53 - (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) في الدخول بالدعاء (إلى طعام) فتدخلوا (غير ناظرين) منتظرين (إناه) نضجه مصدر أنى يأني (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا) تمكثوا (مستأنسين لحديث) من بعضكم لبعض (إن ذلكم) المكث (كان يؤذي النبي فيستحيي منكم) أن يخرجكم (والله لا يستحيي من الحق) أن يخرجكم أي لا يترك بيانه وقرىء يستحي بياء واحدة (وإذا سألتموهن) أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) ستر (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) من الخواطر المريبة (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) بشيء (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله) ذنبا (عظيما)
قوله تعالى يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا الآية تقدم حديث عمر في سورة البقرة
وأخرج الشيخان عن أنس قال لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام وقعد ثلاثة ثم انطلقوا فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا فجاء حتى دخل وذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى قوله إن ذلكم كان عند الله عظيما
وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى باب امرأة عرس بها فإذا عندها قوم فانطلق ثم رجع وقد خرجوا فدخل فأرخى بيني وبينه سترا فذكرته لأبي طلحة فقال لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء فنزلت آية الحجاب
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه أصبعي فقال أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب
ك وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه فقال للرجل لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل فقال له عمر يا رسول الله لو اتخذت حجابا فأن نساءك لسن كسائر النساء وذلك أطهر لقلوبهن فنزلت آية الحجاب قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ولا مانع من تعدد الأسباب
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض إلى بيته بادروه فأخذوا المجالس فلا يعرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبسط يده إلى الطعام استحياء منهم فعوتبوا في ذلك فأنزل الله يا أيها الذين النبي آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية
قوله تعالى وما كان لكم الآية ك أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا يقول لو قد توفي النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من بعده فنزلت وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية
وأخرج عن ابن عباس قال نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده قال سفيان ذكروا أنها عائشة
ك وأخرج عن السدي قال بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فأنزلت هذه الآية
ك واخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال يا رسول الله انها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله هذه الآية قال ابن عباس فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تدخلوا بيوت نبي الله إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه " غير ناظرين إناه " يعني: غير منتظرين إدراكه وبلوغه، وهو مصدر من قولهم: قد أنى هذا الشيء يأني إنى وأنياً وأناءً، قال الحطيئة:
وآنيت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء
وفيه لغة أخرى، يقال: قد آن لك: أي تبين لك أيناً، ونال لك وأنال لك، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
هاجت ومثلي نوله أن يربعا حمامة ناخت حماماً سجعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحددثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله " إلى طعام غير ناظرين إناه " قال: متحينين نضجه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، " غير ناظرين إناه " يقول: غير ناظرين الطعام أن يصنع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " غير ناظرين إناه " قال: غير متحينين طعامه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
ونصب " غير " في قوله " غير ناظرين إناه " على الحال من الكاف والميم في قوله " إلا أن يؤذن لكم " لأن الكاف والميم معرفة وغير نكرة، وهي من صفة الكاف والميم. وكان بعض نحويي البصرة يقول: لا يجوز في ( غير) الجر على الطعام، إلا أن تقول: أنتم، ويقول: ألا ترى أنك لو قلت: أبدى لعبد الله علي امرأة مبغضاً لها، لم يكن فيه إلا النصب، إلا أن تقول مبغض لها هو، لأنك إذا أجريت صفته عليها، ولم تظهر الضمير الذي يدل على أن الصفة له لم يكن كلاماً، لو قلت هذا رجل مع امرأة ملازمها، كان لحناً، حتى ترفع، فتقول ملازمها، أو تقول ملازمها هو، فتجر.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو جعلت ( غير) في قوله " غير ناظرين إناه " خفضاً كان صواباً، لأن قبلها الطعام وهو نكرة، فيجعل فعلهم تابعاً للطعام، لرجوع ذكر الطعام في إناه، كما تقول العرب: رأيت زيداً مع امرأة محسناً إليها ومحسن إليها، فمن قال محسناً جعله من صفة زيد، ومن خفضه فكأنه قال: رأيته مع التي يحسن إليها، فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلاً لغير النكرة، كما قال الأعشى:
