(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام) أي نوع منه (واحد) وهو المن والسلوى (فادع لنا ربك يخرج لنا) شيئا (مما تنبت الأرض من) للبيان (بقلها وقثائها وفومها) حنطتها (وعدسها وبصلها قال) لهم موسى (أتستبدلون الذي هو أدنى) أخس (بالذي هو خير) أشرف أتأخذونه بدله ، والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا الله تعالى (اهبطوا) انزلوا (مصرا) من الأمصار (فإن لكم) فيه (ما سألتم) من النبات (وضربت) جعلت (عليهم الذلة) الذل والهوان (والمسكنة) أي أثر الفقر من السكون والخزي فهي لازمة لهم ، وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته (وباؤوا) رجعوا (بغضب من الله ذلك) أي الضرب والغضب (بأنهم) أي بسبب أنهم (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين) كزكريا ويحيى (بغير الحق) أي ظلما (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) يتجاوزون الحد في المعاصي وكرره للتأكيد
قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآية إذا: واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد وذلك الطعام الواحد، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النقي مع اللحم فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى.
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا، ما:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد" قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشاً كان لهم بمصر، فسألوه موسى. فقال الله تعالى: "اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لن نصبر على طعام واحد"، قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا: "ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها" الآية.
حدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد"، قال: كان طعامهم السلوى وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم: " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ".
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا:"ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها"، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشاً كانوا فيه بمصر.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: "لن نصبر على طعام واحد"، المن والسلوى، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدبمثله سواء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بمثله.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:أعطوا في التيه ما أعطوا، فملوا ذلك وقالوا: "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها".
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدًا، وشرابهم واحدًا. كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره. فقالوا: "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها"، فقرأ حتى بلغ: "اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ".
وإنما قال جل ذكره: "يخرج لنا مما تنبت الأرض " ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض، فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها لأن من تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها، فاكتفي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلومًا بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام ، يريد شيئًا منه.
وقد قال بعضهم: من ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط. كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد على ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد بمعنى: ما رأيت أحدًا، وبقول الله: "ويكفر عنكم من سيئاتكم" ( البقرة: 271)، وبقولهم: قد كان من حديث، فخل عني حتى أذهب ، يريدون: قد كان حديث.
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون من بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام، وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم.
فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها.
والبقل والقثاء والعدس والبصل ، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها.
وأما الفوم، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز. ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الفوم، الخبز.
حدثني أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد قوله: "وفومها"، قالا: خبزها.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وفومها"، قال: الخبز.
حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي تختبزه الناس.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن، بمثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: "وفومها" قال: الحنطة.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: "وفومها"، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمروبن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن وحصين، عن أبي مالك في قوله: "وفومها"، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال لي عطاء بن أبي رباح: قوله: "وفومها"، قال: خبزها، قالها مجاهد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "وفومها" يقول: الحنطة والخبز.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: "وفومها" قال: هو البر بعينه، الحنطة.
حدثنا علي بن الحسن قال، ثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: "وفومها" قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيزبن منصور،كن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: "وفومها"، قال: الحنطة، أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصًا واحدًا ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك :حدثني أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد قال: هو هذا الثوم.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،عن الربيع قال: الفوم، الثوم.
وهو في بعض القراآت وثومها.
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعًا فوما من اللغة القديمة. حكى سماعًا من أهل هذه اللغة: فوموا لنا، بمعنى: اختبزوا لنا.
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: ثومها بالثاء. فإن كان ذلك صحيحًا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر، وعافور شر وكقولهم للأثافي: أثاثي، وللمغافير: مغاثير، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. والمغافير شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى: " قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير".
يعني بقوله: "قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرًا وقيمة وقدرًا من العيش، بدلاً بالذي هو خير منه خطرًا وقيمة وقدرًا؟ وذلك كان استبد الهم.
وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.
ومعنى قوله: أدنى أخس وأوضع وأصغر قدرًا وخطرًا. وأصله من قولهم: هذا رجل دني بين الدناءة وإنه ليدني في الأمور بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعًا منهم، يقولون: ما كنت دانئاً، ولقد دنأت ، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى:
باسلة الوقع سرابيلها بيض إلى دانئها الظاهر
بهمز الدانىء، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانىء خبيث بالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحًا، فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى.
