53 - (وكذلك فتنا) ابتلينا (بعضهم ببعض) أي الشريف بالوضيع والغني بالفقير بأن قدمناه بالسبق إلى الإيمان (ليقولوا) أي الشرفاء والأغنياء منكرين (أهؤلاء) الفقراء (من الله عليهم من بيننا) بالهداية أي لو كان ما هم عليه هدى ما سبقونا إليه قال تعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) له فيهديهم ، بلى
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، يقول : ابتلينا بعضهم ببعض .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنىالفتنة، وأنها الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعض خلقه ببعض، مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق، فجعل بعضاً غنياً وبعضاً فقيراً ، وبعضاً قوياً ، وبعضاً ضعيفاً ، فأحوج بعضهم إلى بعض ، اختباراً منه لم بذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "وكذلك فتنا بعضهم ببعض"، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء: "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا"، يعني : هداهم الله . وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسخرياً.
وأما قوله : "ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا"، يقول تعالى : اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعز والذل ، والقوة والضعف ، والهدى والضلال ، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحق ، للذين هداهم الله ووفقهم : "أهؤلاء من الله عليهم"، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء، "من بيننا"، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاء بهم ، ومعاداة للإسلام وأهله.
يقول تعالى ذكره : "أليس الله بأعلم بالشاكرين"، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق ، وخذلهم عنه وهم أغنياء، وتقرير لهم : أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكراً نعمتي ، ممن هو لها كافر. فمني على من مننت عليه منهم بالهداية، جزاء شكره إياي على نعمتي ، وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي ، ، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلا جزاء على عمله الذي اكتسبه ، لا على غناه وفقره ، لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي.
قوله تعالى :" وكذلك فتنا بعضهم ببعض " أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء، والفتنة الاختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين " ليقولوا" نصب بلام كي يعني الأشراف والأغنياء " أهؤلاء " يعني الضعفاء والفقراء: " من الله عليهم من بيننا " قال النحاس: وهذا من المشكل لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكاراً فهو كفر منهم وفي هذا جوابان : أحدهما- أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " والجواب الآخر- أنهم لما اختبروا بهذا قال عاقبته إلى أن هذا على سبيل الإنكار وصار مثل قوله : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا" [القصص: 8] " أليس الله بأعلم بالشاكرين " فيمن عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر وهذا استفهام تقرير وهو جواب لقولهم : " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " وقيل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله" أي لست أملكها ولا أتصرف فيها "ولا أعلم الغيب" أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب, إنما ذاك من علم الله عز وجل, ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه, "ولا أقول لكم إني ملك" أي ولا أدعي أني ملك, إنما أنا بشر من البشر, يوحى إلي من الله عز وجل, شرفني بذلك وأنعم علي به, ولهذا قال " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه, "قل هل يستوي الأعمى والبصير" أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه, ومن ضل عنه فلم ينقد له, "أفلا تتفكرون" وهذه كقوله تعالى: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب" وقوله "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع" أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد "الذين هم من خشية ربهم مشفقون" " ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " أي يوم القيامة "ليس لهم" أي يومئذ "من دونه ولي ولا شفيع" أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم, من عذابه إن أراده بهم, "لعلهم يتقون" أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه, إلا الله عز وجل, "لعلهم يتقون" فيعملون في هذه الدار, عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه, ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. وقوله تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك, بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " وقوله "يدعون ربهم" أي يعبدونه ويسألونه "بالغداة والعشي" قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة, وهذا كقوله "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" أي أتقبل منكم. وقوله "يريدون وجهه" أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم, وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات, وقوله "ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء" كقول نوح عليه السلام: في جواب الذين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون, قال:وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون, أي إنما حسابهم على الله عز وجل, وليس علي من حسابهم من شيء, كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء, وقوله "فتطردهم فتكون من الظالمين" أي إن فعلت هذا والحالة هذه, قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط هو ابن محمد, حدثني أشعث عن كردوس, عن ابن مسعود: قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار, فقالوا: يا محمد, أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ورواه ابن جرير من طريق أشعث, عن كردوس, عن ابن مسعود, قال: مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم, من ضعفاء المسلمين, فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك, فنزلت هذه الاية "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" إلى آخر الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ـ وكان قارى الأزد ـ عن أبي الكنود, عن خباب, في قول الله عز وجل: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" قال جاء الأقرع بن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع صهيب وبلال وعمار وخباب, قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين, فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا, فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت, قال: "نعم", قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً, قال: فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية, فنزل جبريل فقال "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" الاية, فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده, ثم دعانا فأتيناه, ورواه ابن جرير من حديث أسباط به, وهذا حديث غريب, فإن هذه الاية مكية, والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر, وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه, قال: قال سعد: نزلت هذه الاية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, منهم ابن مسعود, قال: كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه, فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا, فنزلت "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان, وقال: على شرط الشيخين, وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.