فقلت له هذه هاتها إلينا بأدماء مقتادها
فجعل المقتاد تابعاً لإعراب بأدماء، لأنه بمنزلة قولك: بأدماء تقتادها، فخفضه، لأنه صلة لها، قال: وينشد: ( بأدماء مقتادها) بخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد، قال: ومعناه: هاتها على يدي من اقتادها. وأنشد أيضاً:
وإن أمراً أهدى ودونه من الأرض موماة وبيداء فيهق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته وأن تعلمي أن المعان موفق
وحكي عن بعض العرب سماعاً ينشد:
أرأيت إذ أعطيتك الود كله ولم يك عندي إن أبيت إباء
أمسلمتي للموت أنت فميت وهل للنفوس المسلمات بقاء
ولم يقل: فميت أنا، وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: يدك باسطها يريدون أنت، وهو كثير في الكلام قال: فعلى هذا يجوز خفض ( غير). والصواب من القول في ذلك عندنا، القول بإجازة جر ( غير) في ناظرين في الكلام، لا في القراءة لما ذكرنا من الأبيات التي حكيناها، فأما في القراءة فغير جائز في ( غير) غير النصب، لإجماع الحجة من القراء على نصبها.
وقوله " ولكن إذا دعيتم فادخلوا " يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله " فإذا طعمتم فانتشروا " يقول: فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا، يعني فتفرقوا واخرجوا من منزله " ولا مستأنسين لحديث " فقوله " ولا مستأنسين لحديث " في موضع خفض عطفاً به على ناظرين، كما يقال في الكلام: أنت غير ساكت ولا ناطق. وقد يحتمل أن يقال: مستأنسين في موضع نصب عطفاً على معنى ناظرين، لأن معناه: إلا أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه، فيكون قوله " ولا مستأنسين " نصباً حينئذ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأول والثاني، فترد أحياناً على لفظ الأول، وأحياناً على معناه، وقد ذكر الفراء أن أبا القمقام أنشده:
أجدك لست الدهر رائي رامة ولا عاقل إلا وأنت جنيب
ولا مصعد في المصعدين لمنعج ولا هابطاً ما عشت هضب شطيب
فرد مصعد على أن رائي فيه باء خافضة، إذ حال بينه وبين المصعد بما حال بينهما من الكلام.
ومعنى قوله " ولا مستأنسين لحديث ": ولا متحدثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناساً من بعضكم لبعض به.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " ولا مستأنسين لحديث " بعد أن تأكلوا.
واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم: نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب بنت جحش، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، قال: " بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، فبعثت داعياً إلى الطعام، فدعوت فيجيء القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون، فقلت: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، قال: ارفعوا طعامكم، وإن زينب لجالسة في ناحية البيت، وكانت قد أعطيت جمالاً وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً نحو حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ قال: فأتى حجر نسائه، فقالوا مثل ما قالت عائشة، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا الثلاثة يتحدثون في البيت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم منطلقاً نحو حجرة عائشة، فلا أدري أخبرته، أو أخبر أن الرهط قد خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة داخل البيت، والأخرى خارجه، إذا أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب ".
حدثني أبو معاوية بشر بن دحية، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: سألني أبي بن كعب عن الحجاب، فقلت: أنا أعلم الناس به، نزلت في شأن زينب، أو لم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بتمر وسويق، فنزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " إلى قوله " ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن "..
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي، قال: أخبرني يونس، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل في مبتني رسول الله بزينب بنت جحش، أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتى خرجوا، وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب بيني وبينه ستراً، وأنزل الحجاب.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، قال: دعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة بنى بزينب بنت جحش، فأوسعهم خبراً ولحماً، ثم رجع كما كان يصنع، فأتى حجر نسائه فسلم عليهن، فدعون له، ورجع إلى بيته وأنا معه، فلما انتهينا إلى الباب إذا رجلان قد جرى بهما الحديث في ناحية البيت، فلما أبصرهما ولى راجعاً، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم ولى عن بيته، وليا مسرعين، فلا أدري أنا أخبرته، أو أخبر فرجع إلى بيته، فأرخى الستر بيني وبينه، ونزلت آية الحجاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر ابن الخطاب: " قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حجبت عن أمهات المؤمنين، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب ".
حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية، آية الحجاب ( لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع طعاماً، ودعا القوم، فجاءوا فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، وجعلوا يتحدثون، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يدخل وهم قعود، قال: فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي " ... إلى " فاسألوهن من وراء حجاب " قال: فقام القوم وضرب الحجاب.
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا أبي، عن بيان، عن أنس بن مالك، قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من نسائه، فأرسلني، فدعوت قوماً إلى الطعام، فلما أكلوا وخرجوا، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً قبل بيت عائشة، فرأى رجلين جالسين، فانصرف راجعاً، فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ".
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا ابن نهشل، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: أمر عمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا، والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ".
حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا أشهل بن حاتم، قال: ثنا ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس، قال: " وكنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمر على نسائه، قال: فأتى بامرأة عروس، ثم جاء وعندها قوم، فانطلق فقضى حاجته، واحتبس وعاد وقد خرجوا، قال: فدخل فأخرى بيني وبينه ستراً، قال: فحدثت أبا طلحة، فقال: إن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء، قال ونزلت آية الحجاب ".
وقال آخرون: كان ذلك في بيت أم سلمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنايزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله " ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث " قال: كان هذا في بيت أم سلمة، قال: أكلوا، ثم أطالوا الحديث، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج ويستحي منهم، والله لا يستحيي من الحق.
قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " قال: بلغنا أنهن أمرن بالحجاب عند ذلك.
وقوله " إن ذلكم كان يؤذي النبي ". يقول: إن دخولكم بيوت النبي من غير أن يؤذن لكم وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له، كان يؤذي النبي، فيستحيي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم " والله لا يستحيي من الحق " أن يتبين لكم، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً " فاسألوهن من وراء حجاب " يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخوا عليهن بيوتهن " ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن " يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.
وقد قيل: إن سبب أمر الله النساء بالحجاب، " إنما كان من أجل أن رجلاً كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة معهما، فأصابت يدها يد الرجل، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعام ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت آية الحجاب ".
وقيل: نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا: ثنا هشيم، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس، قال: قال عمر بن الخطاب: " قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن! قال: فنزلت آية الحجاب ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمرو بن عبد الله بن وهب، قال: ثني يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: " إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول: يا رسول الله، احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة - حرصاً أن ينزل الحجاب - قال: فأنزل الله الحجاب ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: " خرجت سودة لحاجتها بعدما ضرب علينا الحجاب، وكانت امرة تفرع النساء طولاً، فأبصرها عمر، فناداها: يا سودة، إنك والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، أو كيف تصنعين. فانكفأت فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتعشى، فأخبرته بما كان، وما قال لها، وإن في يده لعرقاً، فأوحى إليه ثم رفع عنه، وإن العرق لفي يده، فقال: لقد أذن لكن إن تخرجن لحاجتكن ".
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: " أمر عمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟ فأنزل الله " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ".
حدثني أبو أيوب النهراني سليمان بن عبد الحميد، قال: ثنا يزيد بن عبد ربه، قال: ثني ابن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، " أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: فأنزل الله الحجاب، قال الله " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا " .. الآية ".
وقوله " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يصلح ذلك لكم " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
وذكر أن ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب، قال: لئن مات محمد لأتزوجن امرأة من نسائه سماها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ".
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما " قال: ربما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يقول: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي تزوجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " ... الآية.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وقد ملك قيلة بنت الأشعث، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق على أبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر: ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها، وقد برأها منه بالردة التي ارتدت مع قومها. فاطمأن أبو بكر وسكن.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد ملك بنت الأشعث بن قيس، ولم يجامعها، وذكر نحوه.
وقوله " إن ذلكم كان عند الله عظيما " يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.
