5 - (يا أيها الناس) أي أهل مكة (إن كنتم في ريب) شك (من البعث فإنا خلقناكم) أي أصلكم آدم (من تراب ثم) خلقنا ذريته (من نطفة) مني (ثم من علقة) وهي الدم الجامد (ثم من مضغة) وهي لحمة قدر ما يمضغ (مخلقة) مصورة تامة الخلق (وغير مخلقة) أي غير تامة الخلقة (لنبين لكم) كمال قدرتنا لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته (ونقر) مستأنف (في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) وقت خروجه (ثم نخرجكم) من بطون أمهاتكم (طفلا) بمعنى أطفالا (ثم) نعمركم (لتبلغوا أشدكم) أي الكمال والقوة وهو بين الثلاثين إلى الأربعين سنة (ومنكم من يتوفى) يموت قبل بلوغ الأشد (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أخسه من الهرم والخرف (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) قال عكرمة من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة (وترى الأرض هامدة) يابسة (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) تحركت (وربت) ارتفعت وزادت (وأنبتت من) زائدة (كل زوج) صنف (بهيج) حسن
يقول تعالى ذكره : ومنكم أيها الناس من يتوفى قبل أن يبلغ أشده فيموت ، و منكم من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم ،فيرد من بعد انتهاء شبابه ، و بلوغه غاية أشده إلى أرذل عمره ، و ذلك الهرم حتى يعود كهيئته في حال صباه ، لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا . معنى الكلام : و منكم من يرد إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشده " لكيلا يعلم من بعد علم " كان يعلمه " شيئا " وقوله : "وترى الأرض هامدة " يقول تعالى ذكره : و ترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات و الزرع ، و أصل الهمود : الدروس و الدثور ، و يقال منه : همدت الأرض تهمد همودا ، و منه قول الأعشى ميمون بن قيس :
قالت قتيلة : ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا
و الهمد : جمع هامد ، كما الركع جمع راكع .
و بنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله " وترى الأرض هامدة " قال : نبات فيها .
و قوله : " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " يقول تعالى ذكره : فإذا نحن أنزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها ، المطر من السماء اهتزت :يقول : تحركت بالنبات " وربت " يقول : و أضعفت النبات بمجيء الغيث .
و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " اهتزت وربت "
قال : عرف الغيث في ربوها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " اهتزت وربت " قال : حسنت ، و عرف الغيث في ربوها .
و كان بعضهم يقول : معنى ذل ك: فإذا أنزلنا علها الماء اهتزت ، و يوجه المعنى إلى الزرع ، و إن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الأرض ، و قرأت قراء الأمصار " وربت " بمعنى : الربو : الذي هو النماء و الزيادة . و كان أبو جعفر القارئ يقرأ ذلك وربأت بالهمز .
حدثت عن الفراء ، عن أبي عبد الله التميمي عنه . و ذلك غلط ، لأنه لا وجه للرب ههنا ، و إنما يقال :ربأ بالهمز بمعنى : حرس من الربيئة ، و لا معنى للحراسة في هذا الموضع ، و الصحيح من القراءة ما عليه قراء الأمصار .
و قوله : " وأنبتت من كل زوج بهيج " يقول جل ثناؤه : و أنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث ، من كل نوع بهيج ، يعني بالبهيج : البهج ، و هو الحسن .
وبنحو ما قلنا في ذل كقال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " وأنبتت من كل زوج بهيج " قال : حسن .
حدثنا الحسن ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
قوله تعالى: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " - إلى قوله - " مسمى " فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: " إن كنتم في ريب من البعث " هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى. وقوله: " إن كنتم في ريب " متضمنه التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي الحسن " البعث " بفتح العين، وهي لغة في " البعث " عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف " بعث ". والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. " فإنا خلقناكم " أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام " من تراب ". " ثم " خلقنا ذريته " من نطفة " وهو المني، سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه، ومنه الحديث:
" حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جوراً ". أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. " ثم من علقة " وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط، أي الطري. وقيل: الشديد الحمرة. " ثم من مضغة " وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، ومنه الحديث:
" ألا وإن في الجسد مضغة ". وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشر.
