(وإذ قال موسى لقومه) الذين عبدوا العجل (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) إلها (فتوبوا إلى بارئكم) خالقكم من عبادته (فاقتلوا أنفسكم) أي ليقتل البريء منكم المجرم (ذلكم) القتل (خير لكم عند بارئكم) فوفقكم لفعل ذلك وأرسل عليكم سحابة سوداء لئلا يبصر بعضكم بعضا فيرحمه حتى قتل منكم نحو سبعين ألفا (فتاب عليكم) قبل توبتكم (إنه هو التواب الرحيم)
وتأويل ذلك: واذكروا أيضاً إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم. وظلمهم إياها، كان فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من الله تعالى، فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم.
ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم.
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى التوبة: الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته. فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج،عن أبي إسحق، عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: "فاقتلوا أنفسكم "، قال: عمدوا إلى الخناجر فجعل يطعن بعضهم بعضاً.
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج، أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً، لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي، فقد اكتفيت فذلك حين ألوى بثوبه.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة، قال، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: "توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ". قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السديقال: لما رجع موسى إلى قومه قال: " يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا" إلى قوله " فكذلك ألقى السامري" (طه: 86- 87). فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه " قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي" (طه: 94). فترك هرون ومال إلى السامري، فقال: "ما خطبك يا سامري" إلى قوله "ثم لننسفنه في اليم نسفا" (طه: 95- 97) ثم أخذه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول: "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" (البقرة: 93). فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: "لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: "يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ". قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفاً، حتى دعا موسى وهرون: ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدًا، ومن بقي كان مكفرًا عنه. فذلك قوله: "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ".
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: "باتخاذكم العجل "، قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضاً بالخناجر، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده، فتاب الله عليهم.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "باتخاذكم العجل "، قال: كان أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضاً، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفاً.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم " الآية، قال: فصاروا صفين، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فبلغ القتلى ما شاء الله. ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه. حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه. فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؟ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: "فاقتلوا أنفسكم "، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضاً، حتى قيل لهم: كفوا! قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: سمعت عبيدبن عميريقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضاً، ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدًا، حتى نزلت التوبة.
قال ابن جريج، وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفاً، ثم رفع الله جل وعز عنهم القتل وتاب عليهم.
قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضاً: أن الله علم أن ناسًا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضاً.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه وكان سبعون رجلاً قد اعتزلوا مع هرون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! "اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم " الآية. فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضاً. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدًا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: "وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين" ( الدخان: 33). قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، وقرأ: "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ".
فالذي ذكرنا عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل، مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك.
وأما معنى قوله: "فتوبوا إلى بارئكم "، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما:حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "فتوبوا إلى بارئكم "، أي: إلى خالقكم.
وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارىء. و البرية: الخلق. وهي فعيلة بمعنى مفعولة، غير أنها لا تهمز، كما لا يهمز ملك وهو من لأك ، لكنه جرى بترك الهمز كذنك. قال نابغة بني ذبيان:
إلا سليمان إذ قال المليك له: قم في البرية فاحددها عن الفند
وقد قيل: إن البرية إنما لم تهمز، لأنها فعيلة من البرى، والبرى: التراب. فكان تأويله على قول من تأوله كذلك: أنه مخلوق من التراب.
وقال بعضهم: إنما أخذت البرية من قولك بريت العود. فلذلك لم يهمز.
قال أبو جعفر: وترك الهمز من بارئكم جائز، والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزًا في باريكم ، فغير مستنكر أن تكون البرية من: برى الله الخلق ، بترك الهمزة.
وأما قوله: "ذلكم خير لكم عند بارئكم "، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم، وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لإنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه.
وقوله: "فتاب عليكم "، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضاً. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك. لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله: فتبتم ، إذ كان في قوله: "فتاب عليكم " دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم.
ويعني بقوله: "فتاب عليكم "، رجع لكم ربكم إلى ما أحببتها: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم، "إنه هو التواب الرحيم " يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفوعنه.