"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما "
فيه ست عشرة مسألة:الأولى: قوله تعالى: "لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " أن في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء ليس من الأول. " إلى طعام غير ناظرين إناه " نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في غيرالخفض على النعت للطعام، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل مع رجل ملازم له هو.
وهذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية:أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها:أن" رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بينى وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" إلى قوله "إن ذلكم كان عند الله عظيما " أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأول الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة:سببها أن عمر قال قلت: "يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن" فنزلت الاية. وروى الصحيح، عن ابن عمر قال:قال عمر وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود:أن عمر أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب، إنك تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فأنزل الله تعالى: " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم " وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيناه. أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وقيل:إن" رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم" فنزلت آية الحجاب. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه. وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام.
الثانية: قوله تعالى: "بيوت النبي" دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به،فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا " (الأحزاب: 34،) قلنا: إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم، والإذن إنما يكون للمالك.
الثالثة: واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مئونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال:"لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة أهلي ومئونة عاملي فهو صدقة ". هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن. قالوا: ولو كان ذلك ملكاً لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا، وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه. والله الموفق.
قوله تعالى: "غير ناظرين إناه " أي غير منتظرين وقت نضجه. ولا إناه مقصور، وفيه لغات:إنى بكسر الهمزة. قال الشيباني:
وكسرى إذ تقسمه بنـــوه بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمـــــــــام
وقرأ ابن أبي عبلة: غير ناظرين إناه مجرورًا صفة لـ (طعام). الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وأنى (بفتحها)، وأناء (بفتح الهمزة والمد) قال الحطيئة:
وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء
يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.
الرابعة: قوله تعالى: " ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا " فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول. والفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة.
الخامسة: قوله تعالى: "فإذا طعمتم فانتشروا" أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الاكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى اكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.
السادسة: في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه لأنه قال: "فإذا طعمتم فانتشروا" فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
السابعة: قوله تعالى: " ولا مستأنسين لحديث " عطف على قوله: "غير ناظرين " وغير منصوبة على الحال من الكاف والميم في لكم أي غير ناظرين ولا مستأنسين والمعنى المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. " إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق " أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفى عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر. وفي الصحيح عن أم سلمة قالت:"جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المراة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء". الثامنة: قوله تعالى: " وإذا سألتموهن متاعا" الاية. روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال: قال عمر:وافقت ربي في أربع...؟ الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب، فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، فأنزل الله عز وجل " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ".
واختلف في المتاع فقيل: ما يتمتع به من العواري . وقيل فتوى. وقيل صحف القران. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والد نيا.
التاسعة: في هذه الاية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.
العاشرة: استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره.
الحادية عشرة: قوله تعالى: "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن " يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
الثانية عشرة: قوله تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: "ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا" روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة فأنزل الله تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " الآية. ونزلت: " وأزواجه أمهاتهم ". وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء في نفسه لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه. وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة. وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد الله .
قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة ولا يصح. قال ابن عطية: لله در ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا الإمام أبو العباس:وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزًا لشرفه وتنبيهًا على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرًا لقوله تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا". وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في كتاب التذكرة من أبواب الجنة.
الرابعة عشرة: اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته؟ هل بقين أزواجًا أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة؟ لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن؟ لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام:" ما تركت بعد نفقة عيالي " وروي أهلي وهذا اسم خاص بالزوجية فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعًا بخلاف سائر الناس لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام:"زوجاتي في الدنياهن زوجاتي في الآخرة ". وقال عليه السلام:"كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة".
فرع: فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها؟ فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك؟ لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي. قال القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر ذلك أحد فدل على أنه إجماع.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن ذلكم كان عند الله عظيما" يعني أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواجه فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.
السادسة عشرة: قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بعد في نزول اية عند هذه الأسباب كلها والله أعلم بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية, وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث, قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, فأنزل الله تعالى: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن, فأنزل الله آية الحجاب, وقلت لأزاوج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت كذلك, وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة.
