5 - (ما قطعتم) يا مسلمون (من لينة) نخلة (أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) خيركم في ذلك (وليخزي) بالاذن في القطع (الفاسقين) اليهود في اعتراضهم أن قطع الشجر المثمر فساد
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل النضير وقطع ودي البويرة فأنزل الله ما قطعتم من لينة أو تركتموها الآية
وأخرج أبو يعلي بسند ضعيف عن جابر قال رخص لهم قطع النخل ثم شدد عليهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله هل علينا إثم فيما قطعناه أو تركناه فأنزل الله ما قطعتم من لينة أو تركتموها الآية
ك وأخرج ابن إسحق عن يزيد بن رومان قال لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير تحصنوا منه في الحصون فأمر بقطع النخل والتحريق فيها فنادوه يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله
يقول تعالى ذكره : ما قطعتم من ألوان النخل ، أو تركتموها قائمة على أصولها .
اختلف أهل التأويل في معنى اللينة ، فقال بعضهم : هي جميع أنواع النخل سوى العجوة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة : " ما قطعتم من لينة " قال : النخلة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية " ما قطعتم من لينة أو تركتموها " قال : اللينة : ما دون العجوة من النخل .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، في قوله " ما قطعتم من لينة " قال : اللينة : ما خالف العجوة من التمر .
وحدثنا به مرة أخرى فقال : من النخل .
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " ما قطعتم من لينة " قال : النخل كله ما خلا العجوة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله " ما قطعتم من لينة " واللينة : ما خلا العجوة من النخل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر عن الزهري " ما قطعتم من لينة " ألوان النخل كلها إلا العجوة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، قال : ثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس " ما قطعتم من لينة " قال : النخلة دون العجوة .
وقال آخرون : النخل كله لينة ، العجوة منه وغير العجوة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد " ما قطعتم من لينة " قال : النخلة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " ما قطعتم من لينة " قال : نخلة ، قال : نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل ، وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين ، ونزول القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وإنما قطعه وتركه بإذنه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : ثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون " ما قطعتم من لينة " قال : النخلة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ما قطعتم من لينة " ، قال : اللينة : النخلة ، عجوة كانت أو غيرها ، قال الله " ما قطعتم من لينة " قال : الذي قطعوا من نخل النضير حين غدرت النضير .
وقال آخرون : هي لون من النخل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " ما قطعتم من لينة " قال : اللينة : لون من النخل .
وقال آخرون : هي كرام النخل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، قال : ثنا سفيان في " ما قطعتم من لينة " قال : من كرام نخلهم .
والصواب من القول في ذلك قول من قال : اللينة : النخلة ، وهن من ألوان النخل ما لم تكن عجوة ، وإياها عنى ذو الرمة بقوله :
طراق الخوافي واقع فوق لينة ندى ليله في ريشه يترقرق
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : اللينة من اللون ، والليان في الجماعة واحدها اللينة ، وقال : وإنما سميت لينة لأنه فعلة من فعل ، وهو اللون ، وهو ضرب من النخل ، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى الياء ، وكان بعضهم ينكر هذا القول ويقول : لو كان كما قال لجمعوه : اللوان لا الليان ، وكان بعض نحويي الكوفة يقول : جمع اللينة لين ، وإنما أنزلت هذه الآية فيما ذكر من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع نخل بني النضير وحرقها ، قالت بنو النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه ، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها ؟ فأنزل الله هذه الآية ، فأخبرهم أن ما قطع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ترك ، فعن أمر الله فعل .
وقال آخرون : بل نزل ذلك لاختلاف كان من المسلمين في قطعها وتركها .
ذكر من قال : نزل ذلك لقول اليهود للمسلمين ما قالوا :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثنا يزيد بن رومان ، قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم يعني ببني النضير تحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل ، والتحريق فيها ، فنادوه يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " .
ذكر من قال : نزل ذلك لاختلاف كان بين المسلمين في أمرها .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " ما قطعتم من لينة أو تركتموها " ... الآية ، أي ليعظهم ، فقطع المسلمون يومئذ النخل ، وأمسك آخرون كراهية أن يكون إفساداً فقالت اليهود ، الله أذن لكم في الفساد ؟ فأنزل الله " ما قطعتم من لينة " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها " قال : نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل ، وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين ، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وإنما قطعه وتركه بإذنه .
حدثني سليمان بن عمر بن خالد البرقي ، قال ابن المبارك عن موسى بن عقبة ، عن نافع عن ابن عمر قال : قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير ، وفي ذلك نزلت " ما قطعتم من لينة " ... الآية ، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وقوله " فبإذن الله " يقول : فبأمر الله قطعتم ، وتركتم ، وليغيظ بذلك أعداءه ، ولم يكن فساداً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان " فبإذن الله " : أي فبأمر الله قطعت ، ولم يكن فساداً ، ولكن نقمة من الله ، وليخزي الفاسقين .
وقوله : " وليخزي الفاسقين " وليذل الخارجين عن طاعة الله عز وجل ، المخالفين أمره ونهيه ، وهم يهود بني النضير .
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ما قطعتم من لينة" ما في محل نصب بـ قطعتم ، كأنه قال: أي شيء قطعتم . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد ، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها . واختلفوا في عدد ذلك ، فقال قتادة والضحاك إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات . وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة . وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ، إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها . فشق ذلك عليهم فقالوا - وهم يهود أهل الكتاب - : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض !؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم . ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا ، فقال بعضهم : لا تقطعوا مما أفاه الله علينا . وقال بعضهم : اقطعوا لنغيظهم بذلك .فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله . وقال شاعرهم سماك اليهودي في بذلك :
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم على عهد موسى ولم نصدف
وأنتم رعاء لشاء عجاف بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية نجدا لكم لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور يدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها وعقر النخير ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت :
تفاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير
همو أتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
أدام الله ذلك من صنيع وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه وتعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا لقالوا لا مقام لكم فسيروا
الثانية : كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة ، وتحصنوا منه في الحصون ، وامر بقطع النخل وإحراقها ، وحينئذ نزل تحريم الخمر . ودس عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير : إنا معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فاغتروا بذلك فلما جائت الحقيقة خذلوهم واسلموهم والقوا بأيديهم ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فاحتملوا ذلك إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام . وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم ، كحيي بن أخطل ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكنانه بن الربيع فدانت لهم خيبر .
الثالثة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق . ولها يقول حسان :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت : " ما قطعتم من لينة " الآية .
واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين:الأول -أن ذلك جائز ، قاله في المدونة . الثاني - إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا ، وإن يئسوا فعلوا ، قاله مالك في الواضحة . وعليه يناظر أصحاب الشافعي ، ابن العربي : والصحيح الأول .وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني لنضير له ، ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها . وإتلاف بعض المال لصالح باقيه مصلحا جائزة شرعا ، مقصوده عقلا .
الرابعة - قال الماوردي : إن في هذه الآية دليلا على أن لكل مجتهد نصيب . وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الإجتهاد بتعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرم ، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره . قال ابن العربي : وهذا باطل : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه : أخذا بعموم الأذية للكفار ، وخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار ، وذلك قوله تعالى: " وليخزي الفاسقين " .
