(فمن حاجك) جادلك من النصارى (فيه من بعد ما جاءك من العلم) بأمره (فقل) لهم (تعالَوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) فنجمعهم (ثم نبتهل) نتضرع في الدعاء (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) بأن نقول: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى وقد دعا صلى الله عليه وسلم وفد نجران لذلك لما حاجوه به فقالوا: حتى ننظر في أمرنا ثم نأتيك فقال ذو رأيهم: لقد عرفتم نبوته وأنه ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا فوادعوا الرجل وانصرفوا فأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقد خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي وقال لهم: إذا دعوت فأمِّنوا فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية رواه أبو نُعيم ، وعن ابن عباس قال: لو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا ، وروي: لو خرجوا لاحترقوا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فمن حاجك فيه"، فمن جادلك ، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم.
والهاء في قوله: "فيه"، عائدة على ذكر عيسى . وجائز أن تكون عائدة على "الحق" الذي قال تعالى ذكره: "الحق من ربك".
ويعني بقوله: "من بعد ما جاءك من العلم"، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله، "فقل تعالوا"، هلموا فلندع ، "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل"، يقول: ثم نلتعن.
يقال في الكلام : ما له؟ بهله الله أي : لعنه الله، وما له؟ عليه بهلة الله، يريد اللعن ، وقال لبيد، وذكر قوماً هلكوا فقال:
نظر الدهر إليهم فابتهل
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
"فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، منا ومنكم في أنه عيسى، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي : في عيسى : أنه عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، "فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، إلى قوله : "على الكاذبين".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره ، وكيف كان أمره ، "فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، الآية.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أييه ، عن الربيع قوله: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، يقول : من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: "ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، قال : منا ومنكم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، "عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني!" من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى قوله تعالى : " فمن حاجك فيه " أي جادلك وخاصمك يا محمد فيه ، أي في عيسى من بعد ما جاءك من العلم بأنه عبد الله ورسوله . فقل تعالوا أي أقبلوا . وضع لمن له دلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وسيأتي له مزيد بيان في الأنعام . ندع في موضع جزم . أبنائنا دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء ، وذلك :
أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفهما وهو يقول لهم : إن أن دعوت فأمموا وهو معنى قوله ثم نبتهل أي نتضرع في الدعاء ، عن ابن عباس . أبو عبيدة والكسائي : نلتعن . وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره . قال لبيد :
في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل
أي اجتهد في إهلاكهم . يقال : بهله الله أي لعنه . والبهل اللعن . والبهل الماء القليل . وأبهلته إذا خليته وإرادته . وبهلته أيضا . وحكى أبو عبيدة : بهله الله يبهله بهلة أي لعنه . قال ابن عباس : هم أهل نجران : السيد والعاقل وابن الحارث رؤساؤهم . فنجعل لعنة الله على الكاذبين .
الثانية : هذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل ، وقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ، فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام .
الثالثة : قال كثير من العلماء : إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل ندع أبناءنا وأبناءكم وقوله في الحسن :
أن ابني هذا سيد مخصوص بالحسن والحسين أن يسمياه ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما ، لقوله عليه السلام : " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي " ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ، وهو قول الشافعي . وسيأتي لهذا مزيد بيان في الأنعام والزخرف إن شاء الله تعالى .
يقول جل وعلا: "إن مثل عيسى عند الله" في قدرة الله حيث خلقه من غير أب "كمثل آدم" حيث خلقه من غير أب ولا أم بل "خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فالذي خلق آدم من غير أب, قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى, وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب, فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى, ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل, فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً, ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر, كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى, ولهذا قال تعالى في سورة مريم "ولنجعله آية للناس" وقال ههنا: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين" أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه, وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " أي نحضرهم في حال المباهلة "ثم نبتهل" أي نلتعن "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" أي منا أو منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران, أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية, فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم, قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكباً, فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح, والسيد وهو الأيهم, و أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل , وأويس بن الحارث, وزيد, وقيس, ويزيد ونبيه, وخويلد, وعمرو, وخالد, وعبد الله, ويحنس , وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب, وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم, والذي لا يصدرون إلا عن رأيه, والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم, و أبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم, وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل, ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه, وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم, وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها, قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير , قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر, عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب , قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم: وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فصلوا إلى المشرق, قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة , و العاقب عبد المسيح , و السيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هو ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وكذلك قول النصرانية, فهم يحتجون في قولهم هو الله, بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام, ويخبر بالغيوب, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً, وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس, ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم, وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله, ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت, ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً ـ وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن, فلما كلمه الحبران, قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما قالا: قد أسلمنا, قال: إنكما لم تسلما فأسلما . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما, فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك, فقالوا: يا أبا القاسم, دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه, ثم انصرفوا عنه, ثم خلوا بالعاقب, وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل, ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط, فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم, فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم, فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا, فإنكم عندنا رضا, قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظهر مهجراً, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم ثم نظر عن يمينه وشماله, فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه, فقال :اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة , عن محمود بن لبيد , عن رافع بن خديج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر نحوه, إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر, وذكر بقيته بأطول من هذا السياق, وزيادات أخر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين , حدثنا يحيى بن آدم , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن صلة بن زفر , عن حذيفة رضي الله عنه, قال: " جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه, قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً, فقال : لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة, عن حذيفة , بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق , عن صلة , عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد , عن أبي قلابة , عن أنس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, " قال لكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح " وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد , حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال: قال أبو جهل قبحه الله, إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاتينه حتى أطأ على رقبته, قال: فقال لو فعل لأخذته الملائكة عياناً, ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار, ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً , وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق , عن معمر , عن عبد الكريم به, وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جداً, ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة, وفيه غرابة, وفيه مناسبة لهذا المقام, قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل , قالا: حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب , حدثنا أحمد بن عبد الجبار , حدثنا يونس بن بكير , عن سلمة بن عبد يسوع , عن أبيه , عن جده , قال يونس ـ وكان نصرانياً فأسلم ـ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب, من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم, فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد, وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب, والسلام". فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به, وذعره ذعراً شديداً, وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة , وكان من همدان, ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب, فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه, فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة, فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل, ليس لي في أمر النبوة رأي, ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك, فقال الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى شرحبيل فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل , وهو من ذي أصبح من حمير, فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل , فقال له الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى عبد الله فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس, فأقرأه الكتاب, وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله, فأمره الأسقف, فتنحى فجلس ناحية, فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً, أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, ورفعت النيران والمسوح في الصوامع, وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار, وإذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع, فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح, أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع, وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل, فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسألهم عن الرأي فيه, فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي , فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم, ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب, ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه, فلم يرد عليهم, وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً, فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب, فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف , وكانا معرفة لهم, فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس, فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن , إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له, فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا, وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً, فأعيانا أن يكلمنا, فما الرأي منكما, أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم, ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه, ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم, ثم قال "والذي بعثني بالحق, لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم . ثم سألهم سألوة, فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى, فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى, يسرنا إن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي فيه شيء يومي هذا, فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الاية " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فأبوا أن يقروا بذلك, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر, أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له, وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة, وله يومئذ عدة نسوة, فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي, وإني والله أرى أمراً ثقيلاً, والله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعناً في عينيه ورداً عليه أمره, لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة, وإنا لأدنى العرب منهم جواراً, ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه, لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك, فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال: أرى أن أحكمه, فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً, فقالا: له: أنت وذاك, قال: فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو ؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح, فمهما حكمت فينا فهو جائز, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل وراءك أحداً يثرب عليك ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي, فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه, فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم, وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة, في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة" وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع, لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح, وهي قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الاية, وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي , حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي , عن جابر , قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب, فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة, قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين, ثم أرسل إليهما, فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي بعثني بالحق لو قالا: لا, لأمطر عليهم الوادي ناراً" قال جابر , وفيهم نزلت "ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" قال جابر "أنفسنا وأنفسكم" رسول الله صلى الله عليه وسلم و علي بن أبي طالب " أبناءنا " الحسن والحسين "ونساءنا" فاطمة . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى , عن أحمد بن محمد الأزهري , عن علي بن حجر , عن علي بن مسهر , عن داود بن أبي هند به بمعناه, ثم قال: صحيح على شرط مسلم , ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي , عن شعبة , عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً, وهذا أصح, وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك, ثم قال الله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق" أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد " وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا " أي عن هذا إلى غيره "فإن الله عليم بالمفسدين" أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به, وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.
قوله 61- "فمن حاجك فيه" هذا وإن كان عاماً فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير فيه لعيسى، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه، وهو الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة والمجادلة. وقوله "تعالوا" أي: هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر. قوله "ندع أبناءنا" إلخ اكتفي بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما سيأتي. قوله: "نبتهل" أصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، يقال بهله الله: أي لعنه، والبهل اللعن. قال أبو عبيد والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد:
في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل
أي: فاجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً. قوله "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" عطف على نبتهل مبين لمعناه.
61-قوله عز وجل:" فمن حاجك فيه" أي جادلك في عيسى أو في الحق " من بعد ما جاءك من العلم" بأن عيسى عبد الله ورسوله " فقل تعالوا" وأصله تعالوا تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، قال الفراء: بمعنى تعال كأنه يقول: ارتفع . قوله " ندع" جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم سقوط الواد" أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" قيل: أبناءنا اراد الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة . وانفسنا عنى نفسه وعلياً رضي الله عنه والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه، كما قال الله تعالى :" ولا تلمزوا أنفسكم"(11- الحجرات) يريد اخوانكم وقيل هو على العموم الجماعة أهل الدين "ثم نبتهل" قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي نتضرع في الدعاء ، وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الدعاء وقال الكسائي وابو عبيدة :نلتعن والابتهال، الالتعان يقال: عليه بهلة الله أي لعنته: "فنجعل لعنة الله على الكاذبين " منا ومنكم في امر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم الى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : ياعبد المسيح ماترى ؟ قال: والله لقد عرفتكم يامعشر النصارى أن محمداً نبي مرسل، والله مالا عن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم :إذا أنا دعوت فآمنوا فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله ان يزيل جبلاً من مكانه لزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني الى يوم القيامة ، فقالوا يا أبا القاسم : قد رأينا أن لا نلاعنك وان نتركك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا فقال: فإني أنابذكم فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر وألفاً في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا.
61" فمن حاجك " من النصارى. "فيه" في عيسى. "من بعد ما جاءك من العلم" أي من البينات الموجبة للعلم. "فقل تعالوا" هلموا بالرأي والعزم. "ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم. "ثم نبتهل" أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا. والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" عطف فيه بيان روي "أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم- ما ترى فقال: والله لقد عرفتم نبوته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعاً من حديد، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم عليهم الوادي ناراً، ولأستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر". وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته.
61. And whoso disputeth with thee concerning him, after the knowledge which hath come unto thee, say (unto him): Come! We will summon our sons and your sons, and our women and your women, and ourselves and yourselves, then we will pray humbly (to our Lord) and (solemnly) invoke the curse of Allah upon those who lie.
61 - If any one disputes in this matter with thee, now after (full) knowledge hath come to thee, say: come let us gather together, our sons and your sons, our women and your women, ourselves and yourselves: then let us earnestly pray, and invoke the curse of God on those who lie