وقد قال البخاري : حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه, وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما, وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث, فالله أعلم.
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي , حدثنا معتمر بن سليمان , سمعت أبي , حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش , دعا القوم فطعموا, ثم جلسوا يتحدثون, فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا, فلما رأى ذلك قام, فلما قام, قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل, فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل, فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا" الاية, وقد رواه أيضا في موضع آخر, و مسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به.
ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة , عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه, ثم قال: حدثنا أبو معمر , حدثنا عبد الوارث , حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: " بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم, فأرسلت على الطعام داعياً, فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون, ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون, فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه, فقلت: يارسول الله ما أجد أحداً أدعوه, قال : ارفعوا طعامكم . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم , فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته قالت: وعليك السلام ورحمة الله, كيف وجدت أهلك يا رسول الله ؟ بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة, ويقلن له كما قالت عائشة, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون, وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء, فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة, فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا, فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة, أرخى الستر بيني وبينه, وأنزل آية الحجاب" . انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث , ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك, وقال رجلان: انفرد به من هذا الوجه, وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر , حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال: " أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه, فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تور فقالت: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل, قال أنس : والناس يومئذ في جهد, فجئت به فقلت: يارسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك, وهي تقرئك السلام وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل, فنظر إليه ثم قال : ضعه فوضعته في ناحية البيت ثم قال: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً فسمى رجالاً كثيراً وقال :ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين, فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس, فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا ؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم جىء به فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال : ما شاء الله , ثم قال: ليتحلق عشرة عشرة, وليسموا, وليأكل كل إنسان مما يليه فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعه قال: فجئت فأخذت التور, فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط, فأطالوا الحديث, فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء, ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه, فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه, ابتدروا الباب فخرجوا, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن, فخرج وهو يتلو هذا الاية "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" " الايات, قال أنس : فقرأهن علي قبل الناس, فأنا أحدث الناس بهن عهداً, وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به, وقال الترمذي : حسن صحيح, وعلقه البخاري في كتاب النكاح , فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه. ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به, وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه, ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك, ولم يخرجوه, ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : "اذهب فاذكرها علي قال: فانطلق زيد حتى أتاهاـ قال ـ وهي تخمر عجينها, فلما رأيتها عظمت في صدري, وذكر تمام الحديث " كما قدمناه عند قوله تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً" وزاد في آخره بعد قوله: ووعظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه "لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" الاية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة .
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب , حدثني عمي عبد الله بن وهب , حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ـ وهو صعيد أفيح ـ وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك, فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل, فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت امرأة طويلة, فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك ياسودة حرصاً على أن ينزل الحجاب, قالت: فأنزل الله الحجاب, هكذا وقع في هذه الرواية, والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب.
كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة, لا تخفى على من يعرفها, فرآها عمر بن الخطاب فقال: ياسودة أما والله ما تخفين علينا, فانظري كيف تخرجين ؟ قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق, فدخلت فقالت: يارسول الله إني خرجت لبعض حاجتي, فقال لي عمر: كذا وكذا, قالت: فأوحى الله إليه, ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه, فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن" لفظ البخاري , فقوله تعالى: "لا تدخلوا بيوت النبي" حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام, حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك, وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" الحديث, ثم استثنى من ذلك فقال تعالى:"إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه" قال مجاهد وقتادة وغيرهما: أي غير متحينين نضجه واستواءه, أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول, فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه, وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن, وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين, وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
ثم قال تعالى: "ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا" وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره" وأصله في الصحيحين , وفي الصحيح أيضاً " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت, فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض" ولهذا قال تعالى: "ولا مستأنسين لحديث" أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث, ونسوا أنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى: "إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم" وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به, ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك, ولهذا قال تعالى: "والله لا يستحيي من الحق" أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه.