الخامسة - اختلف في اللينة ما هي ، على أقوال عشرة : الأول - النخل كله إلا العجوزة ، قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل . وعن ابن عباس ومجاهد والحسن : أنها النخلة كله ، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا : أنها لون من النخل .وعن الثوري : أنها كرام النخل . وعن أبي عبيدة : أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني .وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة .وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة .والعتيق . الفحل .وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها .حكاه الماوردي . وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمره : اللون ، تمره أجود التمر ، وهو شديد الصفرة ، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف .وقيل هي النخلة القريبة من الأرض . وأنشد الأخفش :
قد شجاني الحمام حين تغنى بفراق الأحباب من فوق لينة
وقيل : إن اللينة الفسيلة ، لأنها ألين من النخلة .ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين ثم حفوا النخل بالآجام
وقيل : إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة ، قال ذو الرمة :
طراق الخوافي واقع لينة ندى ليله في ريشه يترقرق
ولقول العاشر - أنها الدقر ، قاله الأصمعي . قال : وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد اللألوان ، يعنون الدقل . قال ابن العربي والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين : أحدهما - أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما . الثاني - أن الاشتقاق يعضه ، وأهل اللغة يصححونه ، فإن اللينة وزنها لونه ، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون ، فإذا دخلت الهاء كسر أولها ، كبرك الصدر ( بفتح الباء ) وبركه ( بكسرها ) لأجل الهاء . وقيل لينة أصلها لونة فقبلت الواو ياء لأنكسار ما قبلها . وجمع اللينة لين . وقيل : ليان ، قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه :
وسالفة كسحوق الليان أضرم فيها الغوي السعر
وقال الأخفش :إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين . المهدوي : واختلف في اشتقاقها ، فقيل : هي من اللون وأصلها لونة . وقيل : أصلها لينة من لان يلين . وقرأ عبد الله ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها أي قائمة على سوقها . وقرأ الأعمش ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها المعني لم تقطعوها . وقرئ قوماء على أصلها . وفيه وجهان : أحدهما - أنه جمع أصل ، كرهن ورهن . والثاني - أكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ قائما على أصوله ذهابا إلى لفظ ما . " فبإذن الله " أي بأمره " وليخزي الفاسقين " أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه .
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وقوله تعالى: "وهو العزيز" أي منيع الجناب "الحكيم" في قدره وشرعه. وقوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب" يعني يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه, فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له, وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد, فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون وظنوا هم أنها ما نعتهم من بأس الله, فما أغنى عنهم من الله شيئاً وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم, وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة, فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام, وهي أرض المحشر والمنشر, ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر, وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم, فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم, ولهذا قال تعالى: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار" أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الاخرة من العذاب الأليم .
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود سفيان, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس, والخزرج, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم, فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا, فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا, ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهو الخلاخل, فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر, فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبراً حتى نلتقي بمكان النصف, وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم: "إنكم والله لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه " فأبوا أن يعطوه عهداً فقاتلهم يومهم ذلك, ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه, فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء, فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها, وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" يقول بغير قتال, فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار, وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما, وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة, ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري, فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر, وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو, فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين لأدينهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين, وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان, وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف, فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه, ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة, فسألوه عنه, فقال رأيته داخلاً المدينة, فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه, فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم, ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها, فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه, فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا, فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم, وإن خرجتم خرجنا معكم, فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا فقذف الله في قلوبهم الرعب, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل, فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل, فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به, فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء, فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة ـ سماك بن خرشة ـ ذكرا فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم, فقوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب" يعني بني النضير "من ديارهم لأول الحشر". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الاية "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "اخرجوا" قالوا: إلى أين ؟ قال: "إلى أرض المحشر" وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن عوف عن الحسن قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال: "هذا أول الحشر وأنا على الأثر" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن به.
وقوله تعالى: "ما ظننتم أن يخرجوا" أي في مدة حصاركم لهم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها, ولهذا قال تعالى: "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الاية الأخرى: "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون".