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه.
وقد تأول بعضهم قوله: الذي هو أدنى بمعنى: الذي هو أقرب. ووجه قوله: أدنى، إلى أنه أفعل من الدنو، الذي هو بمعنى القرب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: "الذي هو أدنى" قاله عدد من أهل التأويل في تأويله. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهدقوله: "الذي هو أدنى"، قال: أردأ.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ("اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم".
وتأويل ذلك: فدعا موسى فاستجبنا له، فقلنا لهم: "اهبطوا مصرا"، وهو من المحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه.
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان، إنما هو النزول إليه والحلول به.
فتأويل الآية إذا: "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها"، قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: "اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ".
ثم اختلف القرأة في قراءة قوله: "مصرا" فقرأه عامة القرأة مصرا بتنوين المصر وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرًا من الأمصار، لا مصرا بعينه. فتأويله على قراءتهم: اهبطوا مصرًا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده: "اهبطوا مصرا"، البلدة التي تعرف بهذه الاسم، وهي مصر التي خرجوا عنها. غير أنه أجراها ونونها اتباعًا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفاً ثابتة في مصر، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ "قواريرا * قوارير من فضة" ( الإنسان: 15، 16) منونة، اتباعًا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينون مصرفإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القرأة في قراءته.
فحدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: "اهبطوا مصرا"، أي مصرًا من الأمصار، "فإن لكم ما سألتم ".
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "اهبطوا مصرا" من الأمصار، "فإن لكم ما سألتم ". فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول.
حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: "اهبطوا مصرا" قال: يعني مصرًا من الأمصار.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "اهبطوا مصرا" قال: مصرًا من الأمصار. زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "اهبطوا مصرا"، قال: مصرًا من الأمصار. ومصر لا تجرى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" ( المائدة: 21).
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "اهبطوا مصرا"، قال: يعني به مصر فرعون.
حدثت عن عماربن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "اهبطوا مصرا"، مصراً من الأمصاردون مصر فرعون بعينها: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر. وإنما ابتلاهم بالتيه، بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ( المائدة: 21- 24)، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشأم، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ:،اهبطوا مصر، ونتأوله أنه ردهم إليها.
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: "فأخرجناهم من جنات وعيون* وكنوز ومقام كريم* كذلك وأورثناها بني إسرائيل " ( الشعراء: 57- 59).
قيل له: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم.
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: "اهبطوا مصر" مصر، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: ("فأخرجناهم من جنات وعيون* وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل" ( الشعراء: 57- 159) وقوله: "كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم* ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين" ( الدخان: 25-28)، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: اهبطوا مصر بغير ألف. قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها.
قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك، أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارًا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار مصر وجائز أن يكون الشأم .
فأما القراءة، فإنها بالألف والتنوين: "اهبطوا مصرا". وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القرأة على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، فيما جاءت به من القراءة مستفيضاً بينها.
القول في تأويل قوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "وضربت "، أي فرضت ووضعت عليهم الذلة وألزموها. من قول القائل: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة وضرب الرجل على عبده الخراج ، يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير على الجيش البعث ، يراد به: ألزمهموه.
وأما "الذلة" فهي الفعلة من قواط القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة، الصغرة من صغر الأمر، و القعدة من قعد .
و"الذلة" هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال جل وعز: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" ( التوبة: 29 )كما: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: "وضربت عليهم الذلة"، قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وأما "المسكنة" فإنها مصدر المسكين . يقال:ما فيهم أسكن من فلان ، وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن الجرب من يقول: تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع كسمكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "والمسكنة " قال: الفاقة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة "، قال: الفقر.
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة"، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر؟ قال وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسًا، وبالرضا عنهم غضبًا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلمًا منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافاً عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: " وباءوا بغضب من الله ".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "وباءوا بغضب من الله "، انصرفوا ورجعوا. ولا يقال "وباءوا " إلا موصولاً: إما بخير، وإما بشر. يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوأ وبواء. ومنه قول الله عز وجل: " إني أريد أن تبوء بإثمي " ( المائدة: 29)، يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني.
