(و) اذكر (وإذ استسقى موسى) أي طلب السقيا (لقومه) وقد عطشوا في التيه (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) وهو الذي فر بثوبه ، خفيف مربع كرأس الرجل رخام أو كذان فضربه (فانفجرت) انشقت وسالت (منه اثنتا عشرة عينا) بعدد الأسباط (قد علم كل أناس) سبط منهم (مشربهم) موضع شربهم فلا يشركهم فيه غيرهم . وقلنا لهم (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) حال مؤكدة لعاملها من عثِى بكسر المثلثة أفسد
يعني بقوله: "وإذ استسقى موسى لقومه"، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماءً. فترك ذكر المسؤول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله "فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا" مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه.
وكذلك قوله: "قد علم كل أناس مشربهم " إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم.
فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه.
وقد دللنا فيما مضى على أن أناس جمع لا واحد له من لفظه، وأن الإنسان لو جمع على لفظه لقيل: أناسي وأناسية.
وقوم موسى، هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: "وإذ استسقى موسى لقومه" الآية، قال: كان هذا إذ هم في البرية، اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم.
حدثني تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؟ ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وامر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين؟ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول.
حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد،عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه اثنتا عشرة عيناً من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا"، لكل سبط منهم عين. كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج،عن مجاهد قوله: "وإذ استسقى موسى لقومه "، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عيناً، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس: الأسباط بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلاً، كل واحد منهم ولد سبطاً، أمة من الناس.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا، ويقرعه موسى بالعصا إذ نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط منهم عين، فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون، وقيل به فألقي في جانب الجوالق. فإذا نزل رمى به، فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط، عن السديقال: كان ذلك فى التيه.
وأما قوله: "قد علم كل أناس مشربهم "، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم في الذي أخرج الله عز وجل لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب، كان مخالفاً معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عيناً من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس. إذ كان غيرهم في الماء الذي لا يملكه أحد شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردًا بشرب منبع من منابع الحجر دون سائر منابعه خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: " كلوا واشربوا من رزق الله ".
وهذا أيضاً مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام:فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فخر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، الذي لا قرار له في الأرض، ولا سبيل إليه إلا، لمالكيه، يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام.
ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء بالنهي عن السعي في الأرض فسادًا، والعثا فيها استكبارًا، فقال جل ثناؤه لهم: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين ".
القول في تأويل قوله تعالى: " ولا تعثوا في الأرض مفسدين ".
يعني بقوله: "لا تعثوا" لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما:حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين "، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادًا.
حدثنى يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين "، لا تعث، لا تطغ.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين "، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين "، لا تسعوا في الأرض.
وأصل العثا شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. يقال منه: عثي فلان في الأرض إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته يعثى عثا مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: عثا يعثو عثوا. ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من يعثو، ولا أعلم قارئاً يقتدى بقراءته قرأ به. ومن نطق بهذه اللغة مخبرًا عن نفسه قال: عثوت عثو، ومن نطق باللغة الأولى قال: عثيت عثى.
والأخرى منهما: عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا، كل ذلك بمعنى واحد. ومن العيث،قول رؤبة بن العجاج:
وعاث فينا مستحل عائث: مصدق، أو تاجر مقاعث
يعني بقوله: عاث فينا، أفسد فينا.
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى "وإذ استسقى موسى لقومه" كسرت الذال لالتقاء الساكنين . والسين سين السؤال ، مثل : استعلم واستخبر واستنصر ، ونحو ذلك ، أي طلب وسأل السقي لقومه . والعرب تقول : سقيته واسقيته ، لغتان بمعنى ، قال :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقيل : سقيته من سقي الشفة ، وأسقته دللته على الماء .
الثانية :الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر ، وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح . وقد استسقى نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم :
فخرج إلى المصلى متواضعاً متذللاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً وحسبك به ! فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد ، فأنى نسقى ! لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر :
"ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا" الحديث . وسيأتي بكماله إن شاء الله .
الثالثة : سنة الاستقساء الخروج إلى المصلى ـ على الصفة التي ذكرنا ـ والخطبة والصلاة ، وبهذا قال جمهور العلماء . وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج ، وإنما هو دعاء لا غير . واحتج .
بحديث أنس : الصحيح ، أخرجه البخاري و مسلم . ولا حجة له فيه ، فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفى به عما سواه ، ولم يقصد بذلك بيان سنة ، ولما قصد البيان بين بفعله ، حسب ما رواه عبد الله بن زيد المازني قال :
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقسى وحول رداءه ثم صلى ركعتين" رواه مسلم .
وسيأتي من أحكام الاستقساء زيادة في سورة هود إن شاء الله .
