52 - (وما أرسلنا من قبلك من رسول) هو نبي أمر بالتبليغ (ولا نبي) أي لم يؤمر بالتبليغ (إلا إذا تمنى) قرأ (ألقى الشيطان في أمنيته) قراءته ما ليس من القرآن مما يرضاه المرسل إليهم وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بالقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ففرحوا بذلك ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن فسلي بهذه الآية (فينسخ الله) يبطل (ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته) يثبتها (والله عليم) بإلقاء الشيطان ما ذكر (حكيم) في تمكينه منه يفعل ما يشاء
قوله تعالى وما أرسلنا الآية أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر من طريق بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فقال المشركون ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فنزلت وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية وأخرجه البزار وابن مردويه من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن بن عباس فيما أحسبه وقال لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور وأخرجه البخاري عن ابن عباس بسند فيه الواقدي وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وأورده ابن إسحق في السيرة عن محمد بن كعب وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وابن جرير عن محمد بن قيس وابن أبي حاتم عن السدي كلهم بمعنى واحد وكلها إما ضعيفة او منقطعة سوى طريق سعيد بن جبير الأولى قال الحافظ ابن حجر لكن كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا مع أن لها طريقين صحيحين مرسلين أخرجهما ابن جرير أحدهما من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحرث بن هشام والآخر من طريق داود بن هند عن أبي العالية ولا عبرة يقول ابن العربي وعياض ان هذه الروايات باطلة لا أصل لها انتهى
قيل إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه في بعض ما يتلوه ، مما أنزل الله عليه من القرآن ، ما لم ينزله الله عليه ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و اغتم به ، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي و محمد بن قيس قالا :" جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ، فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : " والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم و ما غوى " ـ (النجم :1ـ 2 ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى بلغ " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " ( النجم : 19 - 20) ـ ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرنقة العلى ، و إن شفاعتهن لترتجى ، فتكلم بها ، ثم مضى فقرأ السورة ، كلها ، فسجد في آخر السورة ، و سجد القوم جميعا معه ، و رفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته ، فسجد عليه ، و كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود ، فرضوا بم تكلم به و قالوا : قد عرفنا أن الله يحيي و يميت ، وهو الذي يخلق و يرزق ، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيبا ، فنحن معك ، قالا : فلما أمسى أتاه جبرائيل عليهما السلام ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : افتريت على الله ، و قلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره" ـ (الإسراء : 73) . . . إلى قوله " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " (الإسراء : 75) ، فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه " و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم و قالوا : هم أحب إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : " لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم تولي قومه عنه ، و شق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله ، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه و بين قومه ، و كان يسره ، مع حبه و حرصه عليهم ، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم ، حين حدث بذلك نفسه ، و تمنى و أحبه ، فأنزل الله: " والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى " النجم : 1-2 .فلما انتهى إلى قول الله " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " النجم : 19-20 ألقى الشيطان على لسانه ، لما كان يحدث به نفسه ، و يتمنى أن يأتي به قومه : تلك الغرنيق العلى ، و إن شفاعتهن ترتضى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا و سرهم ،وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، و المؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خطأ و لا وهم و لا زلل، فلما انتهى إلى السجدة منها و ختم السورة سجد فيها ، فسجد المسلمون بسجود نبيهم ، تصديقا لما جاء به ، و اتباعا لأمره ، و سجد من في المسجد من المشركين ، من قريش و غيرهم ، لما سمعوا من ذكر آلهتهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن و لا كافر إلا سجد ، إلا الوليد بن المغيرة ، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء ، فسجد عليها ، ثم تفرق الناس من المسجد ، و خرجت قريش و قد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ، يقولون : قد ذكرنا محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، و قد زعم فيما يتلو أنه الغرانيق العلى ، و أن شفاعتهن ترتضى ، و بلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قيل : أسلمت قريش ، فنهضت منهم رجال ، و تخلف آخرون ، و أتى جبرائيل النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، و قلت مل لم يقل لك ، فحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك ، و خاف من الله خوفا كبيرا ، فأنزل الله تبارك و تعالى عليه و كان به رحيما يعزيه و يخفض عليه الأمر ، و يخبره أنه لم يكن قبله رسول و لا نبي تمنى كما تمنى ، ولا أحب كما أحب ، إلا و الشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه و سلم ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان ، و أحكم آياته ، أي فأنت كبعض الأنبياء و الرسل ، فأنزل الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " . . . الآية ، فأذهب الله عن نبيه الحزن ، و أمنه من الذي كان يخاف ، و نسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم ، أنها الغرانيق العلى ، و أن شفاعتهن ترتضى ، يقول الله حين ذكر اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى ، إلى قوله " وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " النجم : 26 ، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده ، فلما جاءه من الله ما نسخ ما كلن الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش : ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله ، فغير ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك ، فازدادو شرا إلى ما كانوا عليه " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ثنا المعتمر ، قال: سمعت داود عن أبي العالية ، قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما جلساؤك عبد بني فلان و مولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشارف العرب ، فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك ، كان أرغب لهم فيك ، قال: فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، و شفاعتهن ترجى ، مثلهن لا ينسى ، قال: فسجد النبي صلى الله عليه و سلم حين قرأها ، و سجد معه المسلمون و المشركون ، فلما علم الذي أجري على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " . . . إلى قوله " و الله عليم حكيم " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ،قال : ثنلا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال: قالت قريش : يا محمد إنما يجالسك الفقراء و المساكين و ضعفاء الناس ، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفاق ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة النجم ، فلما انتهى على هذه الآية : " أفرأيتم اللات والعزى * و مناة الثالثة الأخرى " النجم : 19-20 فألقى الشيطان على لسانه : و هي الغرانقة الغلى ، و شفاعتهن ترتجى ، فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون و المشركون ، إلا ألا أحيحة سعيد بن العاص ، أخذ كفا من تراب و سجد عليه ، و قال : قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير ، حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المسلمين ، أن قريشا قد أسلمت ، فاشتد على رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ألقى الشيطان على لسانه ، فأنزل الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " ... إلى آخر الآية .
