59 - (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) بتركها كاليهود والنصارى (واتبعوا الشهوات) من المعاصي (فسوف يلقون غيا) وهو واد في جهنم أي يقعون فيه
يقول تعالى ذكره : فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبياء الذين أنعمت عليهم ، ووصفت صفتهم في هذه السورة، خلف سوء خلفوهم في الأرض أضاعوا الصلاة .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة إضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم : كانت إضاعتهموها تأخيرهم إياها عن مواقيتها، وتضييعهم أوقاتها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سعد الكندي ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة، في قوله "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولوكان تركاً كان كفراً.
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : ثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن القاسم بن مخيمرة، نحوه.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال : ثني الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو، عن القاسم بن مخيمرة، قال : أضاعوا المواقيت ، ولو تركوها لصاروا بتركها كفاراً.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال : ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن القاسم، نحوه .
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثنا عيسى، عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن يزيد، أن عمر بن عبد العزيز بعث رجلاً إلى مصر لأمر أعجله للمسلمين ، فخرج إلى حرسه ، وقد كان تقدم إليهم أن لا يقوموا إذا رأوه ، قال : فأوسعوا له ، فجلس بينهم فقال : أيكم يعرف الرجل الذي بعثناه إلى مصر؟ فقالوا : كلنا نعرفه ، قال : فليقم أحدثكم سناً، فليدعه ، فأتاه الرسول فقال : لا تعجلني أشد علي ثيابي ، فأتاه فقال : إن اليوم الجمعة، فلا تبرحن حتى تصلي ، وإنا بعثناك في أمر أعجله للمسلمين ، فلا يعجلنك ما بعثناك له أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها، فإنك مصليها لا محالة، ثم قرأ "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" ثم قال : لم يكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.
حدثنا ابن وكيع، قال : ثنا أبي ، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، والحسن بن مسعود، عن ابن مسعود، أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن "الذين هم عن صلاتهم ساهون" و"على صلاتهم دائمون" و"على صلاتهم يحافظون" فقال ابن مسعود رضي الله عنه : على مواقيتها، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ، قال : ذاك الكفر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين، قال : ثنا عمر أبوحفص الأبار، عن منصور بن المعتمر، قال قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن : إضاعتهن عن وقتهن . وقال آخرون : بل كانت إضاعتهموها : تركها.
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال : أخبرنا ابن وهب، قال : أخبرنا أبو صخر، عن القرظي، أنه قال في هذه الآية "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات" يقول : تركوا ا لصلاة .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بتأويل الآية، قول من قال : إضاعتهموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالى ذكره بعده على أن ذلك كذلك ، وذلك قوله جل ثناؤه "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا" فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن وهم مؤمنون ، ولكنهم كانوا كفاراً لا يصلون لله ولا يؤذون له فريضة، فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله . وقد قيل: إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، قوله "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" قال : عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة . قال محمد بن عمرو: زنا. وقال الحارث : زناة.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله ، وقال : زنا كما قال ابن عمرو.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد. وعطاء بن أبي رباح "فخلف من بعدهم خلف" الآية، قال : هم أمة محمد.
وحدثني الحارث، قال : ثنا الأشيب، قال : ثنا شريك، عن أبي تميم بن مهاجر في قول الله : "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون الناس في الأرض .
وأما قوله "فسوف يلقون غيا" فإنه يعني أن هؤلاء .الخلف الذين خلفوا بعد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين سيدخلون غياً ، وهو اسم واد من أودية جهنم ، أو اسم بئر من آبارها .
كما حدثني عباس بن أبي طالب، قال : ثنا محمد بن زياد بن رازان، قال : ثنا شرقي بن قطامي، عن لقمان بن عامر الخزاعي، قال : جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعا بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام ، قال : قلت وما غي وما أثام ؟ قال : بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان ذكر الله في كتابه "أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا"، وقوله في الفرقان "ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما"
حدثنا محمد بن بشار، قال : ثنا عمرو بن عاصم، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو "فسوف يلقون غيا" قال : وادياً في جهنم.
حدثنا محمد بن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن، قال : ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله "فسوف يلقون غيا" قال : وادياً في النار.
حدثنا محمد بن المثنى، قال : ثنا محمد بن جعفر، قال : ثنا شعبة، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية "فسوف يلقون غيا" قال : نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه ، في قوله "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" قال : الغي : نهر جهنم في النار، يعذب فيه الذين اتبعوا الشهوات .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة، عن أبيه ، في قوله "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" قال : الغي : نهر جهنم في النار، يعذب فيه الذين اتبعوا الشهوات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله "أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" قال : نهر في النار يقذف فيه الذين اتبعوا الشهوات.
وقال آخرون : بل عني بالغي في هذا الموضع : الخسران.
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي، قال : ثنا عبد الله، قال : ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس، قوله "فسوف يلقون غيا" يقول : خسراناً.
وقال آخرون : بل عني به الشر.