الثانية: روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر: أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: ((يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد ، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت؟فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة. فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها، ثم قرأ عامر: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ". وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال:
" إن الله قد وكل بالرحم ملكاً فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه ". وفي الصحيح أيضاً " عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى..." وذكر الحديث. وفي الصحيح " عن عبد الله بن مسعود قال:
حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفح فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد... " الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول، فإن فيه: " يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً علقة ثم أربعين يوماً مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح " فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه " قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش : ما يجمع في بطن أمه؟ فقال حدثنا خيثمة قال: قال عبد الله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوماً ثم تصير دماً في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة.
الثالثة: نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه، ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " [الأعراف: 11]. وقال: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " [ المؤمنون: 12 - 13] وقال: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ". وقال تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " [التغابن: 2]. ثم قال: " وصوركم فأحسن صوركم " [غافر: 64]. وقال: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " [التين: 4] وقال: " خلق الإنسان من علق " [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله: " ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح " أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم.
الرابعة: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.
الخامسة: النطفة ليست بشيء يقيناً، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهو كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال ما يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإن خفي التخطيط وكان لحماً فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.
السادسة: قوله تعالى: " مخلقة وغير مخلقة " قال الفراء : " مخلقة " تامة الخلق، " وغير مخلقة " السقط. وقال ابن الأعرابي: " مخلقة " قد بدأ خلقها، " وغير مخلقة " لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء. قال ابن العربي : إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة، لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد.
قلت: التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقاً بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق، ولهذا قال الله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " [المؤمنون: 14] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: " مخلقة وغير مخلقة " يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط، أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصاً غير تمام. وقيل: المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت. ابن عباس: المخلقة ما كان حياً، وغير المخلقة السقط. قال:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء
السابعة: أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك و الأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقةً أو غير مخلقة. قال مالك : إذا علم أنها مضغة وقال الشافعي و أبو حنيفة : إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخاً يصلى عليه، فإن لم يستهل صارخاً لم يصل عليه عند مالك و أبي حنيفة و الشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه، وقاله ابن المسيب و ابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم، فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية " فإنا خلقناكم من تراب " - إلى - " وغير مخلقة ". قال ابن العربي : لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا استهل المولود ورث ". الاستهلال: رفع الصوت، فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري و الأوزاعي و الشافعي . قال الخطابي : وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك : لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين و الشعبي و الزهري و قتادة .
الثامنة: قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي : لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه. قال مالك : إذا سقط الجنين لم يستهل صارخاً ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبداً، حتى يستهل صارخاً ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.
التاسعة: ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال: قال الله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " [الطلاق: 4]. قال القاضي إسماعيل : والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقاً وكونه ولداً وحملاً. قال ابن العربي : ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقاً.
قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقوله عليه الصلاة والسلام: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه " يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملاً وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " [الطلاق: 4]. ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسداً كالمخطط، وهذا بين.
العاشرة: روى ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لسقط أدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي ". وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال: " أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي ".
الحادية عشرة: " لنبين لكم " يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. " ونقر في الأرحام " قرىء بنصب " نقر " و " نخرج "، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال: قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج : " نقر " بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث، فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع " ونقر "، المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرىء: ويقر و " يخرجكم " بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ ابن وثاب " ما نشاء " بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين [و] جنين، فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً. وقال " ما نشاء " ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل، أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.
الثانية عشرة: قوله تعالى: " ثم نخرجكم طفلا " أي أطفالاً، فهو اسم جنس. وأيضاً فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:
يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير
ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع، قال الله تعالى: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " [النور: 31]. وقال الطبري : وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " [النساء: 4]. وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضاً طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضاً: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، والجمع مطافل ومطافيل. والطفل (بالفتح في الطاء) الناعم، يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل (بالتحريك): بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل (أيضاً): مطر، قال:
لوهد جاده طفل الثريا
" ثم لتبلغوا أشدكم " قيل: إن " ثم " زائدة كالواو في قوله: " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " [الزمر: 73]، لأن ثم من حروف النسق كالواو. " أشدكم " كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد مضى في ((الأنعام)) بيانه. " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " أي أخسه وأدونه وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال: " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ". كما قال في سورة يس: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " [يس: 68]. " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول:
اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر ". أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى.