* ويعني بـ "الرحيم "، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
قوله تعالى : "وإذ قال موسى لقومه" القوم : الجماعة الرجال دون النساء ، قال الله تعالى : "لا يسخر قوم من قوم" ثم قال : "ولا نساء من نساء" . وقال زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى :"ولوطا إذ قال لقومه" أراد الرجال دون النساء . وقد يقع القوم على الرجال والنساء ، قال الله تعالى : "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه" وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعاً .
قوله تعالى : "يا قوم" منادى مضاف . وحذفت الياء في ياقوم لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها ، وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد . ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة ، فتقول : يا قومي ، لأنها اسم وهي في موضع خفص . وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء ، فقلت : يا قوميه . وإن شئت أبدلت منها ألفاً لأنها أخف ، فقلت : يا قوما ، وإن شئت قلت : يا قوم ، بمعنى يأيها القوم . وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت . وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ . وتقول : قوم وأقوام ، وأقاوم جمع الجمع . والمراد هنا بالقوم عبدة العجل ، وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى .
قوله تعالى : "إنكم ظلمتم أنفسكم" استغنى بالجمع القليل عن الكثير ، والكثير نفوس . وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة ، والقليل موضع الكثيرة ، قال الله تعالى : "ثلاثة قروء" . وقال : "وفيها ما تشتهيه الأنفس" . ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره :إنما أسأت إلى نفسك . وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه . ثم قال تعالى : "باتخاذكم العجل" قال بعض أرباب المعاني : عجل كل إنسان نفسه ، فمن أسقطه وخالف مراده فقد برىء من ظلمه . والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل . والحمد لله .
قوله تعالى : "فتوبوا إلى بارئكم" لما قال لهم : فتوبوا إلى بارئكم ، قالوا : كيف ؟ قال : "فاقتلوا أنفسكم" . قال أرباب الخواطر : ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات . والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا . والقتل : إماتة الحركة . وقتلت الخمر : كسرت شدتها بالماء . قال سفيان بن عيينة : التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم ، وكانت توبة بني إسرائيل القتل . وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده . قال الزهري : لما قيل لهم : "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم" قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا ، حتى قيل لهم : كفوا . فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي ، على ما تقدم . وقال بعض المفسرين : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك . وقيل : وقف الذين عبدوا العجل صفا ، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم . وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ـ إذ لم يعبدوا العجل ـ من عبد العجل . ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال : ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل . فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم ـ يعني من قتل ـ وأقبل الرجل يقتل من يليه . ذكره النحاس وغيره . وإنما عوقبل الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم ـ على القول الأول ـ ، لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده .وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع . روى جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب" . أخرجه ابن ماجة في سننه . وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى . فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفاً عفا الله عنهم . قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما . وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم . فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة . وقرأ قتادة : فأقبلوا أنفسكم ـ من الإقالة ـ ، أي استقبلوها من العثرة بالقتل .
قوله تعالى : "بارئكم" البارىء : الخالق ، وبينهما فرق ، وذلك ان البارىء هو المبدع المحدث . والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال . والبرية : الخلق ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز . وقرأ أبو عمرو بارئكم ـ بسكون الهمزة ـ ويشعركم وينصركم ويأمركم . واختلف النحاة في هذا ، فمنهم من يسكن الضمة والكسرة في الوصل ، وذلك في الشعر . وقال أبو العباس المبرد . لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر . وقراءة أبي عمرو لحن . قال النحاس وغيره : وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة ، وأنشدوا :
إذا اعوججن قلت صاحب قوم بالدو أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس :
فاليوم اشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقال آخر :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
وقال الآخر :
رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر
فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب . قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات . وأصل برأ من تبرى الشيء من الشيء وهو انفصاله منه . فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ، ومنه برأت من المرض برءاً ( بالفتح ) كذا يقول أهل الحجاز . وغيرهم يقول : برئت من المرض برءاً ( بالضم ) ، وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ، ومنه المبارأة للمرأة . وقد بارأ شريكه وامرأته .
