6 - (إن مع العسر يسرا) والنبي صلى الله عليه وسلم قاسى من الكفار شدة ثم حصل له اليسر بنصره عليهم
قال نزلت لما عير المشركون المسلمين بالفقر وأخرج ابن جرير عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية إن مع العسر يسرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين
وقوله " إن مع العسر يسرا " .
ثم كرر فقال:" إن مع العسر يسرا"، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام، كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل قال الله تعالى:" كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون" [التكاثر :3-4] ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا،لا. وذلك للإطناب والمبالغة، قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:
هممت بنفسي بعض الهموم فأولى لنفسي أولى لها
وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسماً ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر، قاله ثعلب. وقال ابن عباس: يقول الله تعالى خلقت عسراً واحداً، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث " عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أنه قال:
(لن يغلب عسر يسرين) " . وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " [آل عمران:200]. وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول، لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفاً، إن مع الفارس سيفاً، أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنان. والصحيح أن يقال : إن الله بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم مقلاً مخفاً، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره، فعزاه الله، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله:(فإن مع العسر يسرا) أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر، فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلاً، أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطى الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا، وإن كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء الله تعالى. ثم ابتدأ فضلاً آخراً من الآخرة وفيه تأسيسهوتعزية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئاً:" إن مع العسر يسرا" فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعرية من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد لجميع المؤمنين، لايخرج أحد منه، أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة والذي في الخبر:" (لن يغلب عسر يسرين)" يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: (إن مع العسر) وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة (يسرا)، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.
يقول تعالى: "ألم نشرح لك صدرك" يعني أما شرحنا لك صدرك أي نورناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً كقوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق وقيل: المراد بقوله: "ألم نشرح لك صدرك" شرح صدره ليلة الإسراء كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة , وقد أورده الترمذي ههنا, وهذا وإن كان واقعاً ليلة الإسراء كما رواه مالك بن صعصعة , ولكن لا منافاة فإن من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضاً, فالله أعلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز , حدثنا يونس بن محمد , حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب , حدثني أبو محمد بن معاذ عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره فقال: " يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وقال لقد سألت يا أبا هريرة , إني لفي الصحراء ابن عشر سنين وأشهر وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو ؟ قال نعم فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط وأرواح لم أجدها من خلق قط, وثياب لم أرها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مساً, فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر, فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع, فقال له: أخرج الغل والحسد, فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها, فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال: أغد واسلم, فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير".
وقوله تعالى: "ووضعنا عنك وزرك" بمعنى "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" "الذي أنقض ظهرك" الإنقاض الصوت, وقال غير واحد من السلف في قوله: "الذي أنقض ظهرك" أي أثقلك حمله, وقوله تعالى: "ورفعنا لك ذكرك" قال مجاهد : لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والاخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وقال ابن جرير : حدثني يونس , أخبرنا ابن وهب , أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج , عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول كيف رفعت ذكرك ؟ قال: الله أعلم, قال: إذا ذكرت ذكرت معي" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به. ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا أبو عمر الحوضي , حدثنا حماد بن زيد , حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله, قلت قد كان قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من يحيي الموتى, قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟ قلت: بلى يا رب, قال ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت: بلى يا رب" وقال أبو نعيم في دلائل النبوة: حدثنا أبو أحمد الغطريفي , حدثنا موسى بن سهل الجويني , حدثنا أحمد بن القاسم بن بهزان الهيتي : حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته جعلت إبراهيم خليلاً وموسى كليماً, وسخرت لداود الجبال, ولسليمان الريح والشياطين, وأحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي ؟ قال أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أني لا أذكر إلا ذكرت معي وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً ولم أعطها أمة, وأعطيتك كنزاً من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعني ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت :
أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد
شهدوضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأولين والاخرين ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به, وأن يأمروا أممهم بالإيمان به, ثم شهد ذكره في أمته فلا يذكر الله إلا ذكر معه, وما أحسن ما قال الصرصري رحمه الله:
لا يصح الأذان في الفرض إلا باسمه العذب في الفم المر
وقال أيضاً:
ألم تر أنا لا يصح أذاننا ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما
وقوله تعالى: "فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً" أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر ثم أكد هذا الخبر. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا محمود بن غيلان , حدثنا حميد بن حماد بن أبي خوار أبو الجهم , حدثنا عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك يقول "كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حجر, فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل الله عز وجل: "فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً" ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن معمر , عن حميد بن حماد ولفظه: " لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه" ثم قال: "فإن مع العسر يسراً" ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح .
