54 - (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) لم يعد شيئا إلا وفى به وانتظر من وعد ثلاثة أيام أو حولا حتى رجع إليه في مكانه (وكان رسولا) إلى جرهم (نبيا)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد في هذا الكتاب إسماعيل بن إبراهيم ، فاقصص خبره إنه كان لا يكذب وعده ، ولا يخلف ، ولكنه كان إذا وعد ربه ، أو عبداً من عباده وعداً وفى به.
كما حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله : "إنه كان صادق الوعد" قال لم يعد ربه عدة إلا أنجزها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل، حدثه أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل ، فظل به إسماعيل، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من ها هنا؟ قال: لا، قال : إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتي ، فبذلك كان صادقاً.
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إسماعيل " اختلف فيه، فقيل: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق، والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في ((والصافات)) إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً، كالتلقيب بنحو الحليم والأواه والصديق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
الثانية: صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين على ما تقدم بيانه في ((براءة)). وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدي. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلاً أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له، ما زلت هاهنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره " عن عبد الله بن أبي الحمساء قال:
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك " لفظ أبي داود . وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوماً، ذكره الماوردي . وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئاً إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية، والله أعلم.
الثالثة: من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم:
" العدة دين ". وفي الأثر " وأي المؤمن واجب " أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا إن ذلك ليس بواجب فرضاً لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء، فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به. والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن
ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحاً وثناء، وبما خالفه ذماً.
الرابعة: قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه. قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجلا يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه و الأوزاعي و الشافعي وسائر الفقهاء:إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد " وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع.
الخامسة: " وكان رسولا نبيا " قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفاً له. والله أعلم.
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج : لم يعد ربه عدة إلا أنجزها, يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير : حدثني يونس , أنبأنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه, فجاء ونسي الرجل, فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من ههنا ؟ قال: لا. قال: إني نسيت قال: لم أكن أبرح حتى تأتيني, فلذلك "كان صادق الوعد" وقال سفيان الثوري : يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه وقال ابن شوذب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
وقد روى أبو داود في سننه, و أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق, من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق , عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء , قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك, قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك, فقال لي: "يا فتى لقد شققت علي, أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك, ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان , عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.
وقال بعضهم: إنما قيل له: "صادق الوعد" لأنه قال لأبيه: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" فصدق في ذلك, فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان" ولما كانت هذه صفات المنافقين, كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين, ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به, وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب, فقال: "حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي" ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له, فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.
وقوله: "وكان رسولاً نبياً" في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق, لأنه إنما وصف بالنبوة فقط, وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" وذكر تمام الحديث, فدل على صحة ما قلناه. وقوله: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً" هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة, والخلة السديدة, حيث كان مثابراً على طاعة ربه عز وجل, آمراً بها لأهله, كما قال تعالى لرسوله: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" الاية, وقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملاً, فتأكلهم النار يوم القيامة, وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء" أخرجه أبو داود وابن ماجه . وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين, كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له.
ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كون جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل إنه انتظر لبعض من وعده حولاً. والمراد بإسماعيل هنا هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به فقال: هو إسماعيل بن حزيقل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل 54- "وكان رسولاً نبياً" على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا شريعته، وقيل إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم.
54 - قوله عز وجل : " واذكر في الكتاب إسماعيل " ، وهو إسماعيل بن إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم " إنه كان صادق الوعد " ، قال مجاهد : لم يعد شيئاً إلا وفى به .
وقال مقاتل : وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه الرجل ، فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل .
وقال الكلبي : انتظره حتى حال عليه الحول .
" وكان رسولاً " ، إلى جرهم ، " نبياً " ، مخبراً عن الله عز وجل .
54 " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد " ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره ، وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال:"ستجدني إن شاء الله من الصابرين" فوفى. "وكان رسولاً نبياً" يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ،فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.
54. And make mention in the Scripture of Ishmael. Lo! he was a keeper of his promise, and he was a messenger (of Allah) a Prophet.
54 - Also mention in the Book (The story of) Ismail: He was (strictly) true to what he promised, and he was an apostle (and) a prophet.