59 - (قالوا) بعد رجوعهم ورؤيتهم ما فعل (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) فيه
يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم لما رأوا آلهتهم قد جذت ، ، إلا الذي ربط به الفأس إبراهيم : من فعل هذا بآلهتنا ، إن الذي فعل هذا بآلهتنا لمن الظالمين : أي لمن الفاعلين بها ما لم يكن له فعله " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " يقول : قال الذين سمعوه يقول " تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " سمعنا فتى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيم .
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، " قالوا سمعنا فتى يذكرهم " قال ابن جريج : يذكرهم يعيبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن اسحاق ، قوله " سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " سمعناه يسبها ويعيبها ويستهزئ بها ، لم نسمع أحدا يقول ذلك غيره ، وهو الذي نظن صنع هذا بها .
وقوله " فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم بعضهم لبعض : فأتوا بالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتموه يذكرها بعيب ويسبها ويذمها على أعين الناس ، فقيل : معنى ذلك : على رؤوس الناس . وقال بعضهم : معناه : بأعين الناس ومرأى منهم ، وقالوا : إنما يريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس ، يراد به كان بأيدي الناس .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله " لعلهم يشهدون " فقال بعضهم : معناه : لعل الناس يشهدون عليه ، أنه الذي فعل ذلك ، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا عليه . وقالوا : إنما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير نية .
ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " عليه أنه فعل ذلك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " قال : كرهوا أن يأخذوه بغير نية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به ، فيعاينوه ويرونه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن اسحاق ، قال : بلغ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود ، وأشراف قومه ، فقالوا : " فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " : أي ما يصنع به . وأظهر معنى ذلك أنهم قالوا : فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه ، لأنه لو أريد بذلك ليشهدوا عليه بفعله كان يقال : انظروا من شهده يفعل ذلك ، ولم يقل : أحضروه بمجمع الناس .
قوله تعالى: " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار: " من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ".وقيل: " من " ليس استفهاماً، بل هو ابتداء وخبره " لمن الظالمين ". أي فاعل هذا ظالم.
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم, أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين, أي إلى عيدهم, وكان لهم عيد يخرجون إليه, قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا, فخرج معهم, فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض, وقال: إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه, فيقول: إني سقيم, فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: "تالله لأكيدن أصنامكم" فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه, فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال: إني سقيم, وقد كان بالأمس, قال: "تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين" فسمعه ناس منهم.
وقوله: "فجعلهم جذاذاً" أي حطاماً كسرها كلها, إلا كبيراً لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم, كما قال: "فراغ عليهم ضرباً باليمين". وقوله "لعلهم إليه يرجعون" ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه, وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين" أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين" أي في صنيعه هذا, "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: سمعنا فتىً أي شاباً, يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف , حدثنا سعيد بن منصور , حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب, وتلا هذه الاية "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم".
وقوله " قالوا فاتوا به على أعين الناس " أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم, وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضراً, ولا تملك لها نصراً, فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟ " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا " يعني الذي تركه لم يكسره "فاسألوهم إن كانوا ينطقون" وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون, وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: "بل فعله كبيرهم هذا", وقوله: "إني سقيم" ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة, إذ نزل منزلاً فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس, فأرسل إليه فجاء, فقال: ما هذه المرأة منك ؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي, فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك, فاخبرته أنك أختي, فلا تكذبيني عنده, فإنك أختي في كتاب الله, وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك, فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي, فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذاً شديداً, فقال: ادعي الله لي ولا أضرك, فدعت له, فأرسل فأهوى إليها, فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد, ففعل ذلك الثالثة, فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين, فقال: ادعي الله فلا أضرك, فدعت له فأرسل, ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان, ولكنك أتيتني بشيطان, أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت, فلما أحس إبراهيم بمجيئها, انفتل من صلاته, وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر". قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء.
59- "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين" في الكلام حذف، والتقدير: فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ، وقيل إن من ليست استفهامية، بل هي مبتدأ وخبرها إنه لمن الظالمين: أي فاعل هذا ظالم.
59. " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين "، أي من المجرمين.
59ـ " قالوا " حين رجعوا . " من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام ، أو بإفراطه في حطمها أو بتوريط نفسه للهلاك .
59. They said: Who hath done this to our gods? Surely it must be some evil doer.
59 - They said, who has done this to our gods? he must indeed be some man of impiety!