(قلت) وقد قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف, ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفاً . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح , حدثنا أبو قطن , حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى , حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن , قال: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك وهو يقول: لن يغلب عسر يسرين, لن يغلب عسر يسرين, فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً" وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد عن الحسن مرسلاً. وقال سعيد عن قتادة : ذكر لنا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحبه بهذه الاية فقال: لن يغلب عسر يسرين" ومعنى هذا أن العسر معرف في الحالتين فهو مفرد واليسر منكر, فتعدد ولهذا قال: "لن يغلب عسر يسرين" يعني قوله: "فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً" فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وقال الحسن بن سفيان : حدثنا يزيد بن صالح , حدثنا خارجة عن عباد بن كثير عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت المعونة من السماء على قدر المؤونة, ونزل الصبر على قدر المصيبة" ومما يروى عن الشافعي أنه قال:
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
وقال ابن دريد : أنشدني أبو حاتم السجستاني :
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجها ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
وقال آخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج
وقوله تعالى: "فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب" أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة, ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء" قال مجاهد في هذه الاية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك, وفي رواية عنه: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك, وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل, وعن ابن عياض نحوه, وفي رواية عن ابن مسعود : "فانصب * وإلى ربك فارغب" بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فإذا فرغت فانصب, يعني في الدعاء, وقال زيد بن أسلم والضحاك : "فإذا فرغت" أي من الجهاد "فانصب" أي في العبادة "وإلى ربك فارغب" وقال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عز وجل. آخر تفسير سورة ألم نشرح, ولله الحمد والمنة.
ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتأكيداً، فقال مكرراً له بلفظ 6- "إن مع العسر يسرا" أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسراً آخر لما تقرر من أنه إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في الغالب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية لن يغلب عسر يسرين قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد واليسر اثنان. قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثني ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. قيل والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرر. قرأ الجمهور بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع.
6- "إن مع العسر يسراً" أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسراً ورخاءً بأن يظهرك عليه حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به، "إن مع العسر يسراً" كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء.
وقال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا، قد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين".
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل، إنه لن يغلب عسر يسرين.
قال المفسرون: ومعنى قوله: "لن يغلب عسر يسرين" أن الله تعالى كرر العسر بلفظ المعرفة واليسر بلفظ النكرة، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفاً، ثم أعادته كان الثاني هو الأول، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادته مثله صار اثنين، وإذا أعادته معرفة فالثاني هو الأول، كقولك: إذا كسبت درهماً أنفقت درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا قلت: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف، فكان عسراً واحداً، واليسر مكرر بلفظ التنكير، فكانا يسرين، فكأنه قال: فإن مع العسر يسراً، إن مع ذلك العسر يسراً آخر.
وقال أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب النظم: تكلم الناس في قوله: "لن يغلب عسر يسرين"، فلم يحصل منه غير قولهم: إن العسر معرفة واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول، إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين، فمجاز قوله: "لن يغلب عسر يسرين" أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك، حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة، فاغتم النبي لذلك، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة، ووعده الغنى، ليسليه بذلك عما خامره من الغم، فقال: "فإن مع العسر يسراً"، مجازه: لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسراً في الدنيا عاجلاً، ثم أنجزه ما وعده، وفتح عليه القرى العربية ووسع عليه ذات يده، حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ثم ابتدأ فضلاً آخر من أمر الآخرة، فقال: إن مع العسر يسراً، والدليل على ابتدائه: تعريه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين، ومجازه: إن مع العسر يسراً، أي: إن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسراً في الآخرة، فربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية، فقوله عليه السلام: "لن يغلب عسر يسرين"، أي: لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة، وإنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا، وأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي لا يجمعهما في الغلبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان" أي لا يجتمعان في النقصان.
6-" إن مع العسر يسراً " تكرير للتأكيد أو استئناف وعده بأن " العسر " متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك : إن للصائم فرحة ، إن للصائم فرحة أي فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام " لن يغلب عسر يسرين " فإن العسر معرف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس ، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول .
6. Lo! with hardship goeth ease;
6 - Verily, with every difficulty there is relief.