قوله تعالى: " وترى الأرض هامدة " ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول: " فإنا خلقناكم من تراب " فخاطب جمعاً. وقال في الثاني: " وترى الأرض " فخاطب واحداً، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. " هامدة " يابسة لا تنبت شيئاً، قاله ابن جريج . وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً وأرى ثيابك باليات همدا
الهروي : " هامدة " أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث:
" حتى كاد يهمد من الجوع " أي يهلك. يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي وهمدت النار تهمد.
قوله تعالى: " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة، يقال: هززت الشيء فاهتز، أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزاً فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية، فسماه اهتزازاً مجازاً. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف، قاله المبرد. واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:
تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر
والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. " وربت " أي ارتفعت وزادت. وقيل: انتفخت، والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربواً أي زاد، ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف، فهو رابىء وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس:
بعثنا ربيئاً قبل ذاك مخملاً كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي
" وأنبت " أي أخرجت. " من كل زوج " أي لون. " بهيج " أي حسن، عن قتادة . أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن، يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج (بالضم) بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله: " اهتزت وربت " يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد, ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب" أي في شك "من البعث" وهو المعاد, وقيام الأرواح والأجساد, يوم القيامة "فإنا خلقناكم من تراب" أي أصل برئه لكم من تراب, وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام "ثم من نطفة" أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين "ثم من علقة ثم من مضغة" وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها, ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله, فتمكث كذلك أربعين يوماً, ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط, ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء, فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط, وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط, ولهذا قال تعالى: "ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة" أي كما تشاهدونها "لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى" أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها, كما قال مجاهد في قوله تعالى: "مخلقة وغير مخلقة" قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق, فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة, أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح, وذكر وأنثى, وكتب رزقها وأجلها, وشقي أو سعيد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وعمله وأجله, وشقي أو سعيد, ثم ينفخ فيه الروح".
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم, أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً, وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أو أنثى, شقي أو سيعد, ما الأجل وما الأثر, وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك ؟ فتقول: الله, فيقال من رازقك ؟ فتقول الله, فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب, فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة, قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها, حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان, ثم تلا عامر الشعبي "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة" فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة, وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً, وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء , حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين, فيقول: أي رب أشقي أم سيعد ؟ فيقول الله ويكتبان, فيقول: أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان, ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله, ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه.
وقوله: "ثم نخرجكم طفلا" أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله, ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئاً, ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار, ولهذا قال: "ثم لتبلغوا أشدكم" أي يتكامل القوي ويتزايد, ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر, "ومنكم من يتوفى" أي في حال شبابه وقواه, "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر, ولهذا قال: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" كما قال تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير".
وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم , حدثنا خالد الزيات , حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال: "المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته, وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه, فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا, فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ الخمسين, خفف الله حسابه, فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وشفعه في أهل بيته, وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه, فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير, فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه".
هذا حديث غريب جداً, وفيه نكارة شديدة, ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفاً ومرفوعاً, فقال: حدثنا أبو النضر , حدثنا الفرج , حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري , عن عمرو بن حعفر عن أنس قال: "إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة, أمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون, والبرص, والجذام, فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه, وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها, وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء, وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله" ثم قال: حدثنا هاشم , حدثنا الفرج , حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب , عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض , حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري , عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون, والبرص, والجذام" وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء, رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي , عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء: الجنون, والجذام, والبرص, فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب, فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء, فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته".
وقوله: "وترى الأرض هامدة" هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة, وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة : غبراء متهشمة. وقال السدي : ميتة, "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" أي فإذا أنزل الله عليها المطر, اهتزت اي تحركت بالنبات, وحييت بعد موتها, وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى, ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها, ولهذا قال تعالى: "وأنبتت من كل زوج بهيج" أي حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: "ذلك بأن الله هو الحق" أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء "وأنه يحيي الموتى" أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع "إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير" "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" "وأن الساعة آتية لا ريب فيها" أي كائنة لا شك فيها ولا مرية, "وأن الله يبعث من في القبور" أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم, كما قال تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " والايات في هذه كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز , حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة, وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به ؟ قلنا: بلى, قال: فا الله أعظم قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى, وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: أما مررت بوادي أهلك محلاً ؟ قال: بلى. قال ثم مررت به يهتز خضراً ؟ قال: بلى. قال فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه". ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به.
ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق , أنبأنا ابن المبارك , أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة, ثم مررت بها مخصبة ؟ قال: نعم. قال كذلك النشور" والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبيس بن مرحوم , حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله هو الحق المبين, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, دخل الجنة.
ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال: 5- "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث" قرأ الحسن البعث بفتح العين وهي لغة، وقرأ الجمهور بالسكون، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه. والمعنى: إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدإ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة "فإنا خلقناكم من تراب" في ضمن خلق أبيكم آدم "ثم" خلقناكم "من نطفة" أي من مني، سمي نطفة لقلته، والنطفة: القليل من الماء. وقد يقع على الكثير منه، والنطفة: القطرة، يقال نطف ينطف: أي قطر، وليلة نطوف: أي دائمة القطر "ثم من علقة" والعلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط: أي الطري أو المتجمد، وقيل الشديد الحمرة والمراد الدم الجامد المتكون من المني "ثم من مضغة" وهي القطعة من الحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة "مخلقة" بالجر صفة لمضغة: أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير "وغير مخلقة" أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها. قال ابن الأعرابي: مخلقة يريد قد بدأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور. قال الأكثر: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح. قال الفراء: مخلقة تام الخلق، وغير مخلقة: السقط، ومنه قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء
واللام في "لنبين لكم" متعلق بخلقنا: أي خلقناكم على هذا النمط لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم "ونقر في الأرحام ما نشاء" روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب تقر عطفاً على نبين، وقرأ الجمهور "نقر" بالرفع على الاستئناف: أي ونحن نقر. قال الزجاج: نقر بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، ومعنى الآية: ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطاً "إلى أجل مسمى" وهو وقت الولادة، وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ليبين -ويقر- ويخرجكم بالتحتية في الأفعال الثلاثة، وقرأ ابن أبي وثاب ما نشاء بكسر النون "ثم نخرجكم طفلاً" أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلاً: أي أطفالاً، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد. قال الزجاج طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة: يعني في نخرجكم، والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة، ومنه قول الشاعر:
يليحنني من حبها ويلمنني إن العواذل لسن لي بأمير
وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع، قال الله سبحانه: "أو الطفل الذين لم يظهروا". قال ابن جرير: هو منصوب على التمييز كقوله: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً" وفيه بعد، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ " ثم لتبلغوا أشدكم " قيل هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له، كأنه قيل: نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل إن ثم زائدة، والتقدير لتبلغوا، وقيل إنه معطوف على نبين، والأشد هو كمال العقل وكمال القوة والتمييز، فيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام "ومنكم من يتوفى" يعني قبل بلوغ الأشد، وقرئ يتوفى مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور "يتوفى" مبنياً للمفعول "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" أي شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من العلم، والمعنى: أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها، لا علم له ولا فهم، ومثله قوله: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين " وقوله: "ومن نعمره ننكسه في الخلق"، "وترى الأرض هامدة" هذه حجة أخرى على البعث، فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئاً. قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، وقيل دراسة، والهمود الدروس، ومنه قول الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً وأرى ثيابك باليات همودا
وقيل هي التي ذهب عنها الندى، وقيل هالكة، ومعني هذه الأقوال متقاربة "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" المراد بالماء هنا المطر، ومعنى اهتزت تحركت، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز: أي حركته فتحرك: والمعنى: تحركت بالنبات، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة، فسماه اهتزازاً مجازاً. وقال المبرد: المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض، ومعنى ربت ارتفعت، وقيل انتفخت. والمعنى واحد، وأصله الزيادة، يقال ربا الشيء يربوا ربواً إذا زاد ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له رابئ ورابئة وربيئة "وأنبتت" أي أخرجت "من كل زوج بهيج" أي من كل صنف حسن ولون مستحسن، والبهجة الحسن.
5. " يا أيها الناس إن كنتم في ريب "، في شك، " من البعث فإنا خلقناكم " يعني: أباكم آدم الذي هو أصل النسل ، " من تراب ثم من نطفة" يعني: ذريته، والنطفة هي المني، وأصلهاالماء القليل وجمعها نطاف، " ثم من علقة "، وهي الدم الغليظ المتجمد، وجمعها علق، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً، " ثم من مضغة "، وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، " مخلقة وغير مخلقة ".