حدثنا بشار ،قال : ثنا محمد بن جعفر ،قال : ثنا شعبة ،عن أبي بشر ، " عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت هذه الآية " أفرأيتم اللات والعزى " النجم : 19 قرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : تلك الغرنيق العلى ، و إن شفاعتهن لترتجى ، فسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " ... إلى قوله " عذاب يوم عقيم " " .
حدثنا ابن المثنى ، قال: ثني عبد الصمد ، قال: ثنا شعبة ، قال ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ،قال لما نزلت "أفرأيتم اللات والعزى " النجم : 19 ثم ذكر نحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " إلى قوله " و الله عليم حكيم " وذلك أن نبي الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يصلي ، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها فسمعه المشركون ، فقالوا : إنا نسمعه ذكر آلهتنا بخير ، فدنوا منه ، فبينما هو يتلوها ، و هو يقول " أفرأيتم اللات والعزى * و مناة الثالثة الأخرى " النجم : 19-20 ألقى الشيطان : إن تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فجعل يتلوها ، فنزل جبرائيل عليه السلام ، فمسخها ، ثم قال له " و ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " ... إلى قوله " والله عليم حكيم " .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال: سمعت الضحاك ، يقول في قوله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " ... الآية ، أن نبي الله صلى الله عليه و سلم ، و هو بمكة ، أنزل الله عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات و العزى ، و يكثر ترديدها ، فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ، و دنوا يستمعون ، فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فقرأها النبي صلى الله عليه و سلم كذلك ، فأنزل الله عليه : " وما أرسلنا من قبلك من رسول " ... إلى " والله عليم حكيم " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال: اخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه سئل عن قوله " و ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " .. الآية ، قال ابن شهاب : ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكة قرأ عليهم " والنجم إذا هوى " النجم : 1 ، فلما بلغ " أفرأيتم اللات والعزى * و مناة الثالثة الأخرى " النجم : 19-20 قال : إن شفاعتهن ترتجى ، وسها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض ، فسلموا عليه ، و فرحوا بذلك ، فقال لهم : إنما ذلك من الشيطان ، فأنزل الله " و ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " ... حتى بلغ " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " .
فتأويل الكلام : و لم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم ، و لا نبي محدث ليس بمرسل ، إلا إذا تمنى .
و اختلف أهل التأويل في معنى قوله تمنى في هذا الموضع ، و قد ذكرت قول جماعة ممن قال ذلك التمني من النبي صلى الله عليه و سلم ، ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه ، في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون ، و من قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال ألا لا تذكر بسوء .
و قال آخرون : بل معنى ذلك : إذا قرأ وتلا أو حدث .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ،قال: ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " إذا تمنى " قال : إذا قال .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " إلا إذا تمنى " يعني بالتمني : التلاوة والقراءة .
وهذا القول أشبه بتأويل الكم ، بدلالة قوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " على ذلك ، لأن الآيات التي أخبر اله جل ثناؤه أنه يحكمها ، لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه .
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله ، وقرأ أو حدث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدث وتكلم " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " يقول تعالى : فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله .
كما حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " فيبطل الله ما ألقى الشيطان .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " نسخ جبريل بأمر الله ما أبقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحكم الله آياته .
وقوله " ثم يحكم الله آياته " يقول : ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه " والله عليم " بما يحدث في خلقه من حدث ، لا يخفى عليه من شيء " حكيم " في تدبيره إياهم ، وصرفه لهم فيما شاء وأحب .