ثم قال تعالى: "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية, ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن, فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت: " كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب, فمر عمر فدعاه فأكل, فأصابت إصبعه إصبعي, فقال حسن أو أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين " , فنزل الحجاب "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.
وقوله تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً" قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا محمد بن أبي حماد , حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده, قال رجل لسفيان : أهي عائشة ؟ قال: قد ذكروا ذلك, وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم , وذكر بسنده عن السدي إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك, ولهذا اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده, لأنهن أزواجه في الدنيا والأخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم, واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته: هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله "من بعده" أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً, والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى , حدثنا عبد الوهاب , حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث ـ يعني ابن قيس ـ فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك, فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة, فقال له عمر : ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه, إنها لم يخيرها رسول الله ولم يحجبها, وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها: قال: فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه وسكن, وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك, وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: "إن ذلكم كان عند الله عظيماً" ثم قوله تعالى: "إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً" أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم, فإن الله يعلمه, فإنه لا تخفى عليه خافية "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور".
قوله: 53- "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن منه. سبب الزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله: "إلا أن يؤذن لكم" استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذوناً لكم، وهو في موضع نصب على الحال: أي إلا مصحوبين بالإذن أو بنزع الخافض: أي إلا بأن يؤذن لكم، أو منصوب على الظرفية: أي إلا وقت أن يؤذن لكم، وقوله: "إلى طعام" متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء: أي ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين: منتظرين، و "إناه": نضجه وإدراكه، يقال أنى يأنى أنى: إذا حان وأدرك. قرأ الجمهور "غير ناظرين" بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالجر صفة لطعام، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جارياً على غير من هو له، فكان حقه أن يقال غير ناظرين إناه أنتم ثم بين لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال: "ولكن إذا دعيتم فادخلوا" وفيه تأكيد للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن. قال ابن الأعرابي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذناً كافياً في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه "فإذا طعمتم فانتشروا" أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام، وهو التفرق، والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل "ولا مستأنسين لحديث" عطف على قوله غير ناظرين، أو على مقدر: أي ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين. والمعنى: النيه لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث. قال الرازي في قوله: "إلا أن يؤذن لكم إلى طعام" إما أن يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز، فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول. وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ويدخلون من غير إذن، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن. وقال ابن عادل: الأولى أن يقال المراد هو الثاني، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: "إلى طعام" من باب التخصيص بالذكر، فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم مثله، فإن من جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى. والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال: قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذن نزلت فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النيه سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، والإشارة بقوله: "إن ذلكم" إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله: "عوان بين ذلك" أي إن ذلك المذكور من الأمرين"كان يؤذي النبي" لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل إطالتهم كرماً منه فيصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب، صار أدباً لهم ولمن بعدهم "فيستحيي منكم" أي يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا "والله لا يستحيي من الحق" أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة. وقرأ الجمهور يستحيي بياءين، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي، ثم ذكر سبحانه أجباً آخر متعلقاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وإذا سألتموهن متاعاً" أي شيئاً يتمتع به، من الماعون وغيره "فاسألوهن من وراء حجاب" أي من وراء ستل بينكم وبينهن. والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "أطهر لقلوبكم وقلوبهن" أي أكثر تطهيراً لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، واللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه من الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من جون حجاب لمن تحرم عليه "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" أي ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب "ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً" أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، والإشارة بقوله: "إن ذلكم" إلى نكاح أزواجه من بعده "كان عند الله عظيماً" أي ذنباً عظيماً وخطباً هائلاً شديداً. وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل: لو قد مات محمد لتزوجنا نساءه، وسيأتي بيان ذلك.
قوله عز وجل: 53- "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم"، الآية. قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا يحيى بن بكير، أخبرنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام النبي لله فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب.