فمعنى الكلام إذا ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط. كما:حدثت عن عماربن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " وباءوا بغضب من الله " فحدث عليهم غضب من الله.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "وباءوا بغضب من الله " قال: استحقوا الغضب من الله.
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق"
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "ذلك "، ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله "ذلك " وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل: "ذلك "، يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
ويعني بقوله: "بأنهم كانوا يكفرون "، من أجل أنهم كانوا يكفرون. يقول: فعلنا بهم من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم "كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق "، كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكية جاورت بالحجا ز قومًا عداةً وأرضًا شطيرا
بما قد تربع روض القطا وروض التناضب، حتى تصيرا
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قومًا عداة وأرضًا بعيدةً من أهله لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب.
فكذلك قوله: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله"، يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاءً لهم بقتلهم أنبياءنا.
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات الله حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله.
فمعنى الكلام إذًا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
ويعني بقوله: "ويقتلون النبيين بغير الحق": ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه.
وهم جماع، واحدهم نبي،غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن الله فهو ينبىء عنه إنباء، وإنما الاسم منه، منبىء، ولكنه صرف وهو مفعل إلى فعيل، كما صرف سميع إلى فعيل من مسمع، وبصير من مبصر، وأشباه ذلك. وأبدل مكان الهمزة من النبيء الياء، فقيل: نبي. هذا ويجمع النبي أيضًا على أنبياء، وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم النبيء، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو. وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو، جمعوه على أفعلاء كقولهم: ولي وأولياء، و وصي وأوصياء، ودعي وأدعياء. ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله، وعلى أن الواحد نبيء مهموز، لجمعوه على فعلاء، فقيل لهم النبآء، على مثال النبهاء، لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم: الشريك شركاء، والعليم علماء، والحكيم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعًا من العرب في جمع النبي النبآء، وذلك من لغة الذين يهمزون النبيء، ثم يجمعونه على النبآء على ما قد بينت. ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا خاتم النبآء إنك مرسل بالخير، كل هدى السبيل هداكا
فقال: يا خاتم النبآء، على أن واحدهم نبيء مهموز. وقد قال بعضهم:النبي والنبوة، غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النبوة، وهي مثل النجوة، وهو المكان المرتفع، وكان يقول: إن أصل النبي الطريق، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لما وردن نبيا واستتب بها مسحنفر كخطوط السيح منسحل
يقول: إنما سمى الطريق نبيًا، لأنه ظاهر مستبين، من النبوة. ويقول: لم أسمع أحدًا يهمز النبي. قال: وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
ويعنى بقوله: "ويقتلون النبيين بغير الحق"، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
وقوله: "ذلك"، رد على "ذلك" الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير الحق، من أجل عصيانهم ربهم واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. "ذلك بما عصوا"، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
و الاعتداء، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره، وكل متجاوز حد شيء إلى غيره، فقد تعداه إلى ما جاوز إليه.
ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
قوله تعالى : "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد" كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر . قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس ، فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد . وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، فلذلك قالوا : طعام واحد . وقيل : لتكرارهما في كل يوم غذاء ، كما تقول لمن يدوام على الصوم والصلاة والقراءة : هو على أمر واحد ، لملازمته لذلك . وقيل :المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض ، لاستغناء كل واحد منه بنفسه . وكذلك كانوا ، فهم أول من اتخذ العبيد والخدم .