قال ابن عباس و قتادة : ((مخلقة)) أي تامة الخلق، ((وغير مخلقة)) غير تامة أي ناقصة الخلق.
وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة، يعني السقط.
وقيل: ((المخلقة)) الولد الذي تأتي به المرأة لوقته، ((وغير المخلقة)) السقط.
روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة، وإن قال: مخلقة، قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته.
" لنبين لكم "، كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة.
وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة.
" ونقر في الأرحام ما نشاء "، فلا تمجه ولا تسقطه، " إلى أجل مسمى "، وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة. " ثم نخرجكم " من بطون أمهاتكم " طفلاً " أي: صغراً، ولم يقل: أطفالاً، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد. وقيل: تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور. " ثم لتبلغوا أشدكم " يعني: الكمال والقوة.
" ومنكم من يتوفى "، من قبل بلوغ الكبر، " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر "، أي: الهرم والخرف، " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا "، أي: يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال: " وترى الأرض هامدة "، أي: يابسة لا نبات فيها، " فإذا أنزلنا عليها الماء "، المطر، " اهتزت "، تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها، " وربت "، أي: ارتفعت وزادت، وقيل: فيه تقديم وتأخير معناه: ربت واهتزت وربا نباتها، فحذف المضاف، والاهتزاز في النبات أظهر، يقال: اهتز النبات أي: طال وإنما أنث لذكر الأرض.
وقرأ أبو جعفر " وربت " بالهمزة وكذلك في حم السجدة، أي: ارتفعت وعلت.
" وأنبتت من كل زوج بهيج "، أي: صنف حسن يبهج به من رآه، أي: يسر، فهذا دليل آخر على البعث.
5ـ " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " من إمكانه وكونه مقدوراً ، وقرئ " من البعث " بالتحريك كالجلب . " فإنا خلقناكم " أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم . " من ترابً " بخلق آدم منه ، أو الأغذية التي يتكون منها المني . " ثم من نطفة " مني من النطف وهو الصب . " ثم من علقة " قطعة من الدم جامدة . " ثم من مضغة " قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ . " مخلقة وغير مخلقة " مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة . " لنبين لكم " بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً قدر على ذلك ثانياً ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر . " ونقر في الأرحام ما نشاء " أن نقره " إلى أجل مسمى " هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ (( ونقره )) بالنصب وكذا قوله : " ثم نخرجكم طفلاً " عطفاً على (( نبين )) كأن خلقهم مدرجاً لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعاً ونصباً ويقر بالياء " ونقر " من قررت الماء إذا صببته ، و " طفلاً " حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر. " ثم لتبلغوا أشدكم " كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور . " ومنكم من يتوفى " عند بلوغ الأشد أو قبله . وقرىء " يتوفى " أو يتوفاه الله تعالى . " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وهو الهرم والخرف ، وقرئ بسكون الميم . " لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً " ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره . " وترى الأرض هامدةً " ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رماداً . " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " تحركت بالنبات . " وربت " وانتفخت ، وقرئ (( وربأت )) أي ارتفعت . " وأنبتت من كل زوج " من كل صنف " بهيج " حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة.
5. O mankind! if ye are in doubt concerning the Resurrection, then lo! We have created you from dust, then from a drop of seed, then from a clot, then from a little lump of flesh shapely and shapeless, that We may make (it) clean for you. And We cause what We will to remain in the wombs for an appointed time, and afterward We bring you forth as infants, then (give you growth) that ye attain your full strength. And among you there is he who dieth (young), and among you there is he who is brought back to the most abject time of life, so that, after knowledge, he knoweth naught. And thou (Muhammad) seest the earth barren, but when We send down water thereon, it doth thrill and swell and Put forth every lovely kind (of growth).
5 - O mankind! if ye have a doubt about resurrection, (consider) that we created you out of dust, then out of Sperm, then out of a leech like clot, then out of a morsel of flesh, partly unformed, in order that We may manifest (our power) to you; and We cause whom We will to rest in the wombs For an appointed term, Then do we bring you out as babes, then (foster you) that ye may reach your age Of full strength; and some of you are called to die, and some are sent back to the feeblest old age, So that they know nothing after having know (much). and (further), thou seest the earth barren and lifeless, but when We pour down rain on it, it is stirred (to life), it swells, and it puts forth every kind of beautiful growth (in pairs).