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله "فسوف يلقون غيا" قال : الغي : الشر، ومنه قول الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
قال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال متقاربات المعاني ، وذلك أن من ورد البئرين اللتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم ، والوادي الذي ذكره ابن مسعود في جهنم ، فدخل ذلك ، فقد لاقى خسراناً وشراً، حسبه به شراً.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف " أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج بن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنىً. وقد تقدم القول في " خلف " في ((الأعراف)) فلا معنى للإعادة.
الثانية: قوله تعالى: " أضاعوا الصلاة " وقرأ عبد الله و الحسن أضاعوا الصلوات على الجمع. وهو ذم ونص أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك. وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية، فقال مجاهد : النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي و مجاهد أيضاً و عطاء : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضاً في معنى إضاعتها، فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبد الله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلىً بها لا تصح ولا تجزىء، " لقوله للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه:
ارجع فصل فإنك لم تصل، ثلاث مرات " خرجه مسلم ، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟قال منذ أربعين عاماً. قال: ما صليت، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي ، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل " يعني صلبه في الركوع والسجود، قال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود، قال الشافعي و أحمد و إسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، قال صلى الله عليه وسلم:
" تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ". وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميراً في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول في هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن : عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. " واتبعوا الشهوات " أي اللذات والمعاصي.
الثالثة: روى الترمذي و أبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له:
يا فتى ألا أحدثك حديثاً لعل الله تعالى أن ينفعك به، قلت: بلى. قال: إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئاً قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلك. قال يونس: وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لفظ أبي داود . وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال:
" ثم الزكاة مثل ذلك "، " ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك ". وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر - قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أو من الرواية - فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك ". خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال: انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك " قال النسائي : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا النضر بن شميل قال: أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل: انظروا لعبدي من تطوع فإن وجد له تطوع قال: أكملوا به الفريضة ". قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون - والله أعلم - فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك، وأما من تركها، أو نسي ثم ذكرها، فلم يأت بها عامداً، واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له، فلا تكمل له فريضة من تطوعه، والله أعلم. وقد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم ". قال أبو عمر : وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وليس بالقوي، وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة.
قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائداً على فرضه يقربه من ربه، كما قال سبحانه وتعالى:
" وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " الحديث. فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض. ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل، لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم، وتهاونهم به، حتى كأنه غير معتد به. ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه، ويظن به العلم تنفله كذلك، بل فرضه إذا ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث، فكيف بالجهال الذين لا يعلمون. وقد قال العلماء: ولا يجزىء ركوع ولا سجود، ولا وقوف بعد الركوع، ولا جلوس بين السجدتين، حتى يعتدل راكعاً وواقفاً وساجداً وجالساً. وهذا هو الصحيح في الأثر، وعليه جمهور العلماء وأهل النظر. وهذا رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك . وقد مضى هذا المعنى في ((البقرة)). وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول، لأنه وقع على غير المطلوب. والله أعلم.
قوله تعالى: " واتبعوا الشهوات " وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: " واتبعوا الشهوات " هو من بني المشيد وركب المنظور، ولبس المشهور.
قلت: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه. وفي الصحيح :
" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا.
قوله تعالى: " فسوف يلقون غيا " قال ابن زيد: شراً أو ضلالاً أو خيبة، قال:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال عبد الله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل اللغة فسوف يلقون هذا الغي، كما قال جل ذكره: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " [الفرقان: 68]. والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه. قال كعب: يظهر في آخر الزمان قوم يأيديهم سياط كأذناب البقر، ثم قرأ " فسوف يلقون غيا " أي هلاكاً وضلالاً في جهنم. وعنه: غي واد في جهنم أبعدها قعراً، وأشدها حراً، فيه بئر يسمى البهيم، كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البئر فتسعر بها جهنم. وقال ابن عباس: غي واد في جهنم، وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه.
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام, ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره, المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره, ذكر أنه "خلف من بعدهم خلف" أي قرون أخر "أضاعوا الصلاة" وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع, لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد, وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها, فهؤلاء سيلقون غياً, أي خساراً يوم القيامة, وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية, قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي , واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد , وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة". والحديث الاخر "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر" وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" قال: أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً. وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن "الذين هم عن صلاتهم ساهون" و"على صلاتهم دائمون" و"على صلاتهم يحافظون" فقال ابن مسعود : على مواقيتها. قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك, قال ذلك الكفر, قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين, وفي إفراطهن الهلكة, وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن, وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً" ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات" قال: عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة, وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله, وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة, يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث , حدثنا الحسن الأشيب , حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات" قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق, لا يخافون الله في السماء, ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي , حدثنا أبو عبد الرحمن المقري , حدثنا حيوة , حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سيعد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات, فسوف يلقون غياً, ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم, ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن, ومنافق وفاجر" وقال بشير : قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المؤمن مؤمن به, والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به ، وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري به.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثني أبي , حدثنا إبراهيم بن موسى , أنبأنا عيسى بن يونس , حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة, وتقول: لا تعطوا منه بربرياً, ولا بربرية, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" هذا الحديث غريب. وقال أيضاً: حدثني أبي , حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك , حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله: "فخلف من بعدهم خلف" الاية, قال: هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك.