قوله تعالى : "على طعام" الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب ، قال الله تعالى : "ومن لم يطعمه فإنه مني" وقال : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" أي ما شربوه من الخمر ، على ما يأتي بيانه . وإن كان السلوى العسل ـ كما حكى المؤرج ـ فهو مشروب أيضاً . وربما خص بالطعام البر والتمر ، كما في حديث أبي سعيد الخدري قال :
"كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير" ، الحديث . والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام ، فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب . والطعم ( بالفتح ) : هو ما يؤديه الذوق ، يقال : طعمه مر . والطعم أيضاً : ما يشتهى منه يقال : ليس له طعم . وما فلان بذي طعم : إذا كان عثا . والطعم (بالضم ) : الطعام ، قال أبو خراش :
أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم
واغتبق الماء القراح فانتهى إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام ، وبالثاني ما يشتهى منه . وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا اكل وذاق ، ومنه قوله تعالى : "ومن لم يطعمه فإنه مني" أي من لم يذقه . وقال : "فإذا طعمتم فانتشروا" أي أكلتم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم :
"إنها طعام طعم وشفاء سقم" . واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه . وفي الحديث :
"إذا استطعمكم الإمام فأطعموه" . يقول : إذا استفتح فافتحوا عليه . وفلان ما يطعم النوم إلا قائماً . وقال الشاعر :
نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما
قوله تعالى : "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت" لغة بني عامر فادع بكسر العين لالتقاء الساكنين ، يجزون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف . و يخرج مجزوم على معنى سله وقل له : اخرج ، يخرج . وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام ، وضعفه الزجاج . و من ، في قوله مما زائدة في قول الأخفش إلى هذا لأنه زائدة في قول سيبويه ، لأن الكلام موجب . قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولاً لـ يخرج فأراد أن يجعل ما مفعولاً . والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولاً . فـ من الأول على هذا للتبعيض ، والثانية للتخصيص . و "من بقلها" بدل من ما بإعادة الحرف . "وقثائها" عطف عليه ، وكذا ما بعده ، فاعلمه . والبقل معروف ، وهو كل نبات ليس له ساق . والشجر: ما له ساق . والقثاء أيضاً معروف ، وقد تضم قافه ، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف ، لغتان والكسر أكثر . وقيل في جمع قثاء : قثائي ، مثل علباء وعلابي ، إلا أن قثاء من ذوات الواو ، تقول : أقثأت القوم ، أي أطعمتهم ذلك .
وفثأت القدر سكنت غليانها بالماء ، قال الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
وفثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه . وعدا حتى أفثأ ، أي أعيا وانبهر . وأفثأ الحر أي سكن وفتر . ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم : إن الرثيئة تفثأ في الغضب . وأصله أن رجلاً كان غضب على قوم وكان مع غضبه جائعاً ، فسقوه رثيئة فسكن غصبه وكف عنهم . الرثيئة : اللبن المحلوب على الحامض ليخثر . رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر ، والاسم الرثيئة . واتثأ اللبن خثر .
وروى ابن ماجة حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن ابيه " عن عائشة قالت : كانت أمي تعالجني للسمنة ، تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة " . وهذا إسناد صحيح .
قوله تعالى : "وفومها" اختلف في الفوم ، فقيل : هو الثوم ، لأنه المشاكل للبصل . رواه جويبر عن الضحاك . والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا : مغافير ومغاثير . وجدث وجدف ، للقبر . وقرأ ابن مسعود ثومها بالثاء المثلثة ، وروي ذلك عن ابن عباس . وقال امية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل
الفراديس : واحدها فرديس . وكرم مفردس ، أي معرش ، وقال حسان :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل ، وهو قول الكسائي والنضر بن شميل . وقيل : الفوم الحنطة ، روي عن ابن عباس أيضاً وأكثر المفسرين ، واختاره النحاس ، قال : وهو أولى ، ومن قال به أعلى ، وأسانيده صحاح ، وليس جويبر بنظير لروايته ، وإن كان الكسائي و الفراء قد اختار القول الأول ، لإبدال العرب الفاء من الثاء ، والإبدال لا يقاس عليه ، وليس ذلك بكثير في كلام العرب . وأنشد ابن عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة ، قول أحيحة بن الجلاح :
قد كانت أغنى الناس شخصاً واجداً ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاماً لا بر فيه ، والبر أصل الغذاء ! . وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة . وأنشد الأخفش :
قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم
وقا ابن دريد : الفومة السنبلة ، وأنشد :
وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان
والهاء في كفه غير مشبعة . وقال بعضهم : الفوم : الحمص ، لغة شامية . وبائعه فامي ، مغير عن فومي ، لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري . ويقال : فوموا لنا ، أي اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة . وقال عطاء و قتادة : الفوم كل حب يختبز .
مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول . فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك . وذهبت طائفة من أهل الظاهر ـ القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضاً ـ إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من اتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به . واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز وجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث . ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال : قربوها ـ إلى بعض أصحابه كان معه ـ فلما رآه كره أكلها ، قال : كل فإني أناجي من لا تناجي" . أخرجه مسلم و أبو داود . فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره . وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابي أيوب :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل . ففزع وصعد إليه فقال :أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :لا ولكني أكرهه . قال : فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى " . ( يعني يأتيه الوحي ) . فهذا نص على عدم التحريم . وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها" . فهذه الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك . لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال :
"من أكل من هذه البقلة الثوم ـ وقال مرة : من أكل البصل والثوم والكراث ـ فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتاذى منه بنو آدم" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول :
إنكم أيها الناس ، تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم . ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً . خرجه مسلم .
قوله تعالى : "وفومها وعدسها" العدس معروف . والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت : وعدس :زجر للبغال ، قال :
عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضاً ، يقال: عدسة . وعدس في الأرض : ذهب فيها . وعدست إليه المنية أي سارت ، قال الكميث :
أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوساً إلي وعادسا
أي يسار إلي بالليل . وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري . ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال :
"عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عيسى ابن مريم" ، ذكره الثعلبي وغيره . وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوماً خبزاً بزيت ، ويوماً بلحم ، بعدس . قال الحليمي: والعدس والزيت طعام الصالحين ، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية . وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم . والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة . وقد " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم . لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل" .
قوله تعالى : "قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" الاستبدال :وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم . و أدنى مأخوذ ـ عند الزجاج ـ من الدنو أي القرب في القيمة ، ومن قولهم :ثوب مقارب ، أي قليل الثمن . وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنىء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته . وقيل : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفاً لتطرفها . وقرىء في الشواذ ادنأ . ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير .
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة :
الأول :أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج .
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاماً من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة امر الله وشكر نعمته وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل ، كان أدنى في هذا الوجه .
الثالث : لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة .
الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، كان أدنى .
الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبة ، كانت أدنى من هذا الوجه .
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ،ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في المائدة و النحل إن شاء الله مستوفى .
قوله تعالى : "اهبطوا مصرا" تقدم معنى الهبوط ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : "قل كونوا حجارة أو حديدا" . لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم . وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه . و مصرا بالتنوين منكراً قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف . قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصراً من الأمصار غير معين . وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : اهبطوا مصرا قال : مصراً من هذه الأمصار . وقالت طائفة ممن صرفها أيضاً : اراد مصر فرعون بعينها . استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه . واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها . قال الأخفش و الكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد :
لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب
فجمع بين اللغتين . و سيبويه و الخليل و الفراء لا يجيزون هذا ، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف . وقال غير الأخفش : أراد الكمال فصرف . وقر الحسن وأبان بن تغلب وطلحة : مصر بترك الصرف . وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب وقراءة ابن مسعود . وقالوا : هي مصر فرعون . قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ، ذكره ابن عطية . والمصر أصله في اللغة الحد . ومصر الدار : حدودها . قال ابن فارس ويقال : إن أهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى فلان الدار بمصورها أي حدودها ، قال عدي :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
قوله تعالى : "فإن لكم ما سألتم" ما نصب بإن .وقرأ ابن وثاب و النخعي سألتم بكسر السين ، يقال :سألت وسلت بغير همز . وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان . ومعنى "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" أي ألزموهما وقضي عليهم بهما ، مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جرير :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد ، أي حمل وألزم . والذلة : الذل والصغار . والمسكنة : الفقر . فلا يوجد يهودي وإن كان غنياً خالياً من زي الفقر وخضوعه ومهانته . وقيل :الذلة فرض الجزية ، عن الحسن و قتادة : والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون ، أي قلل الفقر حركته ، قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة : الذلة الصغار . والمسكنة مصدر المسكين . وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس : "عليهم الذلة والمسكنة وباءو" قال : هم أصحاب القبالات .
قوله تعالى : "وباءو" أي انقلبوا ورجعوا ، أي لزمهم ذلك . ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته :
أبوء بنعمتك علي أي أقر بها وألزمها نفسي . وأصله في اللغة الرجوع ، يقال باء بكذا ، أي رجع به . وباء إلى المباءة ـ وهي المنزل ـ أي رجع . والبواء : الرجوع بالقود . وهم في هذا الأمر بواء ، أي سواء ، يرجعون فيه إلى معنى واحد . وقال الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤو الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود . وقال :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
أي رجعوا ورجعنا . وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة .
قوله تعالى : "ذلك" تعليل . "بأنهم كانوا يكفرون" أي يكذبون "بآيات الله" أي بكتابه ومعجزات أنبيائه ، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام : "ويقتلون النبيين" معطوف على يكفرون . وروي عن الحسن يقتلون وعنه أيضاً كالجماعة . وقرأ نافع النبيئين بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : "إن وهبت نفسها للنبي إن أراد" . "لا تدخلوا بيوت النبي إلا" فإنه قرأ بلا مد ولا همز . وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين . وترك الهمز في جميع ذلك الباقون . فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء . ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبي نبآء ، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
يا خاتم النبآء إن مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكا
هذا معنى قراءة الهمز . واختلف القائلون بترك الهمز ، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز ، ثم سهل الهمز . ومنهم من قال : هو مشتق من نبأ ينبو إذا ظهر . فالنبي من النبوة وهو الإرتفاع ، فمنزلة النبي رفيعة . والنبي بترك الهمز أيضاً الطريق ، فسمي الرسول نبياً لاهتداء الخلق به كالطريق ، قال الشاعر :
لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثب
رتمت الشيء : كسرته ، يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعاً . والرتم أيضاً المرتوم أي المكسور . والكاتب اسم جبل . فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض . و" يروى أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبي الله ، وهمز . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لست بنبيء الله ـ وهمز ـ ولكني نبي الله" ولم يهمز . قال أبو علي : ضغف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح :
يا خاتم النبآء... ولم يؤثر في ذلك إنكار
قوله تعالى : "بغير الحق" تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه .
فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به . قيل له : ليس كذلك ، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق ، فكان هذا تعظيماً للشنعة عليهم ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن يقتل على الحق ، فصرح قوله : "بغير الحق" عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم .
قال ابن عباس و الحسن : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
قوله تعالى : "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ذلك رد على الأول وتأكيد لإشارة إليه . والباء في بما باء السبب . قال الأخفش : أي بعصيانهم . والعصيان : خلاف الطاعة . واعتصمت النواة إذا اشتدت . والاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء ، وعرف في الظلم والمعاصي .
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم فقالوا: "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها" وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد: فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناه، فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصروي عن يونس، عن الحسن، في قوله: "وفومها" قال: قال ابن عباس: الثوم، قال وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا، قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم. وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبانا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس: سئل عن قول الله: "وفومها" مافومها ؟ قال الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشيد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: "وفومها" قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة، وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء "وفومها" قالا: وخبزها، وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك "وفومها" قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وغيرهم، فالله أعلم، وقال الجوهري: الفوم: الحنطة، وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى: "قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع، وقوله تعالى: "اهبطوا مصراً" هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك. وقال ابن عباس "اهبطوا مصراً" قال: مصر من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك، وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود "اهبطوا مصر" من غير إجراء، يعني من غير صرف ثم روي عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً قال وابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: " قواريرا * قوارير " ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟ وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم" أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
يقول تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً أي لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك، عن ابن عباس: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" قال: هم أصحاب النيالات يعني الجزية. وقال عبد الرزاق، عن معمر ، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة" قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: وضربت عليه الذلة، قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، وقال الضحاك: الجزية، وقوله تعالى: " وباءوا بغضب من الله " قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير: " وباءوا بغضب من الله " يقول: استوجبوا سخطاً، وقال ابن جرير: يعني بقوله: " وباءوا بغضب من الله " انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط . وقوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق" يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال: "لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر، أو قال: سفه الحق وغمط الناس" يعني رد الحق، وانتقاص الناس، والازدراء بهم، والتعاظم عليهم، ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الاخرة جزاء وفاقاً، قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين" وقوله تعالى: "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
قوله: 61- "لن نصبر على طعام واحد" تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب والعيش المستلذ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش:
إن الشقي بالشقاء مولع لا يملك الرد له له إذا أتى
ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه، ونظراً لما صاروا إليه من العيشة الرافهة، بل هو باب من تعنتهم، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهيجراهم في غالب ما قص علينا من أخبارهم. وقال الحسن البصري: إنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم: أي أصلهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: "لن نصبر على طعام واحد" والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحداً. وقيل: لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما. ومن في قوله: "مما تنبت" تخرج. قال الأخفش زائدة، وخالفه سيبويه لكونهما لا تزاد في الكلام الموجب. قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولاً ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولاً، والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سياق الكلام: أي تخرج لنا مأكولاً. وقوله: "من بقلها" بدل من ما بإعادة الحرف، والبقل: كل نبات ليس له ساق، والشجر: ما له ساق. قال في الكشاف: البقل ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى. والقثاء بكسر القاف وفتحها. والأولى قراءة الجمهور. والثانية قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وهو معروف. والفوم: قيل: هو الثوم، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء. وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل: الفوم الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين، كما قال القرطبي. وقد رجح هذا ابن النحاس. وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وممن قال بهذا الزجاج والأخفش، وأنشد:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد ترك المدينة عن زراعة فوم
وقال بالقول الأول الكسائي والنضر بن شميل، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومات والبصل
أي الثوم، وقال حسان:
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل، وقيل: الفوم: السنبلة، وقيل: الحمص، وقيل: الفوم كل حب يخبز. والعدس والبصل معروفان. والاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر "وأدنى" قال الزجاج: إنه مأخوذ من الدنو: أي القرب والمراد: أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المن والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله، وقوله: "اهبطوا مصراً" أي انزلوا، وقد تقدم معنى الهبوط. وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر، وقيل: إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه، فهو مثل قوله تعالى: "كونوا حجارة أو حديداً"، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الوسط، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين، وبه قال الأخفش والكسائي. وقال الخليل وسيبويه: إن ذلك لا يجوز وقالا: إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصراً من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة، وهو خلاف الظاهر. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة بن مصرف بترك التنوين، وهو كذلك في مصحف أبي وابن مسعود. ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاءً مستمراً لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً:
ضربت عليك العنكبوت بوزنها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وهو ضرب من الهجاء بليغ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة، ومنه قول الشاعر:
إن المروءة والشجاعة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أقماهم الله [أذل] الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بالغ في الكثرة أي مبلغ، فهو متظاهر بالفقر مترد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من [التجرؤ] على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه. ومعنى "باءوا" رجعوا، يقال باء بكذا: أي رجع به، وباء إلى المباءة: أي رجع إلى المنزل، والبواء: الرجوع، ويقال: هم في هذا الأمر بواء: أي سواء: يرجعون فيه إلى معنى واحد، وباء فلان بفلان: إذا كان حقيقياً بأن يقبل به لمساواته له، ومنه قول الشاعر:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محاربنا لا يبوء الدم بالدم
والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله، أو صاروا أحقاء بغضبه، وقد تقدم تفسير الغضب. والإشارة بقوله: "وذلك" إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال: إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر. ويمكن أن يقال أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا كما كان من شعيبا وزكريا يحيى، فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون. وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سبباً لسبب وهو بعيد جداً. والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " وإذ استسقى موسى لقومه " قال: ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عيناً من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تعثوا في الأرض" قال: لا تسعوا في الأرض فساداً. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: يعني ولا تمشوا بالمعاصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: لا تسيروا في الأرض مفسدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: " لن نصبر على طعام واحد " قال: المن والسلوى استبدلوا به البقل وما حكى معه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وفومها" قال: الخبز، وفي لفظ: البر، وفي لفظ: الحنطة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الفوم الثوم. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ وثومها وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال: قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود هذا أحدها من بقلها وقثائها وثومها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "الذي هو أدنى" قال: أردأ. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "اهبطوا مصراً" قال: مصراً من الأمصار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أنه مصر فرعون. وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وضربت عليهم الذلة" قال: هم أصحاب الجزية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن قال: ضربت عليهم الذلة والمسكنة: أي يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: المسكنة الفاقة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وباءوا بغضب من الله" قال: استحقوا الغضب من الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وباءوا" قال: انقلبوا. وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.