وقال أبو عثمان -واسمه الجعد- عن أنس قال: فدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة، وهو يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" إلى قوله: " والله لا يستحيي من الحق ".
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم، فنزلت:
"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" يقول: إلا أن تدعوا، "إلى طعام"، فيؤذن لكم فتأكلونه، "غير ناظرين إناه"، غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه، يقال: أنى الحميم: إذا انتهى حره، وإني أن يفعل ذلك: إذا حان، إنى بكسر الهمزة مقصورة، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء، وفيه لغتان إني يأنى، وآن يئين، مثل: حان يحين.
"ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم"، أكلتم الطعام، "فانتشروا"، تفرقوا واخرجوا من منزله، "ولا مستأنسين لحديث"، ولا طالبين الأنس للحديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فنهواً عن ذلك.
" إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق "، أي: لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياءً.
" وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب "، أي: من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة، "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" من الريب.
وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا يحيى بن بكير، أخبرنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة -حرصاً على أن ينزل الحجاب-، فأنزل الله تعالى آية الحجاب.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد، عن أنس قال: "قال عمر: وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقلت: يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني بعض ما آذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه، قال: فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة، قلت: والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على زينب فقالت: يا عمر ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، قال: فخرجت فأنزل الله عز وجل: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " (التحريم-5)، إلى آخر الآية".
قوله عز وجل: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله"، ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء، " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا "، نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة.
قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله، فأخبر الله عز وجل أن ذلك محرم، وقال: "إن ذلكم كان عند الله عظيماً"، أي: ذنباً عظيماً.
وروى معمر عن الزهري، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له، وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.
53 -" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذوناً لكم . " إلى طعام " متعلق بـ " يؤذن " لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : " غير ناظرين إناه " غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل " لا تدخلوا " أو المجرور في " لكم " . وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جارياً على غير من هو له بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة و الكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك . " ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا " تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم . " ولا مستأنسين لحديث " لحديث بعضكم بعضاً ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على " ناظرين " أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين . " إن ذلكم " اللبث . " كان يؤذي النبي " لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه . " فيستحيي منكم " من إخراجكم بقوله : " والله لا يستحيي من الحق " يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ (( لا يستحي )) بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء . " وإذا سألتموهن متاعاً " شيئاً ينتفع به . " فاسألوهن " المتاع . " من وراء حجاب " ستر . روي " أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت " . وقيل " أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت " . " ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن " من الخواطر النفسانية الشيطانية . " وما كان لكم " وما صح لكم . " أن تؤذوا رسول الله " أن تفعلوا ما يكرهه . " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً " من بعد وفاته أو فراقه ، وخص التي لم يدخل بها ، ولم روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير . " إن ذلكم " يعني إيذاءه ونكاح نسائه . " كان عند الله عظيماً " ذنباً عظيماً ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حياً وميتاً ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال :
53. O ye who believe! Enter not the dwellings of the Prophet for a meal without waiting for the proper time, unless permission be granted you. But if ye are invited, enter, and, when, your meal is ended, then disperse. Linger not for conversation. Lo! that would cause annoyance to the Prophet, and he would be shy of (asking) you (to go); but Allah is not shy of the truth. And when ye ask of them (the wives of the Prophet) anything, ask it of them from behind a curtain. That is purer for your hearts and for their hearts. And it is not for you to cause annoyance to the messenger of Allah, nor that ye should ever marry his wives after him. Lo! that in Allah's sight would be an enormity.
53 - O ye who believe enter not the Prophet's houses, until leave is given you, for a meal, (and then) not (so early as) to wait for its preparation: but when ye are invited, enter; and when ye have taken your meal, disperse, without seeking Familiar talk such (behavior) annoys the Prophet: he is ashamed to dismiss you, but God is not ashamed (to tell you) the truth. And when ye ask (his ladies) for anything ye want, ask them from before a screen: that makes for greater purity for your hearts and for theirs. Nor is it right for you that ye should annoy God's Apostle, or that ye should marry his widows after him at any time. Truly such a thing is in God's sight an enormity.