وقوله تعالى: "وقذف في قلوبهم الرعب" أي الخوف والهلع والجزع وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك, وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وتحملها على الإبل, وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد, وقال مقاتل بن حيان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال, وكان اليهود إذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها, يقول الله تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار". وقوله: "ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا" أي لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك, قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الاخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: ثم كانت وقعة بني النضير, وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر, وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء, وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة وهي السلاح, فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام, قال: والجلاء كتب عليهم في آي من التوراة وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم " سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب * ا قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " وقال عكرمة: الجلاء القتل, وفي رواية عنه الفناء, وقال قتادة: الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد. وقال الضحاك: أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء, فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أحمد بن كامل القاضي, حدثنا محمد بن سعيد العوفي حدثني أبي عن عمي, حدثنا أبي عن جدي عن ابن عباس, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ, فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم, وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام, وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء, والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى. وروي أيضاً من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جده, عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
وقوله تعالى: " ولهم في الآخرة عذاب النار " أي حتم لازم لا بد لهم منه. وقوله تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله" أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين, لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم, وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. ثم قال: "ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب". وقوله تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين" اللين نوع من التمر وهو جيد قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر, وقال كثيرون من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة. قال ابن جرير: هو جميع النخل ونقله عن مجاهد وهو البويرة أيضاً, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهاباً وإرعاباً لقلوبهم, فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله هذه الاية الكريمة أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم, وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل, وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين, فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم, وإنما قطعه وتركه بإذنه, وقد روي نحو هذا مرفوعاً, فقال النسائي: أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان, حدثنا حفص بن غياث, حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين" قال: يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم, فقال المسلمون: قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل الله "ما قطعتم من لينة" وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر وعن أبي الزبير عن جابر, قال: رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو علينا وزر فيما تركنا, فأنزل الله عز وجل "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق, وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه, ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر, قال: حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حارب قريظة, فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع, وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة, ولهما أيضاً عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير, وقطع وهي البويرة, فأنزل الله عز وجل فيه "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين".
وللبخاري رحمه الله من رواية جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير, ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدام الله ذلك من صنيع وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنــــزه وتـــــعلم أي أرضينا نضير
وكذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق, وقال محمد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:
لقد خزيـــت بغدرتها الحبــور كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنـــهم كفــــروا بـــــرب عظيم أمره أمـــــر كبيـــــر
وقد أوتوا معاً فهماً وعــلمــاً وجاءهمو من الله النذيــــر
نذير صادق أدى كتــــابــــــــاً وآيــــــات مبينـــــة تنيـــــر
فقالوا ما أتيت بأمـــر صدق وأنت بمنكر منـــــا جـــدير
فقال بلى لقد أديــــت حقـــــاً يصدقني به الفهم الخبــــير
فمن يتبعه يهد لـكـــل رشـــد ومن يكفر به يجز الكفـــور
فلما أشربوا غــدراً وكفــــــراً وجد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبــي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجـــــور
فأيــــــده وســــــــلطه عليهم وكان نصيره نعم النصــــير
فغودر منهـــمو كعـب صريعاً فذلت بعد مصرعه النضـــير
على الكفيــن ثم وقـــــد علته بأيدينا مشهــــــــرة ذكـــــور
بأمر محـــمد إذ دس ليـــــــلاً إلى كعب أخا كعــــــب يسير