61. قوله تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد " وذلك أنهم أجمعوا وسئموا من اكل المن والسلوى، وإنما قال " على طعام واحد " وهما اثنان لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين، كقوله تعالى/ " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " (22-الرحمن) وإنما يخرج من المالح دون العذب وقيل: كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم: كانوا يعجنون المن بالسلوى فيصيران واحداً " فادع لنا " فاسأل لأجلنا " ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها " قال ابن عباس: والفوم الخبز: وقال عطاء ، الحنطة وقال القتيبي رحمه الله تعالى: الحبوب التي تؤكل كلها وقال الكلبي : " وعدسها وبصلها قال " لهم موسى عليه السلام " أتستبدلون الذي هو أدنى " أخس وأردى " بالذي هو خير " أشرف وأفضل وجعل الحنطة أدنى في القيمة وإن كان هو خيراً من المن والسلوى، أو أراد أنها أسهل وجوداً على العادة، ويجوز أن يكون الخير راجعاً إلى اختيار الله لهم واختيارهم لأنفسهم " اهبطوا مصراً " يعنى: فإن أبيتم إلا ذلك فانزلوا مصراً من الأمصار، وقال الضحاك : هو مصر موسى وفرعون، والأول أصح، لأنه لأنه لو أراده لم يصرفه " فإن لكم ما سألتم " من نبات الأرض " وضربت عليهم " جعلت عليهم وألزموا " الذلة " الذل والهوان قيل: بالجزية، وقال عطاء بن السائب : هو الكستيج والزنار وزي اليهودية " والمسكنة " الفقر، سمي الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء، وقيل: الذلة هي فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود.
" وباءوا بغضب من الله " رجعوا ولا يقال: (( باؤوا إلا بشر )) وقال أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدعاء: أبوء (لك) بنعمتك علي وأبوء بذنبي، أقر" ذلك " أي الغضب " بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن " ويقتلون النبيين " تفرد نافع بهمز النبي وبابه، فيكون معناه المخبرمن أنبأ ينبيء ونبأ ينبئ، والقراءة المعروفة ترك الهمزة، وله وجهان: أحدهما هو أيضاً من الإنباء، تركت الهمزة فيه تخفيفاً لكثرة الاستعمال، والثاني هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع، فعلى هذا يكون النبيين على الأصل " بغير الحق " أي بلا جرم فإن قيل: فلم قال: بغير الحق وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ قيل ذكره وصفاً للقتل، والقتل تارة يوصف بغير الحق وهو مثل قوله تعالى: " قال رب احكم بالحق " (112-الأنبياء) ذكر الحق وصفاً للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق، ويروى أن اليهود قتلت سبعين نبياً في أول النهار وقامت سوق بقتلهم في آخر النهار " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
61-" وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد " يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى . وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا يتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوا . " فادع لنا ربك " سله لنا بدعائك إياه " يخرج لنا " يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة . " مما تنبت الأرض " من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض . " من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار . والبقل ما أنبته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ قثائها بالضم ، وهو لغة فيه . " قال " أي الله ، أو موسى عليه السلام .
" أتستبدلون الذي هو أدنى " أقرب منزلة وأدون قدراً . وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ أدنأ من الدناءة . " بالذي هو خير " يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي . " اهبطوا مصر " انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود . وقيل أصله مصراتهم فعرب . " فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة " أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة . واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم . " وباءوا بغضب من الله " رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من ياء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة . " ذلك " إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب . " بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق " بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر . أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل ، والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين . فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها . وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للإختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
الذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .
61. And when ye said: O Moses! We are weary of one kind of food; so call upon thy Lord for us that he bring forth for us of that which the earth groweth of its herbs and its cucumbers and its corn and its lentils and its onions. He said: Would ye exchange that which is higher for that which is lower? Go down to settled country, thus ye shall get that which ye demand. And humiliation and wretchedness were stamped upon them and they were visited with wrath from Allah. That was because they disbelieved in Allah's revelations and slew the prophets wrongfully. That was for their disobedience and transgression.
61 - And remember ye said: O Moses! we cannot endure one kind of food (always); so kind of food (always); so beseech thy Lord for us to produce for us of what the earth groweth, its pot herbs, and cucumbers, its garlic, lentils, and onions. he said: will ye exchange the better for the worse? go ye down to any town, and ye shall find what ye want! they were covered with humiliation and misery; they drew on themselves the wrath of God this because they went on rejecting the signs of God and salying his messengers without just cause. this because they rebelled and went on transgressing.