وقوله "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا ببعض, " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان غالب من اتبعه في أول بعثته, ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء, ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل, كما قال قوم نوح لنوح "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" الاية, وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل, فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال: بل ضعفاؤهم, فقال: هم أتباع الرسل, والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم, ويعذبون من يقدرون عليه منهم, وكانوا يقولون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير, لو كان ما صاروا إليه خيراً ويدعنا, كقولهم "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" وكقوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً" قال الله تعالى في جواب ذلك "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً" وقال في جوابهم حين قالوا: " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " أي أليس هو أعلم بالشاكرين له, بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم, فيوفقهم ويهديهم سبل السلام, ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه, ويهديهم إلى صراط مستقيم, كما قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, عن حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله: "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الاية, قال: جاء عتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, ومطعم بن عدي, والحارث بن نوفل, وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف, من أهل الكفر, إلى أبي طالب, فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا, فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا, كان أعظم في صدورنا, وأطوع له عندنا, وأدنى لاتباعنا إياه, وتصديقنا له, قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون, وإلى ما يصيرون من قولهم, فأنزل الله عز وجل هذه الاية "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" إلى قوله "أليس الله بأعلم بالشاكرين" قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد, ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارى, وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو, وذو الشمالين, ومرثد بن أبي مرثد, وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب, وأشباههم من الحلفاء, فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء, " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " الاية, فلما نزلت, أقبل عمر رضي الله عنه, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر من مقالته, فأنزل الله عز وجل "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" الاية, وقوله "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم" أي فأكرمهم برد السلام عليهم, وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم, ولهذا قال "كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي أوجبها على نفسه الكريمة, تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً, "أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة" قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل, وقال معتمر بن سليمان: عن الحكم بن أبان بن عكرمة, في قوله "من عمل منكم سوءاً بجهالة" قال: الدنيا كلها جهالة, رواه ابن أبي حاتم "ثم تاب من بعده وأصلح" أي رجع عما كان عليه من المعاصي, وأقلع وعزم على أن لا يعود, وأصلح العمل في المستقبل, "فأنه غفور رحيم" قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر, عن همام بن منبه, قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" أخرجاه في الصحيحين, وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة, ورواه موسى عن عقبة: عن الأعرج, عن أبي هريرة, وكذا رواه الليث وغيره, عن محمد بن عجلان, عن أبيه عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان: عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق, أخرج كتاباً من تحت العرش, إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة أو قبضتين, فيخرج من النار خلقاً لم يعملوا خيراً, مكتوب بين أعينهم عتقاء الله" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله "كتب ربكم على نفسه الرحمة" قال: إنا نجد في التوراة عطفتين, أن الله خلق السموات والأرض, وخلق مائة رحمة, أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق, ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة, قال: فبها يتراحمون, وبها يتعاطفون, وبها يتباذلون, وبها يتزاورون, وبها تحن الناقة, وبها تبح البقرة, وبها تثغو الشاة, وبها تتتابع الطير, وبها تتتابع الحيتان في البحر, فإذا كان يوم القيامة, جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده, ورحمته أفضل وأوسع, وقد روي هذا مرفوعاً من وجه آخر, وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله "ورحمتي وسعت كل شيء" ومما يناسب هذه الاية من الأحاديث أيضاً, قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" ثم قال: " أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم" وقد رواه الإمام أحمد: من طريق كميل بن زياد, عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قوله: 53- "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" أي مثل ذلك الفتن العظيم فتناً بعض الناس ببعض، والفتنة: الاختبار: أي عاملناهم معاملة المختبرين، واللام في "ليقولوا" للعاقبة: أي ليقول البعض الأول مشيرين إلى البعض الثاني "أهؤلاء" الذين "من الله عليهم من بيننا" أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا. قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذا القول وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر، وأجاب بجوابين: الأول: أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار، والثاني: أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبته هذا القول منهم كقوله: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً". قوله: قوله: "أليس الله بأعلم بالشاكرين" هذا الاستفهام للتقرير. والمعنى: أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر، وهو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.
53- قوله عز وجل: " وكذلك فتنا "، أي: ابتلينا، "بعضهم ببعض "، أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله: " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا "، فقال الله تعالى: "أليس الله بأعلم بالشاكرين "، فهو جواب لقولهم " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " فهو استفهام بمعنى التقرير، أي: الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل.
أخبرنا الإمام ابو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلي بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال:" جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنتم تصنعون ؟قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم قال: ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم له، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة ".
53 " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . " فتنا " أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهو المساكين والضعفاء . وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : " لو كان خيراً ما سبقونا إليه " واللام للعاقبة أو التعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا " أليس الله بأعلم بالشاكرين " بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله .
53. And even so do We try some of them by others, that they say: Are these they whom Allah favoureth among us? Is not Allah best aware of the thanksgivers?
53 - Thus did we try some of them by comparison with others, that they should say: is it these then that God hath favored from amongst us? doth not God know best those who are grateful?