(فمنهم من آمن به) بمحمد صلى الله عليه وسلم (ومنهم من صد) أعرض (عنه) فلم يؤمن (وكفى بجهنم سعيرا) عذاباً لمن لا يؤمن
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب، من يهود بني إسرائيل، الذين قال لهم جل ثناؤه: "آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، "من آمن به"، يقول: من صدق بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم، "ومنهم من صد عنه"، ومنهم من أعرض عن التصديق به، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فمنهم من آمن به"، قال: بما أنزل على محمد من يهود، "ومنهم من صد عنه".
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدوا عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما رفع عنهم وعيد الله الذي توعدهم به في قوله: "آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعول"، في الدنيا، وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن الوعيد لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بعضهم، خرجوا من الوعيد الذي توعده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبة المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيراً.
ويعني بقوله: "وكفى بجهنم سعيرا"، وحسبكم، أيها المكذبون بما أنزلت على محمد نبيي ورسولي، "بجهنم سعيرا"، يعني: بنار جهنم، تسعر عليكم- أي: توقد عليكم. وقيل: "سعيرا"، أصله مسعورا، من سعرت تسعر فهي مسعورة، كما قال اله : "وإذا الجحيم سعرت" [التكوير: 2]، ولكنها صرفت إلى فعيل، كما قيل: كف خضيب، ولحية دهين، بمعن : مخضوبة ومدهونة - و السعير، الوقود.
الرابعة - قوله تعالى :" فمنهم من آمن به " يعني النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود " ومنهم من صد عنه" أعرض فلم يؤمن به و قيل: الضمير في به راجع إلى إبراهيم والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه وقيل: يرجع إلى الكتاب والله أعلم .
يقول تعالى: أم لهم نصيب من الملك, وهذا استفهام إنكاري, أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل, فقال: "فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً", أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً, ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الاية كقوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق" أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم, ولهذا قال تعالى: "وكان الإنسان قتوراً" أي بخيلاً, ثم قال "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة, ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له, لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا يحيى الحماني, حدثنا قيس بن الربيع عن السدي, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله "أم يحسدون الناس" الاية, قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس, قال الله تعالى: "فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً" أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل, الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن, وهي الحكمة, وجعلنا منهم الملوك ومع هذا "فمنهم من آمن به", أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام, "ومنهم من صد عنه" أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه, وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم, فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ وقال مجاهد: "فمنهم من آمن به", أي بمحمد صلى الله عليه وسلم, "ومنهم من صد عنه", فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك, وأبعد عما جئتهم به من الهدى, والحق المبين, ولهذا قال متوعداً لهم "وكفى بجهنم سعيراً" أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
واختاره ابن جرير 55- "فمنهم" أي: اليهود "من آمن به" أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم "ومنهم من صد عنه" أي: أعرض عنه، وقيل: الضمير في به راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم، وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من صد عنه، وقيل: الضمير يرجع إلى الكتاب، والأول أولى "وكفى بجهنم سعيراً" أي: ناراً مسعرة.
وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن اليهود قالوا: إن آباءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله وسيشفعون لنا ويزكوننا، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم". وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا، قال الله: إني لا أظهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، ثم أنزل الله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن التزكية قولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقالوا: "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا يظلمون فتيلا" قال: الفتيل: ما خرج من بين الأصبعين. وفي لفظ آخر عنه: هو أن تدلك بين أصبعيك فما خرج منهما فهو ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: النقير: النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة. والفتيل: الذي يكون على شق النواة. والقطمير: القشر الذي يكون على النواة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه: قال: الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة. وأخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل عنه قال: قدم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف مكة على قريش فخالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب فأخبوانا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة ونسقي الحجيج ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور: أي فرد ضعيف، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فقالوا: لا بل أنتم خير منه وأهدى سبيلاً، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" الآية. وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة مرسلاً. وقد روي عن ابن عباس وعن عكرمة بلفظ آخر. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن السدي عن أبي مالك. وأخرج نحوه أيضاً البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة قال: الجبت والطاغوت صنمان. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر في تفسير الجبت والطاغوت ما قدمناه عنه. وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "أم لهم نصيب من الملك" قال: فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: النقير: النقطة التي في ظهر النواة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس له أهمية إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية "أم يحسدون الناس" إلى قوله "ملكاً عظيماً" يعني: ملك سليمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الناس في هذا الموضع النبي خاصة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم هذا الحي من العرب.
55-قال الله تعالى:"فمنهم من آمن به"، يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه ، "ومنهم من صد عنه"، أعرض عنه ولم يؤمن به،"وكفى بجهنم سعيراً"، وقوداً، وقيل: الملك العظيم: ملك سليمان . وقال السدي : الهاء في قوله"من آمن به ومنهم من صد عنه" راجعه إلى إبراهيم، وذلك أن إبراهيم زرع ذات سنة ، وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع إبراهيم عليه السلام، فاحتاج إليه الناس فكان يقول: من آمن بي أعطيته فمن آمن به أعطاه ، ومن لم يؤمن به منعه.
55"فمنهم" من اليهود. "من آمن به" بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم. "ومنهم من صد عنه"أعرض عنه ولم يؤمن به وقيل معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فلذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك. "وكفى بجهنم سعيراً" ناراً مسعورة يعذبون بها أي إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
55. And of them were (some) who believed therein and of them were (some) who disbelieved therein. Hell is sufficient for (their) burning.
55 - Some of them believed and some of them averted their faces from him: and enough is hell for a burning fire.