الرابعة : قوله تعالى : "فقلنا اضرب بعصاك الحجر" العصا : معروف ، وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو ، قال :
على عصويها سابري مشبرق
والجمع عصي وعصي ، وهو فعول ، وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة ، وأعص أيضاً مثله ، مثل زمن وأزمن . وفي المثل : العصا من العصية أي بعض الأمر من بعض . وقولهم : ـ ألقى عصاه ـ أي أقام وترك الأسفار ، وهو مثل . قال :
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
وفي التنزيل : "وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها" . وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى . قال الفراء : أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي . وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ، ومنه يقال في الخوارج : قد شقوا عصا المسلمين ، أي اجتماعهم وائتلافهم . وانشقت العصا ، أي رفع الخلاف ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
أي يكفيك ويكفي الضحاك . وقولهم : لا ترفع عصاك من أهلك ، يراد به الأدب . والله أعلم .
والحجر معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار ، وفي الكثير حجار وحجارة ، والحجارة نادر . وهو كقولنا : جمل وجمالة ، وذكر وذكارة ، كذا قال ابن فارس و الجوهري .
قلت : وفي القرآن "فهي كالحجارة" . "وإن من الحجارة" . "قل كونوا حجارة" . "ترميهم بحجارة" . "وأمطرنا عليهم حجارة" فكيف يكون نادراً ، إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح . والله أعلم .
قوله تعالى : "فانفجرت" في الكلام حذف ، تقديره فضرب فانفجرت . وقد كان تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب ، لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد ، وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد . والانفجار : الانشقاق ، ومنه انشق الفجر . وانفجر الماء انفجاراً : انفتح . والفجرة : موضع تفجر الماء . والانبجاس أضيق من الانفجار ، لأنه يكن ابنجاساً ثم يصير انفجاراً . وقيل : انبجس وتبجس وتفتق ، بمعنى واحد ، حكاه الهروي وغيره .
الخامسة : قوله تعالى : "اثنتا عشرة عينا" اثنتا في موضع رفع بـ انفجرت وعلامة الرفع فيها الألف . وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبداً لصحة معناها . عينا نصب على البيان . وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى عشرة بكسر الشين ، وهي لغة بني تميم ، وهذا من لغتهم نادر ، لأن سبيلهم التخفيف . ولغة أهل الحجاز عشرة وسبيلهم التثقيل . قال جميعه النحاس . والعين من الأسماء المشتركة ، يقال : عين الماء ، وعين الإنسان ، وعين الركبة ، وعين الشمس . والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة . والعين مطر يدوم خمساً أو ستاً لا يقلع . وبلد قليل العين : أي قليل الناس . وما بها عين ، محركة الياء . والعين : الثقب في المزادة . والعين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان ، لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان . وقيل : لما كان عين الحيوان اشرف ما فيه شبهت به عين الماء ، لأنها أشرف ما في الأرض .
السادسة : لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجراً ، قيل : مربعاً ( من الطور ) على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم . وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا أعظم في الآية والإعجاز . وقيل : إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الإعجاز وقيل : إن الله تعالى أمره أن يضرب حجراً بعينه بينه لموسى عليه السلام ، ولذلك ذكر بلفظ التعريف . قال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل ، وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه . قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجراً منفصلاً مربعاً ، تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى ، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون .
قلت : ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ، ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، يخرج الماء من بين لحم ودم ! . روى الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات " عن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول : حي على الطهور " . قال الأعمش : فحدثني سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : ألفا وخمسمائة لفظ النسائي .
السابعة : قوله تعالى : "قد علم كل أناس مشربهم" يعني أن لكل سبط منهم عيناً قد عرفها لا يشرب من غيرها . والمشرب : موضع الشرب . وقيل : المشروب . والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب ، وهم ذرية الأثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام ، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها . قال عطاء : كان للحجر أربعة أوجه ، يخرج من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم . وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم . قال عطاء : كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولاً ثم يسيل .
الثامنة : قوله تعالى : "كلوا واشربوا" في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى ، واشربوا الماء المتفجر من الحرج المنفصل . "ولا تعثوا" أي لا تفسدوا . والعيث : شدة الفساد ، نهاهم عن ذلك . يقال : عثي يعثى عثياً ، وعثا يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثاً وعيوثاً ومعاثاً ، والأول لغة القرآن . ويقال : عث يعث في المضاعف : أفسد ، ومنه العثة ، وهي السوسة التي تلحس الصوف . و "مفسدين" حال ، وتكرر المعنى تأكيداً لاختلاف اللفظ . وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها ، والتقدم في المعاصي والنهي عنها .
