5 - (فما كان دعواهم) قولهم (إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها، إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتاً أو هم قائلون ، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين ، وبربهم آثمين ، ولأمره ونهيه مخالفين .
وعنى بقوله جل ثناؤه : " دعواهم " ، في هذا الموضع دعاءهم .
ول الدعوى ، في كلام العرب ، وجهان : أحدهما : الدعاء، والآخر: الادعاء للحق . ومن الدعوى التي معناها الدعاء ، قول الله تبارك وتعالى : " فما زالت تلك دعواهم " ، ومنه قول الشاعر :
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي بدعواك من مذل بها فيهون
وتد بينا فيما مضى قبل أن البأس والبأساء الشدة ، بشواهد ذلك الدالة على صحته ، بما أغنى عن إعادته في الموضع .
وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم .
وقد تأول ذلك كذلك بعضهم .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم - قال قلت ل عبد الملك : كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الآية: " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا"، الآية".
فإن قال قائل : وكيف قيل : " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين " ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك ، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك ؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك ؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك ، فإنهم قالوا قبل مجيء البأس ، والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم ، لا قبل ذلك ؟ أو قالوه بعدما جاءهم ، فتلك حالة قد هلكوا فيها، فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله ، وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله ؟.
قيل : ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوله وآخره مهل ، بل كان منهم من غرق بالطوفان. فكان بين أول ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون ، وبين آخره الذقي عئم جميعهم هلاكه ، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل . ومنهم من متع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أياماً ثلاثة، كقوم صالح وأشباههم . فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به ، وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم ، دعوا: يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم . فحذر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ما حل بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد .
والدعوى الدعاء، ومنه قوله: "وآخر دعواهم" [يونس:10]. وحكى النحويون: اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك. وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء. والمعنى: أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين. و"دعواهم" في موضع نصب خبر كان، واسمها "إلا أن قالوا". نظيره "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا" [العنكبوت: 29] ويجوز أن تكون الدعوى رفعاً، وأن قالوا نصباً، كقوله تعالى: "ليس البر أن تولوا" [البقرة: 177] برفع البر وقوله: "ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا" [الروم:10] برفع عاقبة.
يقول تعالى: "وكم من قرية أهلكناها" أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم, فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولاً بذل الاخرة, كما قال تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وكقوله "فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد" وقال تعالى: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين" وقوله "فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون" أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتاً أي ليلاً, أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار, وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو, كما قال "أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون" وقال " أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم ".
وقوله "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين" أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب, إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا, كقوله تعالى: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين " قال ابن جرير: في هذه الاية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم", حدثنا بذلك ابن حميد, حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبدالملك بن ميسرة الزراد, قال: قال عبد الله بن مسعود, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم", قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذاك ؟ قال: فقرأ هذه الاية "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين". وقوله "فلنسألن الذين أرسل إليهم" الاية. كقوله "ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين" وقوله "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب" فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به, ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته, ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" قال عما بلغوا.
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسن, حدثنا أبو سعيد الكندي, حدثنا المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده" قال الليث: وحدثني ابن طاوس مثله, ثم قرأ "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة, وقال ابن عباس في قوله "فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين" يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون "وما كنا غائبين" يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير, لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين".
قوله: 5- "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين" الدعوى: الدعاء: أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله: "وآخر دعواهم" أي آخر دعائهم، وقيل: الدعوى هنا بمعنى الادعاء، والمعنى: ما كان ما يدعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، واسم كان "إلا أن قالوا" وخبرها "دعواهم" ويجوز العكس، والمعنى: ما كان دعواهم إلا قولهم: إنا كنا ظالمين.
5- " فما كان دعواهم "، أي: قولهم ودعاؤهم وتضرعهم، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم، " إذ جاءهم بأسنا "، عذابنا، " إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين "، معناه لم يقدروا على رد العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف.
5."فما كان دعواهم" أي دعاؤهم واستغاثتهم ، أو ما كانوا يدعونه من دينهم . " إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين " إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسراً عليهم ..
5. No plea had they, when Our terror came unto them, save that they said: Lo! We were wrongdoers.
5 - When (thus) Our punishment Took them, no cry did they utter but this: Indeed we did wrong.