وقال كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات, تراكين للصلوات, لعابين بالكعبات, رقادين عن العتمات, مفرطين في الغدوات, تراكين للجماعات, قال: ثم تلا هذه الاية "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً" وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال أبو الأشهب العطاردي : أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات, فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة, وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب , حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن, واللبن" أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة, أما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين, ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو قبيل عن عقبة به, مرفوعاً بنحوه, تفرد به.
وقوله: "فسوف يلقون غياً" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فسوف يلقون غياً" أي خسراناً, وقال قتادة : شراً, وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة , عن عبد الله بن مسعود "فسوف يلقون غياً" قال: واد في جهنم بعيد القعر, خبيث الطعم. وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله: "فسوف يلقون غياً" قال: واد في جهنم من قيح ودم. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني عباس بن أبي طالب , حدثنا محمد بن زياد , حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي , فقلت: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا بطعام, ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً, ثم تنتهي إلى غي وآثام قال: قلت ماغي وآثام ؟ قال: قال: بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار" وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه "أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً" وقوله في الفرقان: "ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" هذا حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات, فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم, ولهذا قال: "فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً" وذلك لأن التوبة تجب ما قبلها, وفي الحديث الاخر "التائب من الذنب كمن لاذنب له" ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً, ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها, لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً, وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم, وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ".
ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال: 59- "فخلف من بعدهم خلف" أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف "أضاعوا الصلاة" قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها، وقيل أضاعوا الوقت وقيل كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل لم يأتوا بها على الوجه المشروع. والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرة أو جحدها دخولاً أولياً.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل في اليهود، وقيل في النصارى، وقيل في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى "واتبعوا الشهوات" أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا "فسوف يلقون غياً" الغي هو الشر عند أهل اللغة كما أن الخير هو الرشاد. والمعنى: أنهم سيلقون شراً لا خيراً، وقيل الغي الضلال، وقيل الخيبة، وقيل هو اسم واد في جهنم، وقيل في الكلام حذف، والتقدير: سيلقون جزاء الغي كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه: "يلق أثاماً" أي جزاء أثام.
59 - قوله عز وجل : " فخلف من بعدهم خلف " ، أي : من بعد النبيين المذكورين خلف ، وهم قوم سوء ، ( والخلف ) - بالفتح - الصالح - ، وبالجزم الطالح .
قال السدي : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم .
وقال مجاهد و قتادة : هم في هذه الأمة .
" أضاعوا الصلاة " ، تركوا الصلاة المفروضة .
وقال ابن مسعود و إبراهيم : أخروها عن وقتها .
وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلى الظهر حتى يأتي العصر ، ولا العصر حتى تغرب الشمس .
" واتبعوا الشهوات " ، أي : المعاصي ، وشرب الخمر ، يعني آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة .
" فسوف يلقون غياً " ، قال وهب : ( الغي ) نهر في جهنم ، بعيد قعره ، خبيث طعمه .
وقال ابن عباس : ( الغي ) واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره ، أعد للزاني المصر عليه ، ولشارب الخمر المدمن عليه ، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ، ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور .
وقال عطاء : ( الغي ) : واد في جهنم يسيل قيحاً ودماً .
وقال كعب : هو واد في جهنم أبعدها قعراً ، وأشدها حراً ، في بئر تسمى ( الهيم ) كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فيسعر بها جهنم .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، وأخبرنا عبد الله بن المبارك عز وجل هشيم بن بشير ، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي ، قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : ( إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي ، أو قال صخرة تهوي عظمها كعشر عشروات عظام سمان ، فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد : هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم غي وآثام ) .
وقال الضحاك : غياً وخسراناً . وقيل : هلاكاً . وقيل : عذاباً .
وقوله : " فسوف يلقون غياً " ليس معناه يرون فقط ، بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية .
59ـ " فخلف من بعدهم خلف " فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح ، وخلف سوء بالسكون . " أضاعوا الصلاة " تركوها أو أخروها عن وقتها . " واتبعوا الشهوات " كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في المعاصي . وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله " واتبعوا الشهوات " . من بنى الشديد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور . " فسوف يلقون غيا " شراً كقوله :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أو جزاء غي كقوله تعالى : " يلق أثاماً " أو غياً عن طريق الجنة ، وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها .
59. Now there hath succeeded them a later generation who have ruined worship and have followed lusts. But they will meet deception.
59 - But after them there followed a posterity who missed prayers and followed after lusts soon, then, will they face destruction,