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من إثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني اسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا، وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقال الزمخشري وقيل كان من الرخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار ، قال: وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس، فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم، وقال يحيى بن النضر : قلت لجويبر : كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين، وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً، وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل لهم. وأما في هذه السورة ـ وهي البقرة ـ فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم،. وأخبر هناك بقوله: "فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً" وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار ههنا وذاك هناك، والله أعلم، وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب. والله أعلم.
الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر. ومعناه في اللغة: طلب السقيا. وفي الشراع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفته من الصلاة والدعاء. والحجر يحتمل أن يكون حجراً معيناً فتكون اللام للعهد، ويحتمل أن لا يكون معيناً فتكون للجنس، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة. وقوله: 60- "فانفجرت" الفاء مترتبة على محذوف تقديره فضرب فانفجرت، والانفجار: الانشقاق، وانفجر الماء انفجاراً تفتح، والفجرة: موضع تفتح الماء. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجراً مربعاً يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون، وإذا استغنوا عن الماء جفت. والمشرب: موضع الشرب، وقيل: هو المشروب نفسه. وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم. قيل: كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها، والأسباط ذرية الاثنى عشر من أولاد يعقوب. وقوله: "كلوا" أي قلنا لهم: كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر. وعثا يعثي عثياً، وعثا يعثو عثواً، وعاث يعيث عيثاً، لغات: بمعنى أفسد. وقوله: "مفسدين" حال مؤكدة. قال في القاموس: عثى كرمى، وسعى ورضى، عثياً وعثياناً، وعثا يعثو عثواً: أفسد: وقال في الكشاف: العثي أشد الفساد. فقيل لهم: لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم، لأنهم كانوا متمادين فيه انتهى.
60. " وإذ استسقى موسى " طلب السقيا " لقومه " وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال: " فقلنا اضرب بعصاك " وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً، واسمها عليق حملها، آدم عليه السلام من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب عليه السلام فأعطاها موسى عليه السلام.
قال مقاتل : اسم العصا بنعته. قوله تعالى " الحجر " اختلفوا فيه قال وهب : لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان من عرض الحجارة فينفجر عيوناً لكل سبط عين، وكانوا اثنى عشر سبطاً ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وقال الآخرون: كان حجراً معيناً بدليل أنه عرف بالألف واللام، قال ابن عباس: كان حجراً خفيفاً مربعاً على قدر رأس الرجل كان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه، وقال عطاء : كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل: كان الحجر رخاماً، وقيل: كان من الكذان فيه اثنتا عشرة حفرة، ينبع من كل حفرة عين ماء عذب، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء، وكان يسقس كل يوم ستمائة ألف، وقال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل ففر بثوبه ومر به على ملأ من بني اسرائيل حين رموه بالأدرة فلما أتاه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول: ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مخلاته، قال عطاء : كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة ثم يتفجر الأنهار، ثم تسيل. وأكثر أهل التفسير يقولون: انبجست وانفجرت واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: انبجست وانفجرت، أي: سالت، فذلك قوله تعالى: " فانفجرت " أي فضرب فانفجرت أي سالت منه " اثنتا عشرة عيناً " على عدد الأسباط " قد علم كل أناس مشربهم " موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه " كلوا واشربوا من رزق الله " أي وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " والعبث: أشد الفساد يقال عثى يعثي عيثاً، وعثا يعثو عثواً وعاث يعيث عيثاً.
60-" وإذ استسقى موسى لقومه " لما عطشوا في التيه .
" فقلنا اضرب بعصاك الحجر " اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً حمله معه ، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط ، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً ، أو حجراً أهبطه آدم من الجنة ، ووقع إلى شعيب عليه اللام فأعطاه لموسى مع العصا ، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة ، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله ، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة . قيل لم يأمره بأن يضرب حجراً بعينه ، ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها ؟ حمل حجراً في مخلاته ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويضربه بها إذا ارتحل فيبس ، فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعمك لعلهم يعتبرون . وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعاً في ذراع ، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة .
" فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت ، أو فضرب فانفجرت ، كما مر في قوله تعالى : " فتاب عليكم " . وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه .
" قد علم كل أناس " كل سبط " مشربهم " عينهم التي يشربون منها . " كلوا واشربوا " على تقدير القول :
" من رزق الله " يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون . وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به . " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " لا تعتدوا حال إفسادكم ، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حساً ، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه ، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك .
60. And when Moses asked for water for his people, We said: Smite with thy staff the rock. And there gushed out therefrom twelve springs (so that) each tribe knew their drinking place. Eat and drink of that which Allah hath provided, and do not act corruptly, making mischief in the earth.
60 - And remember Moses prayed for water for his people; we said: strike the rock with thy staff. then gushed forth therefrom twelve springs. each group knew its own place for water. so eat and drink of the sustenance provided by God, and do no evil nor mischief on the (face of the) earth.