(و) جئتكم (مصدقا لما بين يدي) قبلي (من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) فيها فأحل لهم من السمك والطير ما لا صيصة له وقيل أحل الجميع فبعض بمعنى كل (وجئتكم بآية من ربكم) كرّره تأكيداً وليبني عليه (فاتقوا الله وأطيعون) فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولذلك نصب "مصدقا"، على الحال من "جئتكم".
والذي يدل على أنه نصب على قوله: وجئتكم، دون العطف على قوله: "وجيها"،قوله: "لما بين يدي من التوراة". ولو كان عطفاً على قوله "وجيها"، لكان الكلام: ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
وإنما قيل: "ومصدقا لما بين يدي من التوراة"، لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمناً بالتوراة مقراً بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أن عيسى كان -فيما بلغنا- عاملاً بالتوراة لم يخالف شيئاً من أحكامها، إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشدداً عليهم فيها، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقم: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليهما وسلم، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا، لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار.
حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب، وأشياء من الطير والحيتان.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى. قال: وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحوم الإبل والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى -وحرمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى- وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء حرمها عليهم وشددها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. فكان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بعث عيسى أحلها لهم، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "ومصدقا لما بين يدي من التوراة"، أي: لما سبقني منها -"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، أي: أخبركم أنه كان حراماً عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفاً عنكم، فتصيبون يسره، وتخرجون من تباعته.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان حرم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحل لهم الذي حرم عليهم، يبتغي بذلك شكرهم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقة ما أقول لكم، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وجئتكم بآية من ربكم"، قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وجئتكم بآية من ربكم"، ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها.
ويعني بقوله: "من ربكم"، من عند ربكم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقيناً صدقي فيما أقول، "فاتقوا الله"، يا معشر بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه، "وأطيعون"، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرماً عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويم، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه،
" ومصدقا " عطف على قوله : " ورسولا " . وقيل المعنى وجئتكم مصدقا . " لما بين يدي " لما قبلي " ولأحل لكم " فيه حذف ، أي ولأحل لكم جئتكم .
" بعض الذي حرم عليكم " يعني من الأطعمة . قيل إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة ، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر . وقيل : إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في النوراة محرمة عليهم ز قال أبو عبيدة : يجوز أن يكون بعض بمعنى كل ح وأنشد لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ، لأنه البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع ، لأن عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا الفاحشة . والدليل على هذا انه روي عن قتادة أنه قال : جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا ، لن موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها . وقرأ النخفي بعض الذي حرم عليكم مثل كرم أي صار حراما . وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه ، كما قال الشاعر :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد بعض الشر أهون من كله . " وجئتكم بآية من ربكم " إنما وحد وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته .
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: أن الله يعلمه "الكتاب والحكمة", الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة, والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة, و"التوراة والإنجيل", فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران, والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا, وقوله: "ورسولاً إلى بني إسرائيل" أي يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل, قائلاً لهم " أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " وكذلك كان يفعل, يصور من الطين شكل طير, ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عز وجل, الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله " وأبرئ الأكمه " قيل: أنه الذي يبصر نهاراً ولا يبصر ليلاً, وقيل بالعكس. وقيل: الأعشى. وقيل الأعمش. وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه, لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي "والأبرص" معروف, "وأحيي الموتى بإذن الله" قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه, فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة, فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار, فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام, وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام, فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الايات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة, فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد, أو على مداواة الأكمه والأبرص, وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم, بعث في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء, فأتاهم بكتاب من الله عز وجل, لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله, أو بعشر سور من مثله, أو بسورة من مثله, لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً, وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبداً, وقوله: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" أي أخبركم بما أكل أحدكم الان, وما هو مدخر له في بيته لغد, "إن في ذلك" أي في ذلك كله " لآية لكم " أي على صدقي فيما جئتكم به " إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة " أي مقرراً لها ومثبتاً "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم" فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة, وهو الصحيح من القولين, ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئاً, وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ, فكشف لهم عن المغطى في ذلك, كما قال في الاية الأخرى "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" والله أعلم. ثم قال "وجئتكم بآية من ربكم" أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم " فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه " أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه "هذا صراط مستقيم".
قوله 50- "ومصدقاً" عطف على قوله "ورسولاً" وقيل: المعنى وجئتكم مصدقاً. قوله "ولأحل" أي ولأجل أن أحل: أي جئتكم بآية من ربكم وجئتكم لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم من الأطعمة في التوراة كالشحوم وكل ذي ظفر، وقيل: إنما أحل لهم ما حرمته عليهم الأحبار ولم تحرمه التوراة. وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون بعض بمعنى كل، وأنشد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرمته عليهم التوارة، فإنه لم يحلل القتل ولا السرق ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة وهي كثيرة يعرف ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين، ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة كقول الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أي بعض الشر أهون من كله.ـ
50-" ومصدقاً" عطف على قوله ورسولاً"لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم" من اللحوم والشحوم ، وقال أبو عبيدة : أراد بالبعض الكل يعني : كل الذي حرم عليكم وقد يذكر البعض ويراد به الكل كقول لبيد
تراك أمكنة إذا لم أرضهاأو ترتبط بعض النفوس حمامها
يعني: كل النفوس.
قوله تعالى :"وجئتكم بآية من ربكم" يعني ما ذكر من الآيات وإنما وحدها أنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته " فاتقوا الله وأطيعون".
50"ومصدقاً لما بين يدي من التوراة" عطف على "رسولاً" على الوجهين، أو منصوب بإضمار فعل دل عليه "قد جئتكم" أي وجئتكم مصدقاً. "ولأحل لكم" مقدر بإضماره، أو مردود على قوله: " أني قد جئتكم بآية "، أو معطوف على معنى "مصدقاً" كقولهم جئتك معتذراً ولأطيب قلبك. "بعض الذي حرم عليكم" أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت، وهو يدل على أن شرعه كان ناسخاً لشرع موسى عليه الصلاة والسلام ولا يخل ذلك بكونه مصدقاً للتوراة، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان "وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون".
50. And (I come) confirming that which was before me of the Torah, and to make lawful some of that which was forbidden unto you. I come unto you with a sign from your Lord, so keep your duty to Allah and obey me
50 - (i have come to you), to attest the law which was before me. and to make lawful to you part of what was (before) forbidden to you; i have come to you with a sign from your lord. so fear God, and obey me.