فما كره فأنـــــــزله بـــمكـــــر ومحمود أخو ثقة جـــــــسور
فتلك بنو النضير بـــدار سوء أبادهمو بما اجترموا المبير
غداة أتاهمو في الزحف رهواً رسول الله وهو بهم بصـــير
وغسان الحمـــــاة مــــوازروه على الأعداء وهو لهم وزيــر
فقال السلم ويحكمو فصــــدوا وخالف أمرهم كــــــذب وزور
فذاقوا غب أمرهمو وبــــــالاً لكل ثلاثة منهــــــم بعيــــــــر
وأجلوا عامــــديـــــن لقينقاع وغودر منهمــــــو نخل ودور
قال: وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قول ابن القيم العبسي, ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف, قال ابن هشام الأشجعي:
أهلي فداء لامرىء غير هالــــك أجلى اليهود بالحسى المزنـــم
يقيلون في جمر العضاه وبدلـــوا أهيضب عوداً بالودي المكمـــم
فإن يك ظني صادقـــــاً بــــــمحمد يروا خيله بين الصلا ويرمــرم
يؤم بها عمرو بن بهثـــة إنهـــــم عدو وما حي صديــق كمجـــــرم
عليهن أبطال مساعير في الوغى يهزون أطراف الوشيج المقــوم
وكل رقيق الشفرتيــــــن مهـــــند تورث من أزمان عاد وجرهـــــم
فمن مبلغ عني قريشــــــاً رسالة فهل بعدهم في المجد من متكرم
بأن أخاكم فاعلمـــــــن محمـــــدا تليد الندى بين الحجون وزمــزم
فدينوا له بالحق تحسم أموركم وتسموا من الدنيا إلى كل معظم
نبي تلاقته من اللـــــه رحمـــــة ولا تسألوه أمر غيــــــب مــرجم
فقد كان في بدر لعمري عبـــرة لكم يا قريش والقليب الملمــــــم
غداة أتى في الخزرجية عامــداً إليكم مطيعاً للعظيم المكـــــــــرم
معاناً بروح القدس ينكي عـدوه رسولاً من الرحمن حقاً بمعلــــم
رسولاً من الرحمن يتلو كتــــابه فلما أنار الحق لــــــــم يتلعثــــم
أرى أمره يزداد في كل موطــن علواً لأمر حمه اللــــــه محكـــم
وقد أورد ابن إسحاق رحمه الله ههنا أشعاراً كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة, تركنا باقيها اختصاراً واكتفاء بما ذكرناه, ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة, وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
5- "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله" قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم فقال: "ما قطعتم من لينة" قال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشق ذلك على رسول الله صلى الله علي وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية. ومعنى الآية: أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في تركتموها عائد إلى ما لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله: "قائمة على أصولها" ومعنى على أصولها: أنها باقية على ما هي عليه.
واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل كله إلا العجوة. وقال مجاهد: إنها النخل كله ولم يستثن عجوزة ولا غيرها. وقال الثوري: هي كرام النخل. وقال أبو عليدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل هي ضرب من النخل، يقال لتمره اللون، تمره أجود التمر. وقال الأصمعي: هي الدقل، وأصل اللينة لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل ليان. وقرأ ابن مسعود ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها أي قائمة على سوقها، وقرئ على أصلها قائماً على أصوله " وليخزي الفاسقين " أي ليذل الخارجين عن الطاعة ، وهم اليهود ويغيظهم في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطعو الترك ازدادوا غيظاً. قال الزجاج: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: "فبإذن الله" وقد استدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول.
5- "ما قطعتم من لينة"، الآية. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح! أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فساداً واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال: حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع البويرة، فنزلت:
"ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله"، أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله، "وليخزي الفاسقين".
واختلفوا في اللينة، فقال قوم: النخل كلها لينة ما خلا العجوة، وهو قول عكرمة وقتادة، ورواه زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة" وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمرة: الألوان، واحدها لون ولينة.
وقال الزهري: هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية.
وقال مجاهد وعطية: هي النخل كلها من غير استثناء. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم: هي لون من النخل. وقال سفيان: هي كرام النخل.
وقال مقاتل هي ضرب من النخل / يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج يغيب فيها الضرس، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد في الأرض وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائماً هو لمن غلب عليها، فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه.
5-" ما قطعتم من لينة " أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون ويجمع على ألوان ، وقيل من اللين ومعناها النخلة الكريمة وجمعها أليان . " أو تركتموها " الضمير لما وتأنيثه لأنه مفسر باللينة . " قائمةً على أصولها " وقرئ أصلها اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن . " فبإذن الله " فبأمره . " وليخزي الفاسقين " علة لمحذوف أي وفعلتم أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه . روي أنه عليه الصلاة والسلام " لما أمر بقطع نخيلهم قالوا : قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت " . واستدل به على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم .
5. Whatsoever palm trees ye cut down or left standing on their roots, it was by Allah's leave, in order that He might confound the evil livers.
5 - Whether ye cut down (o ye Muslims!) The tender palm trees, or ye left them standing on their roots, it was by leave of God, and in order that He might cover with shame the rebellious transgressors.