6 - (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه (وأزواجه أمهاتهم) في حرمة نكاحهن (وأولوا الأرحام) ذوو القربات (بعضهم أولى ببعض) في الارث (في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) أي من الارث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ (إلا) لكن (أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) بوصية فجائز (كان ذلك) نسخ الارث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي الأرحام (في الكتاب مسطورا) واريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ
يقول تعالى ذكره: النبي محمد أولى بالمؤمنين، يقول: أحق بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " كما أنت أولى بعبدك، ما قضى فيهم من أمر جاز، كما كلما قضيت على عبدك جاز.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " قال: هو أب لهم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " وأيما مؤمن ترك مالاً فلورثته وعصبته من كانوا، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسن بن علي، عن أبي موسى إسرائيل بن موسى، قال: قرأ الحسن هذه الآية " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " قال: قال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه " قال الحسن: وفي القراءة الأولى ( أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال في بعض القراءة ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل ترك ضياعاً فأنا أولى به، وإن ترك مالاً فهو لورثته ".
وقوله " وأزواجه أمهاتهم " يقول: وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرم عليهم نكاح أمهاتهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " يعظم بذلك حقهن، وفي بعض القراءة ( وهو أب لهم).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " وأزواجه أمهاتهم " محرمات عليهم.
وقوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " يقول تعالى ذكره: وأولوا الأرحام الذين ورثت بعضهم من بعض، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضاً، بالهجرة والإيمان دون الرحم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " لبث المسلمون زماناً يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجرين شيئاً، فأنزل الله هذه الآية، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض، فصارت المواريث بالملل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين المهاجرين والأنصار أول ما كانت الهجرة، وكانوا يتوارثون على ذلك، وقال الله ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) ( النساء: 33) قال: إذا لم يأت رحم لهذا يحول دونهم، قال: فكان هذا أولاً، فقال الله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يقول: إلا أن توصوا لهم " كان ذلك في الكتاب مسطورا " أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، قال: وكان المؤمنون والمهاجرين لا يتوارثون إن كانوا أولي رحم، حتى يهاجروا إلى المدينة، وقرأ قال الله ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ( الأنفال: 72) إلى قوله ( وفساد كبير) ( الانفال: 73)، فكانوا لا يتوارثون، حتى إذا كان عام الفتح، انقطعت الهجرة وكثر الإسلام، وكان لا يقبل من أحد أن يكون على الذي كان عليه النبي ومن معه إلا أن يهاجر، قال: " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بعث: اغدوا على اسم الله لا تغلوا ولا تولوا، ادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوكم فاقبلوا وادعوهم إلى الهجرة، فإن هاجروا معكم، فلهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فإن أبوا ولم يهاجروا واختاروا دارهم فأقروهم فيها، فهم كالأعراب تجري عليهم أحكام الإسلام، وليس لهم في هذا الفيء نصيب. قال: فلما جاء الفتح، وانقطعت الهجرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح " وكثر الإسلام، وتوارث الناس على الأرحام حيث كانوا، ونسخ ذلك الذي كان بين المؤمنين والمهاجرين، وكان لهم في الفيء نصيب، وإن أقاموا وأبوا، وكان حقهم في الإسلام واحد، المهاجر وغير المهاجر وغير المهاجر والبدوي وكل أحد، حين جاء الفتح.
فمعنى الكلام على هذا التأويل: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهجرة، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، أولى بالميراث، ممن لم يؤمن، ولم يهاجر.
وقوله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن سالم، عن انب الحنفية " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " قالوا: يوصي لقرابته من أهل الشرك.
قال: ثنا عبدة، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " قال: للقرابة من أهل الشرك وصية، ولا ميراث لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " قال: إلى أوليائكم من أهل الشرك وصية، ولا ميراث لهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري ويحيى ابن آدم، عن ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة " إلى أوليائكم معروفا " قال: وصية.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني محمد بن عمرو، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما قوله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " فقال: العطاء، فقلت له: المؤمن للكافر بينهما قرابة، قال: نعم عطاؤه إياه حباء ووصية له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحق الإيمان والهجرة والحلف، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصام، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " قال: حلفاؤكم الذين وإلى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، إمساك بالمعروف والعقل والنصر بينهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن توصوا إلى أولياؤكم من المهاجرين وصية.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يقول: إلا أن توصوا لهم.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: معنى ذلك إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار، معروفاً من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كل ذلك من المعروف الذي قد حث الله عليه عباده.
