد وإياك نستعين " ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً ، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً .
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر . ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس كقوله تعالى : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " وقوله : " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه " وقول امرئ القيس :
تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود
وإيا ضمير منصوب منفصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك . وقال الخليل : إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ " إياك " بفتح الهزة و" إياك " بقلبها هاء .
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي ، مذلل ، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى .
والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية ، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأنى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل . وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي ، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه ، وهذا القسم لا بتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها ، أو في أداء العبادات ، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة ، وحاضري صلاة الجماعة . أو له ولسائر الموحدين . أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما )معناه نعبدك ولا نعبد غيرك ( وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصله سنية بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال : " لا تحزن إن الله معنا " . على ما حكاه عن كليمه حين قال : " إن معي ربي سيهدين " . وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير ، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، ويعلم أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً و اعتداداً منه بما يصدر عنه ، فعقبه بقوله : " وإياك نستعين " ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق ، وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعين بك . وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها .
5. Thee (alone) we worship; Thee alone we ask for help.
5 - Thee do we worship, And Thine aid we seek