قوله تعالى : "فتاب عليكم" في الكلام حذف ، تقديره ففعلتم فتاب عليكم ، أي فتجاوز عنكم ، أي على الباقين منكم . "إنه هو التواب الرحيم" تقدم معناه ، والحمد لله .
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى "وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل" فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا" الاية. قال: فذلك حين يقول موسى "يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل" وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس "فتوبوا إلى بارئكم" أي إلى خالقكم، قلت: وفي قوله ههنا "إلى بارئكم" تنبيه على عظم جرمهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال، فقال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول، وهذا قطعة من حديث الفتون وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله. وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال موسى لقومه: "توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم" قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهداً يقولان في قوله تعالى "فاقتلوا أنفسكم" قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف قتيل، وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك، وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس، فقتل بعضهم بعضاً ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك، وقال السدي في قوله "فاقتلوا أنفسكم"قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه، فذلك قوله "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم" وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم، قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى، ما يحزنك، أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل، رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه، وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم، فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى. ما من توبة، قال: بلى، اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ـ الاية: فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لايدري. قال: ويتنادون فيها رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم ثم قرأ "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم".
قوله: 54- "يا قوم" القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
ومنه قوله تعالى: "لا يسخر قوم من قوم"، ثم قال: "ولا نساء من نساء"، ومنه: "ولوطاً إذ قال لقومه" أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى: "إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه" والمراد هنا بالقوم عبدة العجل. والبارئ الخالق، وقيل: إن البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم: أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله: "فتوبوا" للسببية: أي لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله: "فاقتلوا" للتعقيب: أي اجعلوا القتل متعقباً للتوبة. قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده، قيل: قاموا صفين وقتل بعضهم بعضاً، وقيل: وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله: "فتاب عليكم" قيل: في الكلام حذف: أي فقتلتم نفسكم فتاب عليكم: أي على الباقين منكم. وقيل: هو جواب شرط محذوف كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف: من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الإلتفات فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "أربعين ليلة" قال: ذا العقدة وعشراً من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله: "من بعد ذلك" قال: من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان" قال: الكتاب هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن الزهري نحواً مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إلى بارئكم" قال: خالقكم.
54. " وإذ قال موسى لقومه " الذين عبدوا العجل " يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم " ضررتم بأنفسكم " باتخاذكم العجل " إلهاً قالوا: فأي شيء نصنع؟ قال: " فتوبوا " فارجعوا " إلى بارئكم " خالقكم قالوا: كيف نتوب؟ قال " فاقتلوا أنفسكم " يعني ليقتل البريء منكم المجرم " ذلكم " أي القتل " خير لكم عند بارئكم " فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم: من مد حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته، وأصلت القوم عليهم الخناجر، فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى، قالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا: يارب هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشف الله تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فتكشفت عن ألوف من القتلى.
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كان عدد القتلى سبعين ألفاً فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه: أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول في الجنة، فكان من قتل شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه، فذلك قوله تعالى " فتاب عليكم " أي ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم فتجاوز عنكم " إنه هو التواب " القابل التوبة " الرحيم " بخلقه.
54-" وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم " فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزاً بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشئ عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه المديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا .
" فاقتلوا أنفسكم " إتماماً لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشف السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفاً . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .
" ذلكم خير لكم عند بارئكم " من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .
" فتاب عليكم " متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعاراً بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .
" إنه هو التواب الرحيم " للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .
54. And when Moses said unto his people: O my people! Ye have wronged yourselves by your choosing of the calf (for worship) so turn in penitence to your Creator, and kill (the guilty) yourselves. That will be best for you with your Creator and He will relent toward you. Lo! He is the Relenting, the Merciful.
54 - And remember Moses said to his people: o my people! ye have indeed wronged yourselves by your worship of the calf: so turn (in repentance) to your maker, and slay yourselves (the wrong doers); that will be better for you in the sight of your maker. then he turned towards you (in forgiveness): for he is oft returning, most merciful.