وإنما اخترت هذا القول، وقلت: هو أولى بالصواب من قيل من قال: عني بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من المشرك، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم ولياً بقوله ( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) ( الممتحنة: 1) وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء، ثم يصفهم جل ثناؤه بأنهم لهم أولياء. وموضع ( أن) من قوله " إلا أن تفعلوا " نصب على الاستثناء. ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولي أرحام منكم معروفاً.
وقوله " كان ذلك في الكتاب مسطورا " يقول: كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: أي في اللوح المحفوظ مسطوراً: أي مكتوباً، كما قال الراجز:
في الصحف الأولى التي كان سطر
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " كان ذلك في الكتاب مسطورا ": أي أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: كان ذلك في الكتاب مسطوراً: لا يرث المشرك المؤمن.
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى :" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " هذه الآية أزال الله تعالى به أحكاماً كانت في صدر الإسلام، منها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين فلما فتح الله عليه الفتوح قال :
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته" أخرجه الصحيحان وفيهما أيضاً "فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه " قال ابن العربي: فانقلبت الآن الحال بالذنوب فإن تركوا مالاً ضويق العصبة فيه وإن تركوا ضياعاً أسلموا إليه فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه ولا عطر بعد عروس قال ابن عطية: وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم ، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة قال ابن عطية: ويؤيد هذا "قوله عليه الصلاة والسلام : أنا آخذا بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقتحم الفراش" .
قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه "عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه " وعن جابر مثله وقال:
"وأنتم تفلتون من يدي" قال العلماء: الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع نمه وهذا مثل لاجتهاد نبيناً عليه الصلاة والسلام في نجاتنا، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا فهو أولى بنا من أنفسها، ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا العين بنا - صرنا أحقر من الفراش وأذل من الفراش ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل: أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى وقيل: أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه.
الثانية - قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال : "فعلى قضاؤه" والضياع بفتح الضاد مصدر ضاع، ثم جعل اسماً لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ومال لا قيم له وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعاً بكسر الضاد.
الثالثة: قوله تعالى :" وأزواجه أمهاتهم " شرف اله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثاً كأمومة التبني وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى .
واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة ، على قولين : فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمة فقالت لها: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم قال ابن العربي: وهو الصحيح .
قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر فيكون قوله تعالى :" وأزواجه أمهاتهم " عائداً إلى الجميع ثم إن في مصحف أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وقرأ ابن عباس: من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم والله أعلم .
الرابعة :قوله تعالى :" وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشاً وفيه قولان : أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " [الأنفال ك 72] فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئاً حتى يهاجر ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الأخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثاهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات عن الدنيا ما روثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا وثبت عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى :" وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوارثة بالحلف وورثوا بالقرابة وقد مضى في الأنفال الكلام في توريث ذوي الأرحام وقوله : " في كتاب الله " يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه ومن المؤمنين متعلق ب أولى لا بقوله: "وأولو الأرحام " بالإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصاً ببعض المؤمنين ، ولا خلاف في عمومها وهذا حل إشكالها قاله ابن العربي. النحاس: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " يجوز أن يتعلق من المؤمنين بـ أولو فيكون التقدير : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين. وقال المهدوي: وقيل إن معناه: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين، والله تعالى أعلم .