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " تمنى " أي قرأ وتلا. و " ألقى الشيطان في أمنيته " أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة. قال ابن عطية : وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا، كعمر بن الخطاب في قصة سارية وما تكلم به من البراهين العالية.
قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث قال أبو بكر : فهذا حديث لا يؤخد به على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحى إليه في نومه، لأن رؤيا الأنبياء وحي.
الثانية: قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قوماً يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلاً. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى " نبي " أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء : الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عياناً. والنبي الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي : وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي:
الثالثة: الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ولا يعجزوا عن شيء، فلم يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضاً: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط، فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والنجم إذا هوى " فلما بلغ " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " سها فقال: إن شفاعتهم ترتجى ، فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا، فقال: إن ذلك من الشيطان " فأنزل الله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الآية. قال النحاس : وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه وإنهن لهن الغرانيق العلا وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: " سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ تراباً من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخاً كبيراً. ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جئتك به "! وأنزل الله " لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " [الإسراء: 74]. قال النحاس : وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - آخر الباب. قال ابن عطية : وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم ، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى "، وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها. وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس، كقوله عز وجل: " والغوا فيه " [فصلت: 26]. قتادة : هو ما تلاه ناعسا.
وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً وغلطاً: اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخوذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزاز: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره، إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة ... وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طرق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزاز رحمه الله. والذي منه في الصحيح :
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " والنجم " بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس "، هذا توهينه من طريق النقل.
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة، منها الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصل الآي تفصيلاً في قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار. فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها. ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " [الحج: 52] الآية.
قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن " في " بمعنى عند، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: " ولبثت فينا " [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي ، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله، وذلك أن الله تعالى قال: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سننه في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في الدار كذا وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال، إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبراً عنه: " وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي " [إبراهيم: 22]، ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهواً قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهواً، وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيداً لعذره وتسلية له، لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهواً، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: إن شيطاناً يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى. وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضاً وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك " [الإسراء: 73] الآيتين، فإنهما تردان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً فكيف كثيراً، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى: " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء " [النساء: 113]. قال القشيري : ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري : ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج : أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى " تمنى " لا " تلا ". روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: " إلا إذا تمنى " قال: إلا إذا حدث " ألقى الشيطان في أمنيته " قال: في حديثه " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفةً في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً. والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون، ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي و الفراء جميعاً " تمنى " إذا حدث نفسه، وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضاً " تمنى " إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضاً وقاله مجاهد و الضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، وهو اختيار الطبري .
قلت: قوله تعالى: " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة " الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، فالله أعلم. قال النحاس : ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحاً، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتهم اللات والعزى، وتم الكلام، ثم أسقط (والغرانيق العلا) يعني الملائكة (فإن شفاعتهم) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة، منها أن يكون القول محذوفاً كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخاً، لأن قبله " أفرأيتم " ويكون هذا احتجاجاً عليهم، فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحاً في الصلاة. وقد روي في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجى. روي معناه عن مجاهد . وقال الحسن : أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله: " ألكم الذكر وله الأنثى " فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلاً للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن، ورفعت تلاوته. قال القشيري : وهذا غير سديد، لقوله: " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. " والله عليم حكيم " " عليم " بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. " حكيم " في خلقه.
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق, وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا, ولكنها من طرق كلها مرسلة, ولم أرها مسندة من وجه صحيح, والله أعلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب , حدثنا أبو داود , حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم, فلما بلغ هذا الموضع " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " قال: فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى, قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم, فسجد وسجدوا, فأنزل الله عز وجل هذه الاية "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم".
رواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه, وهو مرسل, وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث, أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى "أفرأيتم اللات والعزى" وذكر بقيته, ثم قال البزار : لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد, تفرد بوصله أمية بن خالد , وهو ثقة مشهور, وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس , ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلاً, وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً.
وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس, فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى, وإنها لمع الغرانيق العلى, فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها: فذلت بها ألسنتكم, فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي" الاية, فدحر الله الشيطان, ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي , حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي , حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه, ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم, فكان يتمنى هداهم, فلما أنزل الله سورة النجم قال: " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى " ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت, فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى, وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته, فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم, وتباشروا بها, وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه, فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد, وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك, غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً فرفع على كفه تراباً فسجد عليه, فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين, ولم يكن المسلمون سمعوا الاية الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين, فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة, فسجدوا لتعظيم آلهتهم, ففشت تلك الكلمة في الناس, وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه, وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه, وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة, فأقبلوا سراعاً, وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية, وقال الله: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد" فلما بين الله قضاءه, وبرأه من سجع الشيطان, انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين, واشتدوا عليهم, وهذا أيضاً مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه, وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة, فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه, قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة "قلت" وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا, وكلها مرسلات ومنقطعات, والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك, ثم سأل ههنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس كذلك في نفس الأمر, بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم, والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا, وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها. وقوله: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه, أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. قال البخاري : قال ابن عباس "في أمنيته" إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه, فيبطل الله ما يلقي الشيطان "ثم يحكم الله آياته". قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد "إذا تمنى" يعني إذا قال, ويقال أمنيته قراءته "إلا أماني" يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: "تمنى" أي تلا وقرأ كتاب الله " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته, قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك : " إذا تمنى " إذا تلا. قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام. وقوله "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان, وأحكم الله آياته. وقوله: "والله عليم" أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية "حكيم" أي في تقديره وخلقه وأمره, له الحكمة التامة والحجة البالغة, ولهذا قال: "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض" أي شك وشرك وكفر ونفاق, كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله, وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج : "الذين في قلوبهم مرض" هم المنافقون, "والقاسية قلوبهم" هم المشركون.
وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود "وإن الظالمين لفي شقاق بعيد" أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد, أي من الحق والصواب, "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به" أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه, وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد". وقوله: "فيؤمنوا به" أي يصدقوه وينقادوا له, "فتخبت له قلوبهم" أي تخضع وتذل له قلوبهم, " وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " أي في الدنيا والاخرة, أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه, وفي الاخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات, ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
قوله: 52- "من رسول ولا نبي" قيل الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاها، والنبي الذي يكون إلهاماً أو مناماً. وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، ولم ينزل عليه كتاب، ولا بد لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" معنى تمنى: تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه. قال الواحدي: وقال المفسرون: معنى تمنى تلا. قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة "والنجم إذا هوى" فأخذ يقرأها عليهم حتى بلغ قوله: " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين بذلك قالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل فقال: ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً، فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا.
ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين " وقوله: "وما ينطق عن الهوى" وقوله: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم" فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون. قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. قال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً. قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى "تمنى" قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى "تمنى" تلا وقرأ كتاب الله، ومعنى " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" وقيل معنى "تمنى" حدث، ومعنى "ألقى الشيطان في أمنيته" في حديثه، روى هذا عن ابن عباس. وقيل معنى "تمنى" قال. فحاصل معنى الآية: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا: تمنى إذا حدث نفسه، فالمعنى: أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة، ويرد بقوله: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. وقيل إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرر في مواطنه، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت "ثم يحكم الله آياته" أي يثبتها "والله عليم حكيم" أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.
52. قوله عز وجل: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته "، الآية. قال ابن عباس و محمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فكان يوماً في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة ((النجم)) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه: (( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى ))، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك. وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه، وشدة على من أسلم.
قال الله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول "، وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً، " ولا نبي "، وهو الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، " إلا إذا تمنى "، قال بعضهم: أي: أحب شيئاً واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي مراده.
وعن ابن عباس قال: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه، فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تمنى) أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى. " ألقى الشيطان في أمنيته " أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
واختلفوا في أنه كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين، وقال جل ذكره في القرآن: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (فصلت:42) يعني إبليس؟
قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه، فقال بعضهم:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته، فظن المشركون أن الرسول قرأه.
وقال قتادة : " أغفى النبي إغفاءةً فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر ".
والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
وقيل: إن شيطاناً يقال له أبيض عمل هذا العمل، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بمايشاء.
" فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي: يبطله ويذهبه، " ثم يحكم الله آياته "، فيثبتها، " والله عليم حكيم "
52ـ " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه " أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له . وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام . " إلا إذا تمنى " زور في نفسه ما يهواه . " ألقى الشيطان في أمنيته " في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما " قال عليه الصلاة والسلام وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " . " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيحه . " ثم يحكم الله آياته " ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة . " والله عليم " بأحوال الناس . " حكيم " فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت . وقيل تمني لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان قي ناديهم فنزلت عليه سورة (( والنجم )) فأخذ يقرؤها فلما بلغ " ومناة الثالثة الأخرى " وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال . تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها ، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية . وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله .
تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رسل
وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعاً صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رد أيضاً بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله " فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " لأنه أيضاً يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم .
52. Never sent We a messenger or a Prophet before thee but when He recited (the message) Satan proposed (opposition) in respect of that which he recited thereof. But Allah abolisheth that which Satan proposeth. Then Allah establisheth His revelations. Allah is Knower, Wise;
52 - Never did we send an apostle or a prophet before thee, but when he framed a desire, Satan Threw some (vanity) Into his desire: but God Will cancel anything (vain) that Satan throws in, and establish) His Signs: For God is full of knowledge And wisdom: