(إن الذين آمنوا) بالأنبياء من قبل (والذين هادوا) هم اليهود (والنصارى والصابئين) طائفة من اليهود أو النصارى (من آمن) منهم (بالله واليوم الآخر) في زمن نبينا (وعمل صالحا) بشريعته (فلهم أجرهم) أي ثواب أعمالهم (عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) روعي في ضمير آمن وعمل لفظ من وفيما بعد معناها
قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا ك أخرج ابن أبي حاتم والعدني في مسنده من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قال سلمان سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية وأخرج الواحدي من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد قال لما قص سلمان على رسول الله قصة أصحابه
قال هم في النار قال سلمان فأظلمت علي الأرض فنزلت إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله يحزنون قال فكأنما كشف عني جبل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي
قال أبو جعفر: أما "الذين آمنوا"، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله. وإيمانهم بذلك، تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا.
وأما "الذين هادوا"، فهم اليهود. ومعنى: "هادوا"، تابوا. يقال منه: هاد القوم يهودون هودًا وهادة. وقيل: إنما سميت اليهود يهود، من أجل قولهم: "إنا هدنا إليك" (الأعراف: 156).
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: "إنا هدنا إليك" (الأعراف: 156).
القول في تأويل قوله عز وجل: "والنصارى".
قال أبو جعفر: و"النصارى" جمع، واحدهم نصران، كما واحد السكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على فعلان فإن جمعه على فعالى. إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد "النصارى" نصراني. وقد حكي عنهم سماعًا نصران بطرح الياء، ومنه قول الشاعر:
تراه إذا زار العشي محنفًا ويضحي لديه وهو نصران شامس
وسمع منهم في الأنثى:نصرانة، قال الشاعر:
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
يقال: أسجد، إذا مال. وقد سمع في جمعهم أنصار، بمعنى النصارى. قال الشاعر:
لما رأيت نبطًا أنصارا شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا نصارى لنصرة بعضهم بعضًا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا نصارى، من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"النصارى"، إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة.
ويقول آخرون لقوله: "من أنصاري إلى الله" (الصف: 14).
وقد ذكر ابن عباس من طريق غير مرتضى، أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى الناصري.
حدثت بذلك عن هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم، فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "الذين قالوا إنا نصارى" (المائدة 22) قال: تسموا بقرية يقال لها ناصرة، كان عيسى ابن مريم ينزلها.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره:"والصابئين".
قال أبو جعفر: و الصابئون جمع صابىء، وهو المستحدث سوى دينه دينًا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: صابئًا. يقال منه: صبأ فلان يصبأ صبأ. ويقال:صبأت النجوم: إذا طلعت. وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا، يعني به: طلع.
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعًا، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الحجاج بن أرطأة، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الحسن مثل ذلك.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح: "الصابئين" بين اليهود والمجوس، لا دين لهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال قال ابن جريج: قال مجاهد: "الصابئين" بين المجوس واليهود، لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: "الصابئين "، زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: قد صبأ.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: "والصابئين" قال: الصابئون، أهل، دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم.
وقال آخرون هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال حدثني زياد: أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "والصابئين" قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يصلون إلى القبلة، ويقرأون الزبور.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضًا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرأون الزبور، ويصلون إلى القبلة.
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "من آمن بالله واليوم الآخر"، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحًا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: "فلهم أجرهم عند ربهم "، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين"؟
قيل: تمامه جملة قوله: "من آمن بالله واليوم الآخر". لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟
قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟
قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به، حتى أدرك محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد وبما جاء به واليوم الآخر، ويعمل صالحا، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال: "فلهم أجرهم عند ربهم"، وإنما لفظ من لفظ واحد، والفعل معه موحد؟
قيل:من، وإن كان الذي يليه من الفعل موحد، فإن له معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل وإن كان في معنى جمع للفظه، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه، كما قال جل ثناؤه: "ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون" (يونس: 42- 43). فجمع مرة مع من الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد، كما قال الشاعر:
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما، وقولا لها: عوجي على من تخلفوا
فقال: تخلفوا، وجعل من بمنزلة الذين، وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فثنى يصطحبان لمعنى من. فكذلك قوله: "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم"، وحد "آمن وعمل صالحا" للفظ من، وجمع ذكرهم في قوله: "فلهم أجرهم "، لمعناه، لأنه في معنى جمع.
وأما قوله: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .
فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
ذكر من قال: عني بقوله: "من آمن بالله "، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول صلى الله عليه وسلم:
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جنديسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقًا له مؤاخيًا، لا يقضي واحد منهما أمرًا دون صاحبه، وكانا يركبان إلى الصيد جميعًا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء، فأتياه، فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما. فنزلا إليه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.
فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه، حتى كان عيد للملك، فجعل طعاماً، ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه، وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلاً. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين، فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلاً نعبد الله فيها، فأتونا فيها.
فخرج الراهب، وبقي سلمان وابن الملك، فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو رب البيعة. وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان، فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز: فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.
ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي، وأنا أحق الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا، بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى، فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس، فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يومًا حزيناً، فقال له الشيخ: مالك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعًا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره، فأخذ بيده فرفع، فضرب به الأرض، ودعا له وقال: قم بإذن الله فقام صحيحًا يشتد. فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.
ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصرمة هذا! فحمله فانطلق به إلى المدينة.
قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة، فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم، هذا يوماً وهذا يومًا. فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يومًا يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه، فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك.
فهبط سلمان إلى المدينة. فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف مما يريد، فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه، فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزاً، ثم أتاه به. فقال: ما هذا؟ قال سلمان: هذه صدقة. قال: لا حاجة لي بها، فأخرجها فليأكلها المسلمون. ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزًا ولحمًا، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد أفكل،. فقعد فأكلا جميعًا منها. فبينا هو يحدثه، إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك. فأنزل الله هذه الآية: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر".
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدًا منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية، قال: سأل سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الأرض، وذكرت اجتهادهم، فنزلت هذه الآية: "إن الذين آمنوا والذين هادوا". فدعا سلمان فقال: نزلت هذه الآية في أصحابك. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهوعلى خير؟ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك.
وقال ابن عباس بما:حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين " إلى قوله: "ولا هم يحزنون ". فأنزل الله تعالى بعد هذا "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران: 85).
وهذا الخبريدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحًا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله، في الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه".
فتأويل الآية إذاً، على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجرعلى العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: "من آمن بالله واليوم الآخر"، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "إن الذين آمنوا" أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال سفيان : المراد المنافقون . كأنه قال : الذين آمنوا في ظاهر أمرهم ، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم .
الثانية : قوله تعالى : "والذين هادوا" معناه صاروا يهوداً ، ونسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام ، فقلبت العرب الذال دالاً ، لأن الأعجمية إذا عربت غيرت عن لفظها . وقيل : سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل . هاد : تاب . والهائد : التائب ، قال الشاعر :
إني امرؤ من حبه هائد
أي تائب . وفي التنزيل : "إنا هدنا إليك" أي تبنا . وهاد القوم يهودون هوداً وهيادة إذا تابوا . وقال ابن عرفة : "هدنا إليك" أي سكنا إلى أمرك . والهوادة السكون والموادعة . قال : ومنه قوله تعالى : "إن الذين آمنوا والذين هادوا" . وقرأ أبو السمال : هادوا بفتح الدال .
الثالثة : قوله تعالى : "والنصارى" جمع ، واحده نصراني . وقيل : نصران بإسقاط الياء ، وهذا قول سيبويه . والأنثى نصرانة ، كندمان وندمانة . وهو نكرة يعرف بالألف واللام ، قال الشاعر :
صدت كما صد عما لا يحل له ساقي نصارى قبيل الفصح صوام
فوصفه بالنكرة . وقال الخليل : واحد النصارى نصري ، كمهري ومهارى . وأنشد سيبويه شاهداً على قوله :
تراه إذا دار العشا متحنفا ويضحى لديه وهو نصران شامس
وأنشد :
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما أسجدت نرانة لم تحنف
يقال : اسجد إذا مال . ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب ، لأنهم قالوا : رجل نصراني وامرأة نصرانية . ونصره : جعله نصرانياً . وفي الحديث :
"فأبواه يهودانه أو ينصرانه" . وقال عليه السلام :
"لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" . وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النصرانيون . ثم قيل : سموا بذلك لقرية تسمى ناصرة كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب اصحابه إليه قيل النصارى ، قاله ابن عباس و قتادة . وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة . وقيل : سموا لذلك لنصرة بعضهم بعضاً ، قال الشاعر :
لما رأيت نبطا أنصارا شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
وقيل : سموا بذلك لقوله : "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" .
الرابعة : قوله تعالى : "والصابئين" جمع صابىء ، وقيل: صاب ، ولذلك اختلفوا في همزه ، وهمزه الجمهور إلا نافعاً . فمن همزه جعلة من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت . ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال . فالصابىء في اللغة . من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ . فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب .
الخامسة : لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم ـ على ما يأتي بيانه في المائدة ـ وضرب الجزية عليهم ، على ما يأتي في سورة براءة إن شاء الله . واختلف في الصابئين ، فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقاله إسحاق بن راهوية . قال ابن المنذر وقال إسحاق : لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب . وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم . وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا ان قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام . وقال مجاهد و الحسن و ابن أبي نجيح : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم . ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . وقال الحسن أيضاً و قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرأون الزبور ويصلون الخمس ، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة . والذي تحصل من مذهبهم ـ فيما ذكره بعض علمائنا ـ أنهم موحدون معتقودون تأثير النجوم وأنها فعالة ، لهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم .
السادسة :قوله تعالى : "من آمن" أي صدق . و من في قوله : من آمن في موضع نصب بدل من "الذين" . والفاء في قوله فلهم داخلة بسبب الإبهام الذي في من . و "فلهم أجرهم" ابتداء وخبر في موضع خبر إن . ويحسن أن يكون "من" في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط . و "آمن" في موضع جزم بالشرط ، والفاء الجواب . و "فلهم أجرهم" خبر من ، والجملة كلها خبر "إن" ، والعائد على "الذين" محذوف ، تقديره من آمن منهم بالله . وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث .
السابعة : إن قال قائل : لم جمع الضمير في قوله تعالى : "فلهم أجرهم" و آمن لفظ مفرد ليس بجمع ، وإنما كان يستقيم لو قال : له أجره . فالجواب أن من يقع على الواحد والتثنية والجمع ، فجائز أن يرجع الضمير مفرداً ومثنى ومجموعاً ، قال الله تعالى : "ومنهم من يستمعون إليك" على المعنى . وقال "ومنهم من يستمع إليك" على اللفظ . وقال الشاعر :
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها عوجي على من تخلفوا
وقال الفرزدق :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فحمل على المعنى ، ولو حمل على اللفظ لقال : يصطحب ، وتخلف . وقال تعالى : "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات" فحمل على اللفظ . ثم قال: "خالدين" فحمل على المعنى ، ولو راعى اللفظ لقال : خالداً فيها . وإذا جرى ما بعد من على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية . وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام . وقد مضى الكلام في قوله تعالى "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" . والحمد لله .
الثامنة : روي عن ابن عباس أن قوله : "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية . منسوخ بقوله تعالى : "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه" الآية . وقال غيره : ليست بمنسوخة وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام .
لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر " إلى آخر الاية، وقال السدي " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا " الاية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم يا سلمان هم من أهل النار، فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الاية وفكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كان من تمسك بالتوارة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً وإيمان النصارى أن من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً. قال ابن أبي حاتم، وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر " الاية ـ قال ـ فأنزل الله بعد ذلك " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوارة في زمانهم. واليهود من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة، كقول موسى عليه السلام "إنا هدنا إليك" أي تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً، كما قال عيسى عليه السلام "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم. والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة نصرانة وقال الشاعر:
* نصرانة لم تحذف*
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الاتية، وأماالصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى وليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء ، جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحم ومناكحتهم، وقال هشيم، عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس فقال الحكم، ألم أخبركم بذلك، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية، قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة، وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوماً، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفراً، وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم، يعني في قول لا إله إلا الله، وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن نجيح، أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنها فاعلة، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم وأظهر الأقوال والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذلك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.
قيل المراد بالذين آمنوا المنافقين، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين: أي آمنوا في الظاهر. والأولى أن يقال: إن المراد الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى ئيء واحد، وهو أن آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كله والأجر دقه وجله. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بينه رسول الله من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره" ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً. وقوله: 62- "هادوا" معناه صاروا يهوداً، قيل: هو نسبة لهم إلى يهوا بن يعقوب بالذال المعجمة فقلبتها العرب دالاً مهملة، وقيل: معنى هادوا: تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل، ومنه قوله تعالى: "إنا هدنا إليك" أي تبنا-وقيل: إن معناه السكون والموادعة. وقال في الكشاف: إن معناه دخل في اليهودية. والنصارى قال سيبويه: مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة، وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر:
تراه إذا زار العشا متخففاً ويضحى لديه وهو نصران شامس
وقال الآخر:
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
قال: ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب فيقال: رجل نصراني وامرأة نصرانية. وقال الخليل: واحد النصارى نصري. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى، ويقال: ناصرة، وعلى هذا فالياء للنسب. وقال في الكشاف: إن الياء للمبالغة كالتي في أحمري، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح. والصابين جمع صابي- وقيل: صاب. وقد اختلف فيه القراء فهمزوه جميعاً لإلا نافعاً، فمن همزة جعله من صبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام: إذا خرجت. ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو: إذا مال، والصابىء في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ، وسموا هذه الفرقة صابئة، لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة. وقوله: "من آمن بالله" في موضع نصب بدلا من الذين آمنوا وما بعده وقد تقدم معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله " فلهم أجرهم " ويجوز أن يكون قوله " من آمن بالله " في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله: فلهم أجرهم وهما جميعاً خبر إن، والعائد مقدر في الجملة الأولى: أي من آمن منهم ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقد تقدم تفسير قوله تعالى: "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في ذكر السبب بنخو ما سبق، وحكى قصة طويلة. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" قال: فأنزل الله بعد هذا "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: "إنا هدنا إليك". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: نحن أعلم من أين سميت اليهود باليهودية من كلمة موسى عليه السلام "إنا هدنا إليك" ولم تسمت النصارى بالنصرانية؟ من كلمة عيسى عليه السلام "كونوا أنصار الله" وأخرج أبو الشيخ نحوه عنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة: إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن جرير عن ابن عباس قال: إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصابئون فرقة بين اليهود والنصارى والمجوس ليس لهم دين. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: قال ابن عباس: فذكر نحوه. وقد روي في تفسير الصابئين غير هذا.
62. " إن الذين آمنوا والذين هادوا " يعني اليهود سموا به لقولهم: إنا هدنا إليك أي ملنا إليك، وقيل: لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل، وقيل: لأنهم مالوا عن دين الإسلام، وعن دين موسى عليه السلام، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون: إن السموات والآرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة " والنصارى " سموا به لقول الحواريين: نحن أنصار الله، وقال مقاتل : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة، لآعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها بعيسى عليه السلام.
" والصابئين " قرأ أهل المدينة: والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة، وأصله: الخروج، يقال: صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر، وصبأت النجوم إذا خرجت من مطاعها، وصبأ ناب البعير إذا خرج، فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين، قال عمر وابن عباس: هم قوم من أهل الكتاب، قال عمر رضي الله عنه: ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب، وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم، وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس، وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم، وقال قتادة : قوم يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، ويصلون إلى الكعبة ويقرون بالله تعالى، أخذوا من كل دين شيئاً، قال عبد العزيز بن يحيى : انقرضوا.
" من آمن بالله واليوم الآخر " فإن قيل: كيف يستقيم قوله ( من آمن بالله ) وقد ذكر في ابتداء الآية (إن الذين آمنوا)؟ قيل: اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم: أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم: هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السني، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبحيرا الراهب، ووفد النجاشي، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم (وبايعه)،ن ومنهم من لم يدركه. وقيل: هم المؤمنون من الأمم الماضية، وقيل: هم المؤمنين من هذه الأمة (والذين هادوا) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام، ولم يبدلوا، والنصارى، الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك، قالوا: وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق، كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والصابئون زمن استقامة أمرهم " من آمن " أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة، ويجوز أن يكون الواو مضمراً أي: ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة، وقال بعضهم: إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة، ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم: الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل: أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التبديل والصابئون بعض أصناف الكفار " من آمن بالله واليوم الآخر " من هذه الأصناف بالقلب واللسان " وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم " وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث " ولا خوف عليهم " في الدنيا " ولا هم يحزنون " في الآخرة.
62-" إن الذين آمنوا " بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة " والذين هادوا " تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام " والنصارى " جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها . " والصابئين " قوم بين النصارى والمجوس . وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام . وقيل هم عبدة الملائكة . وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربياً فمن صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل .
" من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً " من كان في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملاً بمقتضى شرعه . وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ، ودخل في الإسلام دخولاً صادقاً : " فلهم أجرهم عند ربهم " الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم . " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب . و " من " مبتدأ خبره " فلهم أجرهم " والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها " فلهم أجرهم " والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم " .
62. Lo! those who believe (in that which is revealed unto thee, Muhammad), and those who are Jews, and Christians, and Sabaeans whoever believeth in Allah and the Last Day and doeth right surely their reward is with their Lord, and there shall no fear come upon them neither shall they grieve.
62 - Those who believe (in the Quran), and those who follow the Jewish (scriptures), and the Christians and the Sabians, any who believe in God and the last day, and work righteousness, shall have their reward with their Lord: on them shall be no fear, nor shall they grieve.