الخامسة : واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر، على وجهين: أحدهما: هن محرم لا يحرم النظر إليهن. الثاني: أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن ، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة ، فيصر محرماً يستبيح النظر وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :
أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثاني: لا يثبت لهن ذلك بل هن كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال :
"أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة" الثالث: من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحا وإن طلقها، حفظاً لحرمته وحراسة لخلوته، ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة، وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت: لم هذا وما ضرب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين فكف عنها عمر رضي الله عنه ،
السادسة: قال قوم: لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أباً لقوله تعالى :" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم "ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين كما قال :
"إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم...." الحديث خرجه أبو داود والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى :" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " أي في النسب وسيأتي وقرأ ابن عباس: من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكها يا غلام فقال : إنها في مصحف أبي، فذهب إليه فسأله فقال له أبي: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر: وقد قيل في قول لوط عليه السلام " هؤلاء بناتي " [الحجر: 71] إنما أراد المؤمنات أي تزوجوهن وقد تقدم.
السابعة : قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم قال الشافعي رضي الله عنه : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة ولم يقل هي خالة المؤمنين وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين يعني في الحرمة لا في النسب .
الثامنة : قوله تعالى :" إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا" يريد الإحسان في الحياة والوصية عند الموت أي إن ذلك جائز، قاله قتادة والحسن وعطاء، وقال محمد بن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني ، أي يفعل هذا مع الولي والقريب وإن كان كافراً فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصياً فجوز بعض ومنع بعض، ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض، منهم مالك رحمه الله تعالى . وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين، ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم الولي أيضاً حسن وولاية النسب لا تدع الكافر وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام.
التاسعة: قوله تعالى:" كان ذلك في الكتاب مسطورا" الكتاب يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في كتاب الله ومسطوراً من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطاراً وقال قتادة أي مكتوباً عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلماً قال قتادة:وفي بعض القراءة كان ذلك عند الله مكتوباً وقال القرظي: كان ذلك في التوراة .
قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحة لهم, فجعله أولى بهم من أنفسهم, وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم, كما قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" وفي الصحيح "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وفي الصحيح أيضاً " أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم : الان ياعمر" ولهذا قال تعالى في هذه الاية "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم".
وقال البخاري عند هذه الاية الكريمة: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح , حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة , عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والاخرة, اقرؤوا إن شئتم "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا, وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه" تفرد به البخاري ورواه أيضاً في الاستقراض, و ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله, ورواه أحمد من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, فأيما رجل مات وترك ديناً فإلي, ومن ترك مالاً فهو لورثته" ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه.
وقال تعالى: "وأزواجه أمهاتهم" أي في الحرمة والاحترام, والتوقير والإكرام والإعظام, ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع, وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر, وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم, وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم, ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك, وهل يقال لهن أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييباً ؟ وفيه قولان, صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك, وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرآ " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ". وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن , وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه, حكاه البغوي وغيره, واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي , حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم , عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم, فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستطب بيمينه". وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن عجلان , والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ".
وقوله تعالى: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " أي في حكم الله "من المؤمنين والمهاجرين" أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار, وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم, كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثاً عن الزبير بن العوام فقال: حدثنا أبي , حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد , عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا, فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم, فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد , وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً, وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي , ويقول بعض الناس غيره, قال الزبير رضي الله عنه: وواخبت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته, فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى, والله يابني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هذه الاية فينا معشر قريش والأنصار خاصة, فرجعنا إلى مواريثنا.
وقوله تعالى: "إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً" أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى: "كان ذلك في الكتاب مسطوراً" أي هذا الحكم, وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض, حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير, قاله مجاهد وغير واحد, وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ماهو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي, والله أعلم.
ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال: 6- "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم. وقيل المراد بأنفسهم في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض. وقيل هي خاصة بالقضاء: أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى بيه بينهم. وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه، والأول أولى "وأزواجه أمهاتهم" أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزلات منزلتهن في استحقاق التعظيم فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء المؤمنين ولا بناتهن أخوات المؤمنين، ولا أخوتهن أخوال المؤمنين. وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لخقهن على الرجال والنساء ضرورة. قال: ثم أن في مصحف أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم وقرأ ابن عباس أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم، ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " المراد بأولى الأرحام القرابات: أي هم أحق ببعضهم البعض في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" فتوارث المسلمون بالهجرة، ثم نسخ ذلك بهذه الآيةن وكذا قال غيره. وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، و "في كتاب الله" يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله: "أولى ببعض" لأنه يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير: أي كائناً في كتاب الله والمراد بالكتاب الوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث، وقوله: "من المؤمنين" يجوز أن يكون بياناً لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين "والمهاجرين" بعضهم أولى ببعض، ويجوز أن يكون بياناً لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين "والمهاجرين" بعضم أولى ببعض، ويجوز أن يتعلق بأولي: أي أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذي هم أجانب، وقيل إن معنى الآية: وأولوا الأرحام ببعضهم أولى ببعض: ألا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى "إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً" هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز. قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد ابن الحنفية. قال محمد ابن الحنفية: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. فالكافر ولي في النسب لا في الدين، فتجوز الوصية له، ويجوز أن يكون منقطعاً، والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي لهم. وقال مجاهد: اراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، والإشارة بقوله: "كان ذلك" إلى ما تقدم ذكره: أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات "في الكتاب مسطوراً" أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوباً.
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم؟ قنزل "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". وأخرج ابن مردويه عنه من طريق أخرى بلفظ صلى لله النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها، فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون، فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه ذا القلبين، فأنزل الله هذا في شأنه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن "ادعوهم لآبائهم" الآية، فقال رسول الله أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه". وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال "غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت علياً فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه" وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وأخرج ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أن امرأة قالت لها: يا أمه، فقالت: أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم. وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت: أنا أم الرجال منكم والنساء وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة: قال مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فقال يا غلام حكها، فقال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق. وأخرج الفريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
قوله عز وجل: 6- "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم، وقال ابن عباس وعطاء: يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم طاعتهم أنفسهم. وقال ابن زيد: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه. وقيل: هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم: نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فنزلت الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو عامر، أخبرنا فليح، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه".
قوله عز وجل: "وأزواجه أمهاتهم"، وفي حرف أبي: وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد، لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب، قال الله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" (الأحزاب-53)، ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم.
قال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل هي خالة المؤمنين.
واختلفوا في أنهن كن أمهات النساء المؤمنات؟ قيل: كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً.
وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أمه! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن.
قوله عز وجل: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله "، يعني: في الميراث، قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة. قال الكلبي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " في حكم الله، "من المؤمنين"، الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، "والمهاجرين"، يعني ذوي القرابات، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة.
قوله: "إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً"، أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه.
وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة.
وقيل: أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة، يعني: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أي: لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، أي: إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة.
"كان ذلك في الكتاب مسطوراً"، أي: كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً. وقال القرظي: في التوراة.
6 -" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها . روي : أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت . وقرئ (( وهو أب لهم )) أي في الدين فن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة . " وأزواجه أمهاتهم " منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء . " وأولو الأرحام " وذوو القرابات . " بعضهم أولى ببعض " في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين . " في كتاب الله " في اللوح أو فيما أنزل ، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله . " من المؤمنين والمهاجرين " بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة . " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً " استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع . " كان ذلك في الكتاب مسطورا " كان ما ذكر في الآيتين ثابتاً في اللوح أو القرآن . وقيل في التوراة .
6. The Prophet is closer to the believers than their selves, and his wives are (as) their mothers. And the owners of kinship are closer one to another in the ordinance of Allah than (other) believers and the fugitives (who fled from Mecca) except that ye should do kindness to your friends. This is written in the Book (of nature).
6 - The prophet is closer to the Believers than their own selves, and his wives are their mothers. Blood relations among each other have closer personal ties, in the Decree of God. Than (the Brotherhood of) believers and Muhajirs: nevertheless Do ye what is just to your Closest friends: such